الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يا حجاركم يا مجاركم (1-3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ياحجاركم يامجاركم، عنوان مقدمة كتابى الأول عن حكايات شعبية جمعتها ميدانيا من واحة براك/ الشاطى (جنوب ليبيا)، وأتذكر ساعة أهديت نسخة لشيخ الكتاب والأدباء الليبيين المؤرخ على مصطفى المصراتي، تفاجأ وهو يتمعن في العنوان وبعض الصفحات وقال لي، هذا غير متعارف عليه في استهلال الحكاية، فأجبته ربما في طرابلس لكن مستهل الحكايات في ليبيا متنوع، حسب ما أحاط به من جمعها وأنتبه لذلك، ثم دعوته لحفل توقيع ومحاضرة بالخصوص ألقيها بدار الفنون الليبية، وكعادته متحمسا للمحاولين اجتهادا كان في أول صف الحفل.
ياحجاركم يامجاركم نموذج من نماذج الاستهلال في الحكاية الشعبية الليبية، شارة تنبيهية، وتهيئة نفسية يبثها مالك سلطة الحمى لمستمعيه، طرفان متوازيان انجذابا وتشوقا، ممثلان للقاعدة والقانون (إعلان البدء)، بمجرد الاستئذان بما هو متعارف عليه، فقد كان طقس الروى من الوظائف الحيوية الثابتة لأول عملية تربوية يتلقها الأطفال في مجتمعهم، فدون كل عناصر الثقافة الشعبية، تتميز الحكايات الشعبية كنشاط إبداعى وفن شفاهى بتقليد شعبى مُمارس ومتفق عليه فيما، يُسمى بقعدة الخراف أو الخراريف في أجواء عائلية أسرية، أو قرابية، وقد تتسع لتشمل الجيران، وهى جلسات تخضع لقواعد إبلاغية واتصالية بين طرفين، مُرسل ومُتلقين، راوية ومستمعين، في علاقة ألفه وحميمة تؤسس الراوية لذاكرة وتجدر لقيم مجتمعها، مسرحها الليل، إذا يحظر في النهار (اللى يخرف في النهار بوه حمار)، والحيوان هنا ليس انتقاصا بقدر ما يحضر كأكثر الحيوانات قربا واستعمالا وعونا في أغلب ما ينشغل به جهدا وقضاء حوائج، أهل الواحة في يومياتهم، أما استبعاد النهار فكأن الجماعة التى قسمت زمنها اليومى (النهار والليل)، تدلل على توافقها مع واقعها وخلقها للتوازن الحياتي، فالنهار للعمل والكد ولا فراغ فيه ليُملأ، فيما مثل الليل المتنفس الوحيد للاجتماع وللانشغال بما يستأنس به، ولإطلاق العنان للمُخيلة المُنفلتة المحلقة في عوالم لا مشروطة أمكنة وأزمنة وكائنات.
وفى اتكاءة على منهجية تعتمد قوانين بنائية للقص الشعبي، ومنها قانون التضاد (الثنائية الضدية)، تقوم حبكة الحكاية على عنصرين متضادين:الخير والشر، الجمال والقبح، الغنى والفقر، الخصب والجذب، الموت والحياة... لتحقيق غرضها الأخلاقى الوعظي، وثمة فرضية تُؤسس لهذا القانون، وترى أن الإنسان القديم كان يُشخص كل ظاهرة سلبية أم إيجابية في شكل إله خير وآخر شرير، وصراع الآلهة تطور إلى صراع القيم البشرية في الحكاية الشعبية التى تُبنىء أيضًا على ثنائية الشخصية وفعلها، فالحكاية تقوم على قوتين متعارضتين تواجه كل منهما الأخرى: الكبير/الصغير، القوى/الضعيف، الفقير/ الغني.. لذلك أعتقد أن مضمون ياحجاركم يا مجاركم يستند إلى ذات العلاقة الثُنائية المُتعارضة في بناء النص وشخوصه، كما لو أن معطى أو مدلول «حجاركم»: جمع حجر وهو من أدوات الإنسان البدائية الأكثر صمودا ومقاومة وإن مثل الحجر في تركيبة وتكوينة البساطة والوفرة لدى الشعوب لأنه يمثل القوة والقساوة والدوام، أما «مجاركم»: جمع المجارة وفى الملفوظ الليبى هى قطع من الذهب دائرية الشكل تحتوى نقشا على سطحها وتسمى «عصمانلي» كونها وريثة العهد التركى غالية الثمن، وقد حلُمت النساء الفقيرات المُعدمات بامتلاكها آوان الظروف المعيشية القاسية التى بالكاد تتيح الحصول على ما يسد الرمق، فما بالك لما يستعملنهُ للزينه، وإن كان يمثل ثروة وذخرا عند الحاجة لمن امتلكنه، ولنا أن نتذكر أن الراوية (الانثى) تبثُ رسالتها شاكية موجُوعة من ضعف الحال المُعبر عن راهنها فيما ترغبه وفى ظنى - وهذه مُغامرة ذهنية تأويلية! - أن مدلولات الحجار والمجار تتسع للثنائيات الضدية التى تدور في فلك الكثير من المعاني: الرخيص والغالي، الوفرة والندرة، معطى (مادي) أساسى ومعطى تكميلى (جمالي)، متداول ذكورى ومُتطلع أنثوي، الواقع بما هو كائن، والحلم بيما سيكون ومن ذلك التمهيد الذى سترج به الرواية عوالم من الأحداث والشخوص المتخيلة، تضع سامعيها وتوجه عقلهم للاعتبار بمدخل قيمى وعظى مُقارن كونهم عرضة في حياتهم للرفعة والحطة، لان يُذلوا اختيارا أو جبرا، أو أن يرتفعوا ماديا أو معنويا، وللأيام والسنين مداولاتها فلا ثبات على حال وتلك سُنة الحياة، وتؤكد (الراوية) خطابها التحذيرى (المُقارن) بالنداء الموجه لهم موصولا، بشخص السلطان ذى المشيئة والإرادة التى لا يمكن لها أن تفوق مشيئة أو إرادة الله، فالسلطان من تتعدد أزماتة فتارة فاقدا للخلف، وتارة مغتربا لأجل مال وثروة، وأخرى باحثا عن حبيبة ضائعة.. ولا دوام على حال.. إذ تشرع بنا الراوية: وياحجاركم يا مجاركم على سُلطان وما سُلطان غير الله، واللى عليه ذنوب يقول استغفر الله.