الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شقراوات البلاطي البيضاء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"بروفيسور سليم مدكور.. انا سارانت لويز صحفية فرنسية متخصصة في الشئون العلمية.. قرأت كثيرًا عن أبحاثك حول الخلايا الجذعية ومدي تأثيرها على الأمراض المستوطنة وغير المستوطنة، وذلك من خلال قتل الخلايا المُصابة عن بُعد بالحوار الكهرومغناطيسي.. وهو ما أثار اهتمام الوكالة التي أعمل بها.. وأرجو أن تحدد لي موعدًا كي نناقش كل ما هو جديد في عالمك البحثي"...
كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لـ"سارانت لويز"، رسالة خاصة على الصفحه الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي، للتواصل مع أحد أهم باحثي ذلك المركز البحثي الكائن بوسط القاهرة، والذي عاد مؤخرًا من بعثته بإحدي أكبر الجامعات الألمانية بعد دراسة كل ما يتعلق بالخلايا الجذعية، لم يكن أمام سيلم مدكور إلا أن يشعر بالسعادة، أخيرًا وبعد ستة أشهر وجد من يهتم به وبأبحاثة، حتى وأن كان هذا الإهتمام يأتي من خارج البلاد، فقد تجاهل الإعلام المصري كعادته أمثاله، ما أقنعه بقبول دعوة تلك الصحفية الفرنسية على الفور، وقبل الحصول على موافقة مسئولي المركز.
في الثامنة من صباح الخميس الثاني عشر من يناير، ورغم برودة الجو الملبد بالغيوم، وقف سليم مدكور متأنقا على غير عادته، ينطق وجهه الخمري المستطيل بتعبيرات الفرح، لم تفلح نظارته الطبية السميكة في إخفاء بريق عينيه، كانت قسمات وجهه ترفض كل معاني الوقار الذي تميز به طيلة حياته، وهو قصير القامة، ولكنه ممتلئ الجسم، حرص على إرتداء معطفه الأبيض وكأنه يريد أن يصدق جميع من يراه أنه عالِم وباحث، دون ملل، راح ينتظر تلك الصحفية الفرنسية.
لم تكد تمر دقائق حتى وقفت أمام باب المركز سيارة فارهة زرقاء اللون، أسرع سائقها يفتح بابها الخلفي لتخرج تلك الشقراء الفاتنة، والتي ما أن رآت سليم مدكور حتى لوحت بيديها تعلو شفتيها تلك الابتسامة الساحرة، والذي لم يستطع بدوره اخفاء إنبهاره بها، فتلك الفاتنة الشقراء جميلة بشكل ملحوظ، طويلة القامة، منسجمة القد، ذات شعر حريري، ووجه يشع نورًا كانه البدر في ليلة ظلماء، وعيون خضراء صافية تصر الناظرين، ترتدي زيا بسيطا رقيقًا، دون أن يؤثر ذلك في رقتها ووداعتها.
تقدم سليم مدكور من الشقراء الفاتنة مرحبًا بها، دون أن يتحقق من هويتها، أو يسمح لرجال الأمن من فعل ذلك، اصطحب سارانت لويز إلى معمله داخل المركز، لم تتفوه الصحفية الفرنسية بأي كلمة، في حين لم يتوقف سليم عن الحديث، كانت تراقب كل تفاصيل المعمل، في حين لم يبعد سليم نظره عنها، بين الفينه والأخري تلقي علية سؤلًا بلغة عربية ذات لكنه ركيكة، ينعقد حاجبي سليم ريبة، فتلك الفتاة لم تهتم بأبحاثه بقدر ما إنها تهتم بفحص معمله، فقد التقطت بكاميرا هاتفها الكثير من الصور لتلك الأجهزة المنتشرة في جنباته.
أكثر ما لفت انتباه سليم مدكور أن سارانت لويز لم تسأله سؤلًا واحدًا عن أبحاثه التي زعمت أنها جاءت من أجل مناقشته عنها، وأن أغلب أسئلتها تهتم بشئونه الخاصة، زوجته وأبنائه وحياته معهم، راتبه الضئل الذي لا يتفق وعقليته العلمية الفذة، كيف يقضي أجازته؟، وأين؟، وهل تليق به؟، طموحاته الشخصية وأحلامه؟، صمت سليم مدكور فقد انتبه إلى لكنتها الشرقية، وتذكر أنه لم يري هويتها، أو يعلم أي شيء عنها، قبل أن يتنحنح معتذرًا عن استكمال لقائه، واعدًا إياها بتحديد موعد أخر للقاء.
غادرت سارانت لويز المركز ولكنها لم تغادر عقل سليم مدكور، ذلك العقل الذي اجتاحته عشرات الأسئلة التي تبحث عن إجابة، من تلك الفتاة الفرنسية؟، وماذا تريد منه؟، وهل تنتمي بالفعل إلى عالم الصحافة والإعلام؟، أم أنها خدعته لهدف يجهله؟، إلتقط نفسًا عميقًا ثم تناول هاتفه، تحدث إلى أحد أصدقائه الذي يعمل في إحدي الأجهزة الأمنية، ليفاجئة بأن ما حدث معه لم يكن الأول من نوعه، وأنه علية أن يستدرجها لمقابلات أخري تتيح لهم معرفة ما تبحث عنه، ولصالح من، دون تفكير دخل صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي باحثًا عن سارنت لويز، ولكنه لم يجدها، لقد أغلقت صفحتها إلى الأبد، تاركه خلفها ذلك اللغز....!
التجسس العلمي
لم تكن تلك القصة من خيال كاتب هذا المقال، ولكنها حدثت بالفعل داخل أحد أهم المراكز البحثية المصرية، كما أنها حدثت لأكثر من باحث في مختلف المجالات بمختلف المراكز والمعاهد العلمية، في ظاهرة بدأت في الازدياد في الآونة الأخيرة، ففي ظل حالة الإحباط التي يعاني منها شباب الباحثين، قامت بعض الجهات العلمية الغربية بايفاد أشخاص إلى مصر، وذلك للاتصال المباشر مع شباب الباحثين المتميزين والمتفوقين في الجامعات والمراكز البحثية، ألمح البعض إلى إنتمائهم لمراكز بحثية وثيقة الصلة بمراكز بحثية إسرائيلية.
تلك الحادثة تجعلنا نتسائل عن ماهية التجسس العلمي؟، وكيف يمكن مواجهته والتعامل معه؟، فالتجسس العلمي وسرقة العلوم وتحريض شباب الباحثين على الهجرة ليست بالشيء الجديد على الإطلاق، فقد مارسته العديد من البلدان على مر التاريخ، ومؤخرًا تستخدمه دولة كبرى تتمتع باقتصاد قوى ينافس دولا عديدة، والتي يبدو أن إمكاناتها لم تكن كافية لتطوير اقتصادها العملاق، لذا ابتكرت وسيلة جديدة لإغراء وشراء المدراء والمهندسين وأصحاب براءات الاختراع، وإغرائهم برواتب خيالية للعمل في مؤسساتها العلمية. 
مؤخرًا حذرت وزارة العلوم والتعليم العالي في روسيا علماؤها وباحثيها من الاتصال بأي وسائل إعلام أو منظمات أجنبية، وذلك إلا بعد الحصول على إذن مسبق من الجهات الأمنية، كما أنها أصدرت مرسومًا صارمًا يحذر المراكز البحثية الروسية من التعامل مع أي جهة أجنبية، وضرورة إبلاغ الوزارة والجهات الأمنية بأي لقاء قبل انعقاده بخمسة أيام، على أن لا يقل عدد المشاركين في اللقاء الواحد من الجانب الروسي عن شخصين، ويلتزم المركز بعد انتهاء اللقاء بتقديم تقرير مفصل، تتضمن محتويات الحوار وترفق بها نسخ من جوازات السفر الخاصة بالمشاركين الأجانب.
"على المرء إظهار بعض اليقظة، فأجهزة المخابرات الأجنبية ليست نائمة في عملها، ولم يتخل أحد منهم عن التجسس العلمي والصناعي، هناك من يستهدف علماؤنا، خاصة الشباب منهم".. هكذا جاء تعليق المتحدث الإعلامي للرئاسة الروسية "الكرملين"، دميتري بيسكوف، والذي يري أن العلماء الروس يتعرضون لعملية تجسس على مدى 24 ساعة يوميا، و7 أيام أسبوعيًا، مثلما حدث مع الفيزيائي الروسي فيكتور كودريافتسيفا، والذي أتهم بالخيانة العام الماضي بسبب عمله في معهد أبحاث بلجيكي.
"هل العلوم الأمريكية عرضة للتجسس؟!".. هذا التساؤل طرحه مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية "FBI"، فقد أرسل في عام 2016 تحذيرًا لكل مراكز ومؤسسات البحث العلمي داخل الولايات المتحدة الأمريكية لاتخاذ كافة الإحتياطات الأمنية بما يحول دون تهريب الأبحاث السرية، خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية تُعد أكبر دول العالم استقبالًا للبعثات العلمية، مؤكدًا ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في الرابع من نوفمبر 2019، حول وجود أدلة تؤكد وجود ما يقرب من 200 حالة سرقة محتملة للملكية الفكرية في 71 مؤسسة مختلفة، أخر تلك المؤسسات مركز إم دي أندرسون للسرطان في هيوستن، قاموا بتهريب بعض أبحاثها الطبية الحيوية إلى خارج البلاد.
"كيف سيكون شعورك إذا كنت عالمًا أمريكيًا ترسل أفضل فكرة لك إلى الحكومة لطلب تمويل، وقد انتهى الأمر بشخص ما في مشروعك في دولة أخرى؟".. هكذا عبر البروفيسور روس مكيني، كبير المسئولين العلميين في رابطة الكليات الطبية الأمريكية عن اسفه، فحتي الدول العظمي يمكن أن تتعرض للتجسس العلمي، وأن دول طموحة كالصين والهند وروسيا تسعي للتفوق على حساب الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التعرف على أحدث ما وصلت إلية معاملهم البحثية.
أما في بريطانيا، ففي ديسمبر من العام 2018، كشفت صحيفة ديلي تلجراف، أن المتسللين الإيرانيين كانوا يبيعون أوراق بحثية سُرقت من أفضل الجامعات البريطانية، على رأسها جامعتي أكسفورد وكامبردج، أغلب تلك الأبحاث تناولت موضوعات علمية بالغة الحساسية، كالبحوث النووية والدفاعات والأمن السيبراني وعلوم الجينوم، وغيرها من الموضوعات التي يمكن أن تساهم في اكتساب ميزة التنافسية لصالح الدول الأقل قوة علمية، ما يعني أن العواصم الثلاث الأهم عالميا، موسكو وواشنطن ولندن، لم يكونوا بمنآي عن التجسس العلمي.