السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"العندليب".. حكايات الوطن والانكسار والحب

الخال
الخال
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعد الملف: محمد لطفي وياسر الغبيرى وأحمد صوان وأميرة عبدالحكيم ومحمود عبدالله تهامى
تصوير: هشام محيى ومحمود أمين
كان عبدالرحمن الأبنودى يؤكد دائمًا أن عبدالحليم حافظ كان ركنًا أساسيًا فى تجديد الأغنية، وأنه المطرب الذى انفرد بتأريخ ثورة يوليو ١٩٥٢، فعبر صوته بنى السد العالى مع من بنوه، وقاتل مع المقاومة الشعبية عام ١٩٥٦، وخاض مع الجيش معركته عام ١٩٦٧، وأقسم بعد النكسة أن يبدأ كل حفلاته بأغنيته «أحلف بسماها وبترابها» إلى أن تتحرر الأرض ووفى بقسمه. 
لم يرَ «الخال» فى صوت «عبدالحليم» مطربًا عاطفيًا موهوبًا يملك صوتًا لا نظير له فحسب، ولم يكن ذلك الدون جوان، الذى ترددت الأحاديث حول مغامراته العاطفية والحكايات عن زواجه وطلاقه السري؛ كان الأبنودى فقط، يعرف ذلك الرجل، الذى رافقه ليل نهار لخمس سنوات طويلة، والذى لم يتوقف عن مساندته، بينما كان فى المعتقل، الذى ألقاه فيه مسئولو النظام الناصرى الذى احتفى به العندليب طويلًا.
«كنت أسمع أغانى عبدالحليم، وأنا فى أبنود، كنت معجبًا به، وعلقت صورته التى رسمها صديقى محمد حسن فى بيتنا، وعندما جئت إلى القاهرة، وقدمت أغانيَّ ذات الطابع الشعبى كان عبدالحليم نجم الأغنية بلا منازع»؛ قالها الأبنودى فى واحد من أحاديثه، راويًا كيف كان اللقاء الأول بفتى الأغنية الأول فى مصر آنذاك. 
بقوله: «ذات يوم كنت مع بليغ حمدى نسجل فى الاستوديو عندما دخل علينا رجلان، وسألنى أحدهما: حضرتك الأستاذ الأبنودي؟ قلت: نعم. قال: طيب عاوزينك فى الخارج خمس دقائق؛ أنا قلت هؤلاء بالتأكيد ضباط مباحث، لأن هذا هو سلوك ضباط المباحث المعتاد، يقولون لك: أنت فلان، وبعدها: عاوزينك خمس دقائق؛ فقلت إنهم ضباط مباحث جاءوا للقبض علىَّ، ولم يسمعنى بليغ لأن لوح زجاج كان يفصل بيننا».
يُكمل الخال حكايته: «رأيت (بليغ) من وراء الزجاج، وهو متكور على نفسه واعتقدت أنه يبكى، بينما هو فى الحقيقة يضحك، لأنه كان يعرف الرجلين ورأى الموقف ففهم اللبس الذى وقعت فيه، كان قصيرًا، وكان إذا ضحك أو بكى يتكور على نفسه، وخرجت معهما وأنا أعرف أننى كمن يرمى نفسه فى البحر، وفى الخارج كانت سيارة فى انتظارنا، ركب فيها أحد الرجلين إلى جوار السائق، وركب الثانى إلى جوارى على المقعد الخلفى وطول الطريق لم يتفوها بكلمة واحدة». 
من ناحيتى لم أسألهما، مع أننى لاحظت أن السيارة لا تسير فى اتجاه وزارة الداخلية، وقفنا عند عمارة فى الزمالك، أمامها كشك حراسة لم أكن أعرف أنه موجود لحراسة مقرّ إحدى السفارات، ودخلنا شقة فتح لنا بابها شاب نوبى أسمر فى ملابس سفرجى، جلباب أبيض وحزام أحمر عريض وطربوش أحمر.
ورأيت شابًا نحيلًا وقصيرًا يجلس إلى جوار الشباك، ووجدته يتجه نحوى فاتحًا ذراعيه، وقائلًا: عبدالرحمن، فدفعته بعيدًا عنى، وقلت له بين التصديق والتكذيب: إنت مين؟ إنت عبدالحليم؟ فقال: أيوه، فلم أشعر بنفسى ورحت أطارد المخبرين المزعومين، الذين أدركت ساعتئذٍ أنهما من رجاله، وكان هو يضحك من قلبه، وينادى عليَّ: تعالَ يا مجنون؛ وأنا أشتم وأصيح: نشفوا دمى، اتفضل معانا وطول الطريق ولا كلمة واحدة». 
تحكى السيدة نهال كمال عما ذكره الخال عن ذلك اللقاء: «أول ما تعرف الخال على العندليب عبدالحليم حافظ، قال له: «أنا مقدرش أغنى زى صاحبك - يقصد محمد رشدي - يعنى مثلًا ما أقدرش أقول فى إيديا المزامير وفى قلبى المسامير؛ وبالتالى تفهّم الأبنودى طبيعة غناء العندليب، وقدّم من خلال صوته مجموعة ناجحة للغاية من الأغنيات الرومانسية والوطنية أيضًا، مثل عدى النهار».
هكذا بدأ اللقاء الأول للأبنودى مع عبدالحليم الذى صار من أقرب أصدقائه فيما بعد، وكتب له خمس عشرة أغنية وطنية وثلاث أغانٍ عاطفية؛ وكان العندليب يقول: «الأبنودى قدّم لى الأغانى العاطفية رشوة لأغنى أغانيه الوطنية»، وسط هذا المزاح لم يتقاضَ عبدالحليم أجرًا عن أغانيه الوطنية، بل كان يمولها من دخل الأغانى العاطفية رغم حشده للوطنية من موسيقيين وكورال أضعاف ما كان يتيحه لأغانيه العاطفية، وكان يتحمل نفقات هذا الحشد وأجوره من جيبه الخاص، وعندما تقاضى أجرًا عن غناء «المسيح» فى العاصمة البريطانية لندن كان قد تبرع بالأجر مسبقًا للمجهود الحربى لإعادة بناء الجيش بعد نكسة يونيو ١٩٦٧. 
اقترب الأبنودى فى تلك الفترة كذلك من العبقرى متعدد المواهب صلاح جاهين الذى ذكر أنه فضفض إليه «فى لحظة زهق» كما وصفها، متسائلًا: «ألم يكن من الأفضل أن نكتب الأغانى العاطفية بدلًا من الوطنية، التى لم نجن من ورائها إلا المتاعب؟»؛ فأجابه «جاهين» بأن مؤلفى الأغانى العاطفية ربحوا المال «ونحن ربحنا الوطن». 
الموقف ذاته مع الاختلاف أداه مع عبدالحليم عندما قال له «ألا يزعجك أنى كتبت لك كل هذه الأغانى الوطنية، وأنك لم تفكر فى أن الأغنية هى مصدر رزقى الوحيد.. ألم يزعجك أننى أعمل معك منذ ستة أشهر متصلة من دون أجر؟
يومها أجابه العندليب ماكرًا «سمعتك وأنت تقول فى الراديو إن المطرب بالنسبة إليك ليس أكثر من جريدة تنشر قصيدتك على صفحاتها، وها نحن نشرنا لك قصائدك فى جريدة عبدالحليم، أوسع الصحف العربية انتشارًا، وأظن أن الواجب أن تدفع أنت لى، علّق الأبنودى متذكرًا ذلك الموقف «لم يدفع عبدالحليم، ولا أنا طبعًا ولم أفاتحه مرة أخرى فقد كنا نغنى للوطن من قلوبنا».
تزامن التعاون الفنى بين الخال والعندليب فى ذكرى عيد الثورة عام ١٩٦٥ الذى تصاف وقتها أن يسافر فيه صلاح جاهين إلى الولايات المتحدة، وقتها أراد عبدالحليم أن يحل الأبنودى محل جاهين، وأن يكتب له الأغنية التى كان يقدمها سنويًا فى هذه المناسبة، فى البداية رفض الأبنودي: «قلت له صلاح جاهين صديقى، وأنا لست يولياويًا - نسبة إلى ثورة يوليو - ولا شك فى أنه فوجئ برد فعلى واحترمه»، لكنه قال لعبدالحليم إنه مدين له بأغنية من أيام حرب ١٩٥٦ ألتى لم يتح له أن يشارك فيها لا بالقتال ولا بالغناء «وقرأت عليه أغنية الفنارة فرحب بغنائها، واقترحت عبدالعظيم محمد الذى لم يكن تعاون معه من قبل لتلحينها فوافق». 
كانت «الفنارة» بداية مشوار «الخال» مع «العندليب» وبعدها مباشرة كتب له «أنا كل ما أقول التوبة»، وهى واحدة من الثلاث أغانى العاطفية التى كتبها له، كان المدهش وقتها أن الأبنودى ذهب إلى الاستوديو، ولم يكن قد انتهى من كتابتها، لكنه ارتجلها، وهو يجلس مع بليغ حمدى، كان يكتب كوبليه ثم يلحنه بليغ، وهكذا، حتى انتهت واحدة من أشهر أغانى حليم وبليغ والأبنودى.