الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حكايات من دفتر الوطن "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«إلى مصر.. قضائى الذى أعانقه وقدرى الذى أحتضنه.. وأين يهرب المريد وشوقه قضاؤه.. وقلبه قدره».. بهذه الكلمات بدأ المؤرخ والكاتب الكبيرصلاح عيسى كتابه الشيق والممتع «حكايات من دفتر الوطن».
يأخذنا صلاح عيسى بأسلوبه البارع في الحكى والسرد، إلى رحلة مدهشة في أعماق التاريخ، إلى حكايات تفيض بالشجن والقهر والأحزان، والخيانة والمقاومة، والاضطهاد والقتل، حكايات تنقل قارئها إلى الزمن الذى جرت فيه الأحداث بكل ملامحه وشخوصه ومبانيه وحوادثه وصحفه وفنونه، حكايات مليئة بالصور التاريخية النادرة لأبطال الزمان الذى ولى، بشرًا وأماكن وحوادث.
الحب والسياسة
يروى صلاح عيسى في الفصل الأول، الذى حمل عنوان «السلطان وقضاء الشرع»، قصة حب جمعت بين امرأة فاتنة ورجل رهيف القلب، بينهما لهفة وأشواق وعواطف ساخنة، لكن هذه القصة تحديدا أخذت مسارا آخر يختلف عن كل العلاقات الغرامية، خاصة أن تلك العلاقة ارتبطت بالسياسة!! فعندما تشتبك خيوط الحب بالسياسة تهتك الأسرار ويفتضح كل شيء!!
فقد أوقع الحظ العاثر «نور الدين مشالى» وحبيبته «فاطمة» في لعبة السياسة، ولولا ذلك ما ذكرهما أحد.. وفجرت تلك القصة العديد من القضايا في المجتمع المصرى سواء على صعيد الأخلاق أو الدين أو الشرع، حيث تنتمى القصة إلى العصر المملوكى - الذى حكم مصر ثلاثة قرون من الظلم والعذاب - إبان حكم السلطان «قنصوة الغورى»، وهو عصر لا حد لغرابته، عصر البطولة والدفاع عن الإسلام الذى لم يؤمنوا به، زمن السفه ومؤامرات القصور، والمشربيات والأسبلة والحانات، والزنا بالنساء في صحون المساجد، وعدم الانتماء إلا لكرسى السلطنة.
غرابة الأقدار
والعاشق «نور الدين مشالى» كان قاضيا ممن يحكمون بمذهب الإمام «أبو حنيفة النعمان»، وكان القضاء مهنة يسعى إليها الناس لما لها من مكانة مهيبة، وكان لا يتولى أحد هذا المنصب إلا إذا دفع رشوة للسلطان.
وصف مؤرخ العصر إبن إياس سنة 1513 بأنها كانت سنة عذاب وبلاء، فقد وقع فيها الطاعون، وارتفعت الأسعار، وبلغ عدد الوفيات نحو ثلاثة آلاف من البشر يوميا، وأصاب الناس غم ونكد.
وفى هذه الأجواء كان يعود «المشالى» إلى منزله، يقضى بعض الوقت مع زوجته وابنه، لكن طيف معشوقته فاطمة كان يلازمه، على الرغم من إحساسه بالندم عندما يتذكر صديقه «غرس الدين خليل» زوج معشوقته.
ومن غرابة الأقدار أن خليل يعمل في نفس مهنة «المشالى»، ويقضيان سويا أوقات السمر في المقاهى.
علاقة آثمة
يتساءل صلاح عيسى كيف حدثت هذه العلاقة؟، واصفًا العصر الذى نشأت فيه بأنه «كان يموج بالمتناقضات الغريبة، عصرًا وقورًا من حيث المظهر، وتحت السطح كانت أخلاقياته تكشف عن روائح كريهة، وانتشر الشذوذ الجنسى والأخلاقى، وكان «الزنا» منتشرا، وكانت الدولة حينئذ تعترف بالبغاء، وتفرض على البغايا ضرائب مقررة.
في تلك الأجواء الانحلالية المتفسخة، لم يكن غريبا إذن أن تلتقى «فاطمة» و«المشالى» في علاقة آثمة، سرعان ما انكشف أمرها.
ضجة مدوية
عقب وشاية، اكتشف الزوج وجود «المشالى» مع زوجته في حجرة نومه في فراش غرامه، وتحت اللحاف متعانقان، فضربهما ضربا مبرحا واستيقظ الجيران، وحدثت ضجة مدوية.
حاول المشالى أن يتمالك نفسه وأخذ يهدئ من روع الزوج، متوسلا ألا يفضحه مقابل أن يكتب له صكا قيمته ألف دينار، وفى ذات الوقت أكدت الزوجة أنها يمكن أن تتنازل عن جميع أمتعتها.
رفض الزوج الحلول المقترحة، وأغلق باب الحجرة ووضع حراسه من الخدم عليهما، وذهب إلى «حاجب الحجاب» روى له تفاصيل واقعة الزنا، فأمر بدوره بالقبض على العاشقين.
واعترف المشالى بالواقعة، ثم أمر «حاجب الحجاب» بضربهما، وتجريسهما في القاهرة، بوضع كل منهما على حمار، ووجه كلاهما يتجه نحو مؤخرة الحمار، والجنود حولهما يدقون الأجراس، ثم عادوا إلى دار «حاجب الحجاب» وضربوهما بالسياط عقابا لهما.
ابتزاز العاشقين
يقول عيسى، بعد ذلك كان من المفترض أن تنتهى القصة عند هذا الحد، مثلها كمثل الآلاف من العلاقات المشينة، لكن غرابة العصر التى نشأت فيه جعلها لم تقف عند حد الضرب والتجريس!!
فقد استغل «حاجب الحجاب» الموقف كى يستثمره في ابتزاز العاشقين بأن يدفع كل منهما مبلغ مائة دينار، وافق المشالى، بينما اعتذرت المرأة لأن زوجها يضع يده على ثروتها، وهنا قرر الحاجب استدعاء الزوج لدفع المبلغ، لكنه رفض بدوره، فأمر الحاجب بتعذيب الزوج حتى يدفع المبلغ المطلوب!! فيما دفع «المشالى» الرشوة وفلت هو وعشيقته من قضية الزنا، واعتقل بدلا منهما الزوج المصدوم!!
وتصاعدت الأحداث وعلم السلطان «قنصوة الغورى» بالأمر، فجمع القضاة وقام بتوبيخهم على هذا النحو: «والله أفتخرتم ياقضاة الشرع، نوابكم شيء يشرب الخمر.. وشئ يزنى، وشئ يبيع الأوقاف»، وكان المقصود ببيع الأوقاف هو قاضى القضاة الحنفى المرتشى».
إقامة الحد 
ودفع السلطان قضاة الشرع لإصدار حكم بالرجم وإقامة الحد على العاشقين، ذلك الحد الذى لم يطبق منذ عهد الخلفاء الراشدين!! وأمر السلطان بإعادة القبض عليهما، وتم اختيارمكان تحفر فيه حفرة لكل من «الزانى» و«الزانية» عمقا بطول قامة كل منهما، بحيث لايظهر منهما سوى الرأس فقط لتكون هدفا سهلا للطوب الذى يلقيه الناس عليهما حتى يموتا.
في تلك الأجواء ظهرت بارقة أمل لإنقاذ العاشقين من خلال أحد قضاة الشافعية يدعى «شمس الدين الزنكلونى» وهو صديق لـ«المشالى»، فقد أرسل للعاشقين في محبسهما وطالبهما بأن ينكرا اعترافهما بالزنا، ثم كتب فتوى تقول: «إذا رجع الزانى عن الإقرار باعترافه بالزنا، سقط عنه حد الرجم، وغير ذلك من الحدود»، ووقع قضاة المذاهب الأربعة على الفتوى.
وعندما علم السلطان بالأمر استشاط غضبا، وتطورت الأحداث، وعقد السلطان أكبر مجلس شرعى قضائى في تاريخ مصر، حضره كل شيوخ القضاة، وكبار المشايخ، وأصر السلطان على أخذ الزانى باعترافه الأول، معارضا في حق الرجوع.
تشعب حديث القضاة وعرضوا آراء الفقهاء، من بينهم «ابن تيمية» ويقول «إن حد الزنا لا يقام حتى يشهد على الزانى أربعة شهود»، وفى نهاية المطاف أقر القضاة بصحة سقوط الحد عند الرجوع عن الاعتراف.
لم يقبل السلطان بما وصل إليه القضاه فقام بعزل قضاة المذاهب الأربعة، وأمر بالقبض على «الزنكلونى» الذى نجح في تمرير الفتوى وتوقيعها من قبل العلماء، فقال له السلطان: «يا زنكلونى حكمك انت يمشى.. وحكمى أنا يبطل»؟، وضربه نحو ألف عصا، وضرب أولاده، وأمر بنفيهما إلى الواحات!!.
النهاية الفاجعة
يواصل عيسى، استبدل السلطان حكم الرجم الذى صدر بحق الزانيين في ١٠ يناير١٥١٤، بقرار بشنق «نور الدين مشالى» و«فاطمة»، ونفذ الشنق على الطريقة التى تخيلها السلطان: شنقوهما في حبل واحد، وقد جعلوا وجه الرجل في وجه المرأة.. وظلت جثتاهما معلقتين ثلاثة أيام.. ووجههما وجسدهما ملتصقان، والناس يأتون من كل فج عميق لكى يشاهدوا النهاية الفاجعة لقصة حب.
وتساءل الجميع ما الذى دفع السلطان لهذا الغضب الأعمى؟ خاصة أن القضاة كانوا على حق في موقفهم من الناحية الشرعية والخلقية، وحد الزنا تحديدا قد أحيط بمجموعة من القيود نظرا لخطورته، ولقسوة العقوبة المقررة عليه، ومن الناحية الاجتماعية فالدولة تعترف بالبغاء رسميا، لا يظن أنها يمكن أن تطبق هذا الحد.
أغلب الظن أنها كانت واحدة من ألعاب السلطة التى لا تنتهى والتى برع فيها العصر المملوكى، فقد شهدت مصر في نفس العام الذى حدثت فيه الواقعة غلاء مرعبًا وطاعونًا استمر عدة أشهر، وكأن السلطان يحاول أن يغطى على مظالمه بتطبيق الحد!