الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفصل في صحة العضوية البرلمانية بين دستوري 1971 و2014

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لما كان حق الترشح لعضوية المجالس النيابية من أهم الحقوق السياسية التي تكفلها الدساتير للمواطنين، وكان عضو المجلس النيابي يجب أن يأتي معبرًا عن إرادة الشعب، فإن الأمر يقتضي أن يكون الوصول لهذه العضوية بناء على أحقية، وذلك حتى نضمن عدم احتلال مقعد البرلمان ممن لا يمثل هذه الإرادة، وقد أدركت دساتير وقوانين الدول المختلفة هذا الأمر، من خلال وضع القواعد التي تكفل سرعة الفصل في المنازعات التي تتعلق بصحة عضوية البرلمان.
وقد اختلفت تشريعات الدول ودساتيرها في تحديد الجهة المختصة بالفصل في المنازعات المتعلقة بصحة هذه العضوية، ويمكن تصنيفها إلى اتجاهين أساسيين، الأول: يمنح الفصل في صحة العضوية للبرلمان نفسه، والثاني: يجعل ذلك من اختصاص القضاء.
وقد كان دستور 1971 يتبنى اتجاهًا وسطًا، وذلك من خلال إسناد سلطة التحقيق في صحة الانتخابات للسلطة القضائية ممثلة في محكمة النقض، ويكون الفصل بعد ذلك من اختصاص البرلمان ذاته؛ فقد نصت المادة (93) على أن: «يختص المجلس بالفصل في صحة عضوية أعضائه، وتختص محكمة النقض بالتحقيق في صحة الطعون المقدمة إلى المجلس بعد إحالتها إليها من رئيسه، ويجب إحالة الطعن إلى محكمة النقض خلال خمسة عشر يومًا من تاريخ علم المجلس به، ويجب الانتهاء من التحقيق خلال تسعين يومًا من تاريخ إحالته إلى محكمة النقض. وتعرض نتيجة التحقيق والرأي الذي انتهت إليه المحكمة على المجلس للفصل في صحة الطعن خلال ستين يومًا من تاريخ عرض نتيجة التحقيق على المجلس. ولا تعتبر العضوية باطلة إلا بقرار يصدر بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس».
من استقراء هذا النص يتضح أن دور محكمة النقض كان يقتصر على مجرد إجراء التحقيق المطلوب من جانب مجلس الشعب، وإخطار هذا المجلس بنتيجة التحقيق، والذي يكون له وحده سلطة البت النهائي في صحة عضوية أعضائه؛ أي أن المحكمة تقوم بدور المحقق في حين أن المجلس يقوم بدور القاضي.
وهذا الاتجاه الذي تبناه دستور 1971 كان محلًّا للنقد، وذلك للأسباب الآتية:
(1) كان ينبغي أن يتبنى مجلس الشعب الرأي الذي تنتهي إليه محكمة النقض؛ نظرًا لما يتمتع به التحقيق الذي تجريه هذه المحكمة من نزاهة وحيدة وخبرة في تقصي الحقائق، هذا فضلًا عن أن تبني رأي محكمة النقض ـ والذي يعد بمثابة حكم ـ في هذا الصدد، يُمثِّل احترامًا وإعلاءً لمبدأ سيادة القانون، إلا أن الواقع العملي كان يجري على خلاف ذلك من خلال منح السلطة المطلقة لمجلس الشعب في الفصل في صحة عضوية أعضائه، دون أن يكون للرأي الذي انتهت إليه المحكمة في التحقيق أي إلزام للمجلس، وقد ابتُدع في هذا الصدد مبدأ شهير، وهو أن المجلس سيد قراره، الأمر الذي يجعل من المجلس خصمًا وحكمًا في آن واحد، وهذا فضلًا عن مخالفته لمبادئ العدالة، فإنه كان له أثر سلبي على الحياة البرلمانية.
(2) أثبت الواقع العملي في الدول التي تسند للبرلمان سلطة الفصل صحة العضوية، أن البرلمانات تُغلِّب الاعتبارات السياسية على الاعتبارات القانونية، وهو ما يعني أن قرارات المجلس في هذا الأمر دائمًا ما تحابي العضو التابع للحزب الغالب، مما يجعل من المستحيل إبطال عضوية أي نائب تابع لهذا الحزب، ويصبح إسناد الاختصاص للبرلمان بمثابة سلاح للتخلص من الأعضاء التابعين للمعارضة السياسية.
(3) كذلك لا يمكن الاحتجاج في هذا الخصوص بمبدأ الفصل بين السلطات؛ ذاك أن مبدأ الفصل بين السلطات لا يعني عزل كل سلطة عن الأخرى بصورة تامة، وإنما يعني اختصاص كل سلطة بوظيفة محددة، مع إقامة نوع من التعاون والرقابة المتبادلة، حتى نضمن التزام كل سلطة بالحدود المرسومة لها.
وإذا كان صحيحًا ما يقال من أن اختصاص القضاء بالفصل في طعون صحة العضوية يهدر استقلال السلطة التشريعية، فلماذا لا نسمع مثل هذا الاعتراض بالنسبة لرقابة القضاء على دستورية القوانين؟!
(4) كما أن الاحتجاج بفكرة سيادة البرلمان احتجاج غير سديد، فمع التسليم بفكرة السيادة إلا أنه يتعين التفرقة بين صاحب السيادة ومن يمثله، فالسيادة للشعب، والبرلمان لا يتجاوز دوره تمثيل صاحب السيادة.
• كل ذلك دفع أغلب الفقه إلى القول بضرورة إسناد الفصل في صحة العضوية للقضاء وليس للبرلمان، وقد استجابت لذلك العديد من الأنظمة القانونية في العالم، ومنها المشرع الدستوري الفرنسي، حيث إنه بعد أن كان في الدساتير السابقة على دستور 1958 يسند إلى البرلمان سلطة الفصل في صحة العضوية ويعتبره بمثابة قاضي انتخابات، عاد وعدل عن ذلك في الدستور الحالي لعام 1958، وذلك بنصه في المادة (59): «يفصل المجلس الدستوري ـ عند المنازعة ـ في قانونية انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية وأعضاء مجلس الشيوخ»، وقد نظم الفصل السادس من القانون الصادر في 7 نوفمبر 1958 إجراءات الطعون الانتخابية أمام المجلس الدستوري.
وأما في مصر على الرغم من كثرة التعديلات التي أُجريت على دستور 1971؛ فقد ظل المشرع الدستوري متمسكًا بموقفه في إسناد سلطة الفصل في صحة العضوية للبرلمان.
كل ذلك حتى جاء الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011 وأسند الفصل في صحة عضوية البرلمان لمحكمة النقض (مادة 40)، وقد تبنى دستور 2012 النهج ذاته في المادة (87)، وهو ذاته نص المادة (107) من دستور 2014 التي تقول: «تختص محكمة النقض بالفصل في صحة عضوية أعضاء مجلس النواب، وتقدم إليها الطعون خلال مدة لا تجاوز ثلاثين يومًا من تاريخ إعلان النتيجة النهائية للانتخاب، وتفصل في الطعن خلال ستين يومًا من تاريخ وروده إليها. وفي حالة الحكم ببطلان العضوية، تبطل من تاريخ إبلاغ المجلس بالحكم».
• ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن النص في إعلان 30 مارس على إسناد الفصل في صحة عضوية البرلمان لمحكمة النقض قد أثار ـ رغم وضوح النص ـ إشكالية مفتعلة عند التطبيق؛ ففي 14 يونيو 2012 أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمًا ببطلان تكوين مجلس الشعب، وبناء على ذلك أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة قرارًا في 15 يونيو 2012، بحل المجلس تنفيذًا لحكم المحكمة.
وبعد أن تولى محمد مرسي رئاسة الجمهورية أصدر قرارًا في 8 يوليو 2012 بسحب قرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة، دعا فيه مجلس الشعب للعودة للانعقاد، وبناء على هذا القرار؛ فقد اجتمع مجلس الشعب بدعوة من رئيسه في جلسة إجرائية في 10 يوليو 2012، وفي هذه الجلسة أكد المجلس على ما يأتي:
(1) أن قرار رئيس الجمهورية لم يتعرَّض لحكم المحكمة الدستورية، وإنما سحب قرار حل المجلس الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
وتناسى مجلس الشعب أن قرار الحل الصادر من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لم يكن سوى قرار تنفيذي لحكم المحكمة الدستورية العليا، وفي ذلك ذكرت المحكمة في حكمها الصادر بالحل: «إن انتخابات مجلس الشعب قد أُجريت بناء على نصوص ثبت عدم دستوريتها، ومؤدى ذلك ولازمه ـ على ما جرى به قضاء هذه المحكمة ـ أن تكوين المجلس بكامله يكون باطلًا منذ انتخابه، بما يترتب عليه زوال وجوده بقوة القانون اعتبارًا من التاريخ المشار إليه، دون حاجة إلى اتخاذ أي إجراء آخر، كأثر للحكم بعدم دستورية النصوص المتقدمة، وإنفاذًا لمقتضى الإلزام والحجية المطلقة للأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية في مواجهة الكافة، وبالنسبة إلى الدولة بسلطاتها المختلفة طبقًا لصريح نص المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا».
(2) أكد المجلس على أنه يعرف حقوقه وواجباته ولا يتدخل في أحكام السلطة القضائية ولا يُعلِّق عليها، وإنما اجتمع كي يناقش كيفية تنفيذ أحكام القضاء.
والتساؤل الذي يفرض نفسه: ما معنى أن المجلس مجتمع كي يناقش كيفية تنفيذ حكم المحكمة ببطلانه؟!
المحكمة قد قضت في حكمها بأن تكوين المجلس باطل بكامله، ويترتب على ذلك زوال وجوده بقوة القانون؛ ومن ثم فإن المجلس بعد ذلك الحكم لا أساس له، وإن صدر عنه شيء فهو منعدم وباطل، تطبيقًا للقاعدة القانونية التي تقرر: «ما بني على باطل فهو باطل»، وفي ذلك ذكرت المحكمة الدستورية: «إن دعوة مجلس الشعب لممارسة دوره التشريعي على الرغم من القضاء ببطلان تكوينه منذ انتخابه، يستتبع حتمًا انعدام ما يقرره من قوانين وقرارات وما يتخذه من إجراءات، بما يهدد كيان الدولة المصرية وأمنها القومي، ويعصف بحقوق المواطنين وحرياتهم».
والحكم السابق قد أصدرته المحكمة في اليوم ذاته الذي اجتمع فيه المجلس، أي بتاريخ 10 يوليو 2012، وذلك في منازعة التنفيذ المستعجلة التي تطالب بوقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية بعودة مجلس الشعب إلى الانعقاد.
وفي هذا الحكم انتهت المحكمة إلى وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية رقم 11 لسنة 2012، وأمرت بتنفيذ الحكم بموجب مسودته وبغير إعلان، واعتبرته مجرد عقبة مادية تحول دون تنفيذ الحكم الصادر منها.
(3) ومما أكد عليه المجلس كذلك في جلسته تلك، أن المختص بالفصل في صحة عضوية أعضاء المجلس هي محكمة النقض؛ ولذلك طلب رئيس المجلس من الأعضاء التصويت على إحالة بحث كيفية تطبيق حكم المحكمة الدستورية والفصل في صحة العضوية إلى محكمة النقض، وقد تم التصويت بالموافقة.
والتساؤل الذي يثور: لماذا هذا الخلط بين الفصل في صحة العضوية، ومسألة بطلان تكوين المجلس برمته؟
إن محكمة النقض تختص فقط بالفصل في مدى صحة الأعضاء بالبرلمان كأفراد، ولا شأن لها ببطلان أحكام القانون الذي تم انتخابهم على أساسه أو بطلان تكوين المجلس كأثر من آثار الحكم الصادر من الدستورية؛ ولذلك حينما أُحيل الأمر إلى محكمة النقض قضت بإجماع آراء كافة رؤساء الدوائر بها بعدم اختصاصها.
نخلص من هذا كله إلى أن مجلس النواب لم يعد سيد قراره فيما يتعلق بمسألة صحة عضوية أعضائه من عدمها كما كان الحال في ظل نصوص دستور 1971، وإنما أصبح القول الفصل في ذلك للقضاء متمثلًا في محكمة النقض.