الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

صبي السبعينيات.. سيرة الشارلستون

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تزخر المكتبة المصرية بالعشرات من الكتب والشهادات التى سجلت ذكريات وسير أبناء الخمسينيات والستينيات، وفى المقابل قلما وجد نصٌ يسجل شيئـًا من أجواء السبعينيات، وما ميزها من ثقافة وسياسة وأدب وفن.
فى كتابه «كنت صبيـًا فى السبعينيات» (دار الكرمة، ٢٠١٧)، يحاول الناقد الفنى محمود عبدالشكور سد هذا الفراغ، عبر تقديم جزء من سيرة حياته، وتحديدًا فترة طفولته ومراهقته. وهو فى سطور كتابه يقدم تاريخ وطن وسيرة أمة وملامح شعب وخارطة سلوك وبورتريه تغير اجتماعي، كما يرصد مخاضـًا سياسيـًا عاشته مصر فى تلك الفترة.
بأسلوبه السلس الجميل، وحسه فائق الرهافة وبصيرته النقدية الناصعة، يحكى المؤلف ما كانت تعيشه مصر ثقافيـًا واجتماعيـًا وسياسيـًا وفنيـًا وإعلاميـًا، إضافة إلى الأزمات والنكسات والانتصارات والاغتيالات والرموز الفاتنة والمفتونة، والجماعات المتطرفة والمتصوفة.
يقول محمود عبدالشكور عن هذه السيرة «هذا الكتاب قطعة من حياتى وزمنى كتبتها بصدق وسعادة، آمل أيضـًا أن تصل إليكم بالحماس الذى كتبت به. فى الكتاب ما يزيد عن سبعين صورة شخصية وعامة عن أثرى فترة فى عمري، الفترة التى صنعتنى، رغم أننى كنتُ ما زلت صبيـًا، أحكى عن أبى وأمى وبلدى والمجتمع والناس والسياسة والفن والاقتصاد والرياضة والموت والحياة والبنات الحلوة وبيتنا فى شبرا وبيتنا فى الصعيد، عن أول فيلم وأول كتاب وأول مرة أمسك فيها بالقلم، لأكتب عن عبدالناصر والسادات وهيتشكوك وثومة وحليم وفريق الأبا وجماعة التكفير والهجرة وبنطلونى الشارلستون وقمصانى الملونة وزوج عمتى الشهيد فى حرب أكتوبر والمدافع المضادة للطيارات فوق كوبرى نجع حمادى وساندويتش طعمية بالفلفل الأخضر التهمته قبل أول مرة أدخل فيها السينما وما زال طعمه على لساني.. أحاول أن أسترد معكم ذكريات لم تمت أبدًا».
ينتقل عبدالشكور بذكاء شديد من ذكرياته الخاصة، إلى أحداث مهمة أثرت فى كل المصريين. إنها حكايات عن عائلة مصرية جدًا، من الطبقة المتوسطة، بدءًا من وفاة عبدالناصر، وانتهاءً باغتيال السادات!
فترة السبعينيات نفسها هى فترة تغيرات حادة وصدمات كهربائية وتقلبات سياسية واقتصادية غاية فى العشوائية والتخبط، فترة انكسارات وانتصارات.
يبدأ الكتاب بالطفل محمود الذى تفتحت عيناه فى الخامسة على مشهد جنازة عبدالناصر، والأهم مشهد أسرته وإحساس اليتم يلفها ويسكن وجدانها وينخر فى أرواح أفرادها المشروخة، هذا الطفل ابن الطبقة المتوسطة سيحكى لنا شريطـًا سينمائيـًا عن السبعينيات، سيمس وجدان كل من عاش تلك الفترة بكهرباء سحرية.
هى رحلة يصحبنا فيها محمود عبدالشكور من مدينة نجع حمادي، العاصمة الصناعية لمحافظة قنا، إلى حى شبرا العريق فى القاهرة.
يسرد الكاتب تفاصيل أول فيلم سينما شاهده وهو فيلم «من البيت للمدرسة» بطولة نجلاء فتحى ونور الشريف ورشدى أباظة من إخراج أحمد ضياء الدين.
يحكى الكاتب تفاصيل شائقة بذاكرة فوتوغرافية مدهشة، عن كل شيء، بما فى ذلك الإعلانات التليفزيونية، وملابسات اغتيال الشيخ الذهبى وزير الأوقاف الأسبق على يد التنظيم المتطرف جماعة «التكفير والهجرة» بقيادة شكرى أحمد مصطفى، وظاهرة نجم والشيخ إمام، فضلًا عن «مدرسة المشاغبين» ورحيل أم كلثوم وعبدالحليم، وحرب أكتوبر، وفوازير نيللي. 
ينسج عبدالشكور من أغانى المرحلة وحكايات أصدقاء أبيه التى كان يسمعها واختزنها فى الذاكرة صورًا للحياة فى مصر من خلال مشاهد متلاحقة سرديـًا وزمنيـًا ومتشابكة على أكثر من مستوى. يقول على سبيل المثال:
«ضيوف أبى من زملاء المهنة. الأستاذ الديساوى أصلع وضحوك، يذهبان معـًا كل أسبوع إلى قرية باسوس فى القليوبية لشراء أفضل أنواع اللحوم، ربما كان الكيلو وقتها لا يزيد على خمسة وسبعين قرشـًا. يحكى لى أبى أن المجمعات الاستهلاكية كانت تبيع كل شيء: من علب مربى «إدفينا» و«قها» حتى فاكهة التفاح. هناك صديق آخر لأبى كان يردد دومـًا عبارة لا تتغير، مازالت ترن فى أذنى حتى اليوم... اعلم يا أبتِ أن الأسرة كالخيمة، كلها ستر وغطا». لعلّ العبارة مفتاح الحكاية كلها، فتُرَ حماس الجيل للسياسة التى انتهت إلى هزائم مروعة، انفصلت الشعارات عن الحقيقة، لم تكن هناك سياسة إلا ما يتقرر من أعلى» (ص ٢٧).
ربما يصلح الكتاب وثيقة لعلماء الاجتماع السياسي، سواء عندما يتطرق الكاتب إلى دهشة الصندوق السحرى التليفزيوني، والانبهار بهذا اللاعب الأسطورة صاحب الشعر المنكوش الذى يحمل رقم ١٠ واسمه الخطيب، وحكاية أول فيلم، وأسطورة فريد شوقى ملك الترسو ومعشوق الصعايدة. كما يحكى عن السادات من تنصيبه بطلًا بعد أكتوبر إلى الهتاف ضده فى مظاهرات يناير إلى اغتياله بأيدى من فتح لهم الباب، وبصمات الوجدان السبعينى بقلظ ماما نجوى، وحكايات بابا ماجد ونادى سينما يوسف شريف، وأحاديث الشعراوي، ومقتل المذيعة سلوى حجازى فى حادث طائرة أسقطتها إسرائيل فى عام ١٩٧٣. ولا يغفل المؤلف وصف تطور الملابس فى تلك الفترة من الشارلستون والفساتين القصيرة، إلى الجلباب والحجاب.
نحن أمام بناء سردى تمَّ ترميمه من ذاكرة ثرية منقوش عليها بصمات فنانين وأدباء وساسة وبشر، ما يجعل منه مخزنـًا فريدًا لا يعرف قيمته إلا من يدرك أن سيرة الحُكَّام يكتبها المؤرخون من أعلى استنادًا إلى وثائقهم المشكوك فيها غالبـًا. أما من يكتبون سيرة الأوطان فإنهم مؤرخون يشتقون التاريخ من أرواحهم ليقيلوا الأوطان من عثراتها.
الكتاب عامر بالنصوص الشعرية وكلمات الأغانى والمواويل الشعبية والفوازير وتترات الأفلام والمسلسلات، يستدعيها صاحب السيرة ويستعيد استجلاء جمالها وأثرها، يبرزها من جديد ويلقى بها فى بؤرة الاهتمام والضوء، يقدم صفحات ناصعة من الاستجابة لجمال الفن والكلمة والصورة، ما يجعل هذا الكتاب رحلة ممتعة للقارء الباحث عن المعرفة الإنسانية بلا رتوش.