السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عند الحكيم الكلام السليم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعتقد أنه لا جدوى من المضى فى استعراض آراء الفلاسفة الغربيين حيال قضية العلاقة بين الشياب، والشباب فى ثقافتنا العربية المعاصرة، وذلك لعدة أمور: 
أولها: أن استيراد الثقافات من بيئات مغايرة لا يمكن اعتباره دربًا من دروب التجديد أو التحديث، بل هو شكل من أشكال الاستغراب - بالمعنى الدلالى لهذه الكلمة - أعنى ابتضاع عوائد وتقاليد مغايرة للموروث والثابت فى ثقافة أخرى فعلى سبيل المثال نظرة سقراط للمرأة تختلف عن نظرة كاجمنى الفيلسوف المصري، كما أن تردد هوبز ولوك فى الدعوة الكاملة للمساواة بين الرجل والمرأة تختلف فى دوافعها ومبرراتها عما كتبه الوهابيون أو العقاد.
وقد أوردنا بعض النماذج من كتابات فلاسفة الغرب حول هذه القضية فلم نجد فيها ما يعيننا على فهم ملابساتها وأسبابها، وإذا سلمنا جدلًا بأن هناك ثقافات قد اصطبغت تمامًا بصبغة الوافد فإن مرد ذلك يرجع إلى ضعف ثوابت الثقافة التليدة والمشخصات العتيدة، ولاسيما ما اتصل من تلك الثوابت بالدين والأخلاق.
فإننا نصف تلك المجتمعات بأنها مبددة وليست مجددة، وأن التحديث أصاب المظهر دون المخبر، وفى التجربة والواقع المعيش أصدق البراهين.
أما الأمر الثانى الذى يحول بين استيراد الثقافات وتقليدها، وبين الإثمار فى شكل إصلاح أو تقدم فيرجع فى المقام الأول إلى طبيعة العلاقة التى تربط الأجيال المتتالية بعضها ببعض فى ثقافة ما بداية من العائلة والمجتمع ونهاية بتشابه الثقافات، وتأثيرها المتبادل بحكم الجوار والاختلاط، فكلما تشابهت وتوافقت الأوضاع الاجتماعية والسياسية جيلاً بعد جيل من جهة، وتص الحت المصالح وتألفت الآداب والعادات والتقاليد والمعتقدات من جهة ثانية، كان التغيير والتجديد والتحديث من الأمور الطبيعية والمقبولة من الأجيال المتعاقبة.
وبناءً على ما تقدم فإن استيراد النهوج العلمية والنظم الحضارية وآليات التطور - بعد تهيئة العقل الجمعى لقبولها - هو الأيسر لتقدم الأمم، أما إصلاح ما فسد من النواحى الثقافية فيجب أن ينبع من الداخل أى من الثقافة ذاتها، تلك التى تنشد التجديد، وذلك عن طريق التنوير الهادئ وإعادة توجيه العقل الجمعى وتربية الرأى العام، وليس الثورات الفجائية الإطاحية أو التطبيق العشوائى لمشروعات لم تُؤهل لها البنية الثقافية المستوردة، وعليه فسوف ننتقل إلى الفكر المصرى الحديث لنبحث عن إجابة عن السؤال المطروح (ما علة تنافر الأجيال وتمرد الشباب على منطق الشياب وحكمتهم؟ وما هى الأسباب الحقيقية لغياب الحوار بينهما عوضًا عن الصدام والصراع)؟
ويتراء لى أن أفضل من تصدى لهذه القضية هو جيل كتاب النصف الأول من القرن العشرين - فى الثقافة المصرية - وبالتحديد أولئك الإعلام الذين جمعوا فى خطاباتهم الثورية بين الأصالة والمعاصرة والموروث والوافد، ونجحوا فى الفصل بين الثابت الأصيل والمتحول البالى الدخيل فى مشخصاتهم فنقدوه بغية الإصلاح، وغربلة المتحول الوافد لتقييمه وانتقاء النافع منه وما يتناسب مع هويتهم ومقاصدهم وطموحاتهم وأهدافهم. 
ولعل توفيق الحكيم ( ١٨٩٨ - ١٩٨٧) يأتى فى طليعة أولئك المفكرين، فقد شغلت هذه القضية حيزًا كبيرًا فى كتاباته الأدبية والسياسية والاجتماعية، وكيف لا؟ وهو أحد تلاميذ مدرسة «الجريدة «التى حمل لواءها أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد (١٨٧٢ - ١٩٦٣) وهى المدرسة الليبرالية التى أخذت على عاتقها مهمة تثقيف وتنوير وتجديد المجتمع المصري، وهى رمانة الميزان فى مشروع نهضة الطبقة الوسطى.
فقد تناول توفيق الحكيم قضية العلاقة بين الشباب والشياب فى عدة مقالات بدأها فى أربعينيات القرن العشرين بمقال «تصادم الأجيال»، وظلت القضية محل اهتمامه لفترة تجاوزت الثلاثة عقود، فها هو يبرر الصراع بين الأجيال بأنه سنة كونية لا يعانى منها إلا المجتمعات الجامدة «فالخلاف فى طبيعة الجيلين: أحدهما يريد التمهل والآخر يريد القفز. وليس هذا بجديد. هكذا كان الآباء والأبناء فى كل زمان ومكان، ولكن الجديد فى عصرنا الحاضر - عصر الثورات والانقلابات - هو أن الخلاف فى الطبيعة والنظرة قد انقلب هو الآخر إلى ثورة، ثورة اتخذت لها شتى المظاهر فى البيت، والمدرسة، والعمل والمجتمع. ولم يعد من السهل أن نفرق فى دخانها بين حدود النظام والحرية، والحق والواجب.
وبهذا اختلطت الأقدار، وضاعت معالم القيم، وفسدت العلاقة بين الأجيال، وانتهى الأمر إلى ما نرى، من وقوف كل جيل موقف المرتاب من الجيل الآخر، كل الأزمنة إذن هى فى هذا الانفصال بين الأجيال، خرج البنون على آبائهم، وخرج التابعون على قادتهم». 
ولا ريب فى أن الحكيم قد نجح فى تشخيص الداء فتراه كيف وصف الدواء.
وللحديث بقية مع المصلح المصرى الحر وقضية الشباب والشياب