الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة ستار

«Joker».. ابتسامة في وجه مجتمع بائس

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
استخدم مصطلح "الدراما النفسية" في هوليوود منتصف الخمسينيات على يد رائد أفلام التشويق ألفريد هيتشكوك، للجمع بين أكثر من نوع فيلمي بهدف التلاعب بالظاهرة النفسية لجذب أكبر عدد من الجماهير لشباك التذاكر، بينما اتخذ صناع الأفلام الأجانب ذلك المصطلح لتصوير العالم الداخلي للشخصيات، تلك الحالة النفسية المعقدة التي تدور حول الشخصية الرئيسية وتضعها على حافة الجنون، إنه نضال غامض ومعقد بين عالم الشخصية الداخلي والواقع، واكتسب هذا التصنيف شهرة واسعة على مستوى أفلام "الإثارة" التي تعد واحدة من أوسع التصنيفات للأفلام وأكثرها غموضا، وتعتمد أفلام الإثارة على التشابك والتعقد في الحبكة الفنية وأغلبها ذات (الحبكة التشويقية) أفلام التشويق "Suspense"، وذلك لخلق الخوف والرهبة للمشاهد أو عرض المواقف الدرامية بأقوى حدة ممكنة. وكان "هيتشكوك" من بين المخرجين الرائدين في استخدام الكاميرا للتحرك بطرق تحاكي نظرات الشخصية في الفيلم، مجبرًا المشاهدين على الانخراط في شكل من أشكال التلصص والتوحد مع البطل، حيث ذكر في حوار سابق بأنه يجب إشراك المتفرج في الجريمة وكيفية حدوثها؛ لأن هذا الإشراك هو الذي يولد عنصر الإثارة.

لو أصبح لي ماضي.. أود أن يكون متعدد الاختيارات
فيلم "Joker" للمخرج تود فيليبس، الذي صاغ السيناريو أيضا برفقة سكوت سيلفر، ينتمي إلى شكل من أشكال "الدراما النفسية" يعرف بأفلام دراسة الشخصية (Character Study Films)، وهو شكل فني لا يعتمد في الأساس على الحبكة أو القصة بقدر ما يركز على بطل القصة نفسه، مثل أفلام: "There Will Be Blood" و"Raging Bull" و"Citizen Kane"، و"Taxi Driver" الذي ألهم مؤلفا العمل في بناء الشخصية الرئيسية بجانب فيلم "The King of Comedy"، كما عملت رواية "باتمان: النكتة القاتلة"، التي صاغها آلان مور عام 1988، بمثابة الأساس للفيلم، لكن فيليبس وسيلفر لم يلجآن إلى القصص المصورة (الكوميكس) للحصول على الإلهام، خاصة وأن هذه القصص لم تتطرق إلى بدايات شخصية "الجوكر".

نحن هنا لسنا أمام شخصية "الجوكر" نفسها أو بالشكل المتعارف عليه بقصص الرسوم المصورة، ولكن نشاهد بدايات ونشأة الإنسان الذي يقف خلف هذه الشخصية وهو "أرثر فليك"، يجسده الممثل خواكين فينيكس، كوميديان مغمور يكرس وقته وحياته لشيء واحد فقط وهو اسعاد الناس، على الرغم من العلة العقلية والنفسية التي يعاني منها وتتسبب له في نوبات من الضحك والبكاء اللاإرادي تجعله عرضة للتنمر والاضطهاد باستمرار من جانب المجتمع. فكيف يستطيع شخص بائس أن يسعد الأخرين؟
يعمل "فليك" في احدى وكالات الدعاية مقابل أجر زهيد للغاية يساعده على اعالة أمه المريضة "كوني فليك"، تجسدها فرانسيس كونروي، أملًا أن يصبح في يوم ما فنان "ستاند أب كوميدي" مشهور، وبمرور الوقت يتعرض "أرثر" للعديد من الاحباطات والضغوطات اليومية والتهميش من جانب المجتمع، تجعله يتحول تدريجيا إلى شخصية "الجوكر" الشريرة.

أن تحاول البقاء على هامش مجتمع جشع
يعتبر التطور النفسي للشخصية هو عامل أساسي من عوامل أفلام دراسة الشخصية ومحورا هاما من المحاور التي يقوم عليها الفيلم، فالأزمة التي يتعرض لها "أرثر فليك" وتتطور بشكل تصاعدي خلال الأحداث تنبع من رغبته في عيش حياة طبيعية داخل مجتمع مدينة "جوثام" المضطرب اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ما دفعه للاصطدام بواقع بائس مليء بالضحكات الزائفة وظروف عمل عسرة، بيئة تسلب ولا تعطي وأحلام واهية أشبه بالكوابيس تجعله يعيد النظر في سبب وجوده بالحياة ثم يصل لاحقا إلى فكرة أنه غير موجود بالأساس، كل هذه الأفكار جعلت من "أرثر" كيانا فارغا يسهل التعاطف مع قضيته كإنسان.
جودة كتابة الشخصية الرئيسية والذي عززها أداء "فينيكس" ساعد في إيصال المشاعر للمشاهد بشكل مكثف وسلس، فضلًا عن إبراز التباين والتغير المرتبط بموت "أرثر فليك" الذي يعيش حالة من التوتر الدائم والعجز وانعدام الأمان، وصعود "الجوكر" المتمتع بالراحة الكلية تجاه نفسه.

العالم المظلم الذي يصوره الفيلم يشير إلى كابوس حقيقي نعيشه بالفعل، فهو يمثل حالة أكثر منه نوع باستخدام عناصر كالغموض والتشاؤم والفساد الأخلاقي، من خلال شخصية تتورط في مجموعة من المواقف السلبية تكشف لنا ابعاد اعتلاله النفسي. فعلى الرغم من القرارات التي اتخذها "أرثر" تجاه عدد من الشخصيات بالفيلم تبدو في مجملها قاسية للغاية ومنفرة، إلا أنها تدفعك للتعاطف معه نتيجة للممارسات السلبية التي قامت بها تلك الشخصيات تجاهه طوال الوقت، وهنا يحسب للمخرج تود فيليبس جرأته في تصوير العديد من المشاهد القاسية دون اقتصاص أو تجميل، وإن كانت قد جلبت للفيلم سمعة سيئة لكنها شكلت لحظات قوية ومؤثرة بسبب واقعيتها الشديدة، وهذا الجزء يدفعنا إلى التساؤل هل التنمر والاستهزاء تكون نتيجته أعمال عنيفة قد تصل إلى حد القتل؟

التصوير السينمائي كان أحد عوامل القوة في الفيلم، حيث ساعدت رؤية مدير التصوير لورانس شير، الذي سبق وعمل مع فيليبس في ثلاثية "The Hangover"، في ترسيخ معاناة الشخصية الرئيسية، لدرجة أن الكاميرا أصبحت شخصية مهمة في منتصف كل حركة، فنراها حادة وعنيفة حين يشعر "أرثر" بالغضب والتوتر وسلسة مرنة خلال رقصاته الهادئة الأقرب للبالية. 
وركز "شير" على اللقطات القريبة لـ"فليك" وربطها بأخرى واسعة لمدينة "جوثام" المقززة، التي تمتلأ شوارعها بالقمامة نتيجة اضراب عمال النظافة، لإظهار أثرها على الشخصية وكيف أن تصرفات "فليك" هي نتيجة منطقية لقذارة وفساد المدينة. أيضًا مشهد انتقال "أرثر" بالقطار من طرف المدينة (محل سكنه) حيث المباني المنخفضة إلى قلبها المحاط بناطحات السحاب عزز فكرة الرأسمالية المتوحشة التي تسيطر وتتحكم بكل شيء داخل المدينة وتسحق مواطنيها بدم بارد. 
كما استخدم اللون الأخضر بدرجاته الباهتة للتعبير عن خواء المكان من أي حياة وتوطيد الرتابة والممل والتكرار اليومي لأفعال الشخصية الرئيسية، ووظف اللون الأصفر في كثير من مشاهد الجزء الأخير للفيلم والتي تلت تحول شخصية "أرثر فليك" إلى "الجوكر" للتعبير عن حالة الجنون وعدم الأمان ونقل مشاعر الإحساس بالخطر القادم وتأكيد الذات.

اتسمت الموسيقى التصويرية للملحنة الأيسلندية هيلدور جودنادوتير، التي عملت مؤخرا في مسلسل "Chernobyl"، بالمرارة والحيوية وهي تلائم كآبة عالم "أرثر"، كما تتصاعد في مشاهد التوتر والخوف معتمدة على درجة التشيلو الثقيل. أغاني فرانك سيناترا وجيمي دورانت المنتشرة في أرجاء الفيلم، والتي تخفي معنى حزين وراء كلماتها، ساعدت أيضًا في التأكيد على بؤس "أرثر" وأحلامه المكسورة.

دعوة للفوضى.. أم رسالة تحذير
يقول المناضل الأمريكي مارتن لوثر كينج: "إن الظلم في أي مكان يشكل تهديدا للعدالة في كل مكان". فلم يقم صناع فيلم "Joker" بإخفاء أي شيء أخر غير ما هو عليه، بداية من أحداث القصة الواقعية التي تدور في الثمانينيات بمدينة نيويورك الأمريكية، حيث يسيطر رأس المال وتنتشر البطالة وتعم الفوضى وانعدام الأمن، فكيف إذن لتصرفات "أرثر" أن تكون خطرا على مجتمع مريض وفاسد بالأساس. فلو أن هناك شخص ما مضطرب عقليا تخلت عنه مؤسسات الدولة وهمشه المجتمع وسخر الإعلام من همومه اليومية، فبالتأكيد سيحدث ما لا يحمد عقباه.

قد يكون الخطر الأكبر على المجتمع إذا لم يعي الرسائل والقضايا التي يطرحها الفيلم بشكل عميق وجريء، فلا يمكننا الابتعاد أو غض الطرف عن المشكلات التي تنخر جذور المجتمع ونفوت على أنفسنا فرصة الوقوف أمام مرآة الفيلم التي تعكس مواطن القبح والتدني، نعم، هناك شخص ما مضطرب ويعاني بشدة ليس نتيجة مرض أصابه إنما أصاب المجتمع. 

الخوف والغضب من الأفكار التي يطرحها فيلم "Joker" هو بمثابة إلهاء حتى لا ننظر إلى العنف الحقيقي الذي يمزق المجتمع، والذي يذهب أفراده ضحية للعنف المسلح – في أمريكا على وجه الخصوص – حيث لا يوجد أي قانون يجرم حمل السلاح، بجانب نقص الخدمات الأساسية وسلبية وسائل الإعلام التي تتخذ موقف المشاهد دون أن تحرك ساكنا.

إن هدف الفيلم والرسائل العميقة الموجودة بين طياته لا تدعو على الإطلاق لتمجيد العنف أو الدعوى إلى الفوضى، وإنما هي رسالة تحذير، نحن لا نريد أن نقف مكتوفي الأيدي ونرى الأبرياء يتحولون تدريجا إلى "الجوكر" بعد أن فقدوا إنسانيتهم في شوارع المدينة المضطربة، لذا يتعين على المجتمع أن يكافح أسباب التحول هذه بدءً من ردع الفساد وإقامة العدل وتأمين الحد الأدنى من فرص العيش الأدمية. هذه التحولات الاجتماعية الخطرة عمدت السينما الكورية مؤخرا إلى ابرزاها بعدد من الأفلام كان أخرها فيلم المخرج بونج جون هو "Parasite" الفائز بسعفة كان الذهبية و"Burning" للمخرج لي تشانج دونج.

في النهاية يجب أن تعيد هوليوود النظر في الأعمال السينمائية التي تقدمها، خاصة وأنها شهدت انحدارا فنيا كبيرا خلال العام الجاري والأعوام السابقة بشكل عام، فهي بحاجة إلى الخروج عن المألوف والسائد وانتهاج طرق جديدة في طرح الأفكار واثارة الجدل بشكل جريء كحال هذا الفيلم وكأفلام أخرى قليلة على مستوى جيد قدمتها خلال العام الجاري، أهمها "Us" للمخرج جوردان بيل، و"Once Upon a Time In Hollywood" لكوينتين تارانتينو.