السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

في الذكرى الـ 29 لحصوله على نوبل (2-2).. الصحافة في عالم نجيب محفوظ: ديوان الحياة

مصطفى بيومي ونجيب
مصطفى بيومي ونجيب محفوظ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بهية في «بداية ونهاية» تستمد ثقافتها من المجلات الشعبية 
في «السراب» يلجأ كامل إلى «بريد القراء» للإجابة عن أسئلته الحائرة
في ذكرى حصول المواطن المصري العظيم نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب ١٣ أكتوبر ١٩٨٨، تحرص «البوابة» على مواكبة بعض جوانب إبداعه الثري المتوهج. 
إنه مبدع يتناول بعمق فني أخاذ جوانب شتى من المسكوت عنه في التناول النقدي، ونستعرض هنا جانبًا في هذا الإطار، ممثلا في رؤيته للصحافة والدور الحيوي المهم الذي تقوم به في الحياة المصرية.
توغل نجيب محفوظ في عالم الصحافة ومفرداته وشخصياته، قدّم من خلال أعمال عديدة الكثير من أنماط الصحفيين وطرقهم وأساليبهم والغايات التي يسعون إليها، كذلك اهتم بالقارئ -وهو الطرف الآخر للمعادلة- فأوضح احتياج الناس لقراءة الصحف والإقبال عليها، وتنوع الفئات التي اهتمت كل صباح بالحصول على الصحف مهما تباينت غاياتهم، فمن المعرفة إلى التسلية كانت شخصيات محفوظ المتعددة تنشغل بالصحف وتقبل عليها.
ظهرت الصحف في عالم محفوظ أيضًا كفرصة لكل من اعتقد أن لديه الموهبة أو حلم يومًا بالشهرة، فجاء أحمد عاكف في «خان الخليلي» و«كمال عبد الجواد» في الثلاثية كنموذجين اهتمت الصحافة بأحدهما وتجاهلت الآخر، وظهرت كذلك أهميتها القصوى في إدارات متابعة الصحف، كما جاءت في مجموعته «في دنيا الله»، وأيضًا اعتبارها كوسيلة للشفافية كالاهتمام بنشر الميزانية في «المرايا». 

الموظفون والصحافة
في قصة «دنيا الله»، يتوافد الموظفون على مقر العمل، لكنهم ينهمكون في نشاط لا شأن له بالمهام الوظيفية، وقراءة الصحف من أبرز أنشطتهم: «وانطلقت صفحات الجرائد في الجو كالأعلام، وقال لطفي وهو يتابع الأخبار بعينيه:
- ستكون السنة نهاية العالم».
انشغال بقراءة الصحف والتعليق على المثير من الموضوعات المنشورة فيها، وإذا يخاطب مدير الإدارة الموظف حمام آمرًا بتجهيز ملف، لا يبالي به: «فلم يرفع حمام رأسه عن الجريدة وهمس بين أسنانه: داهية في أمك!».
الأمر لا يقتصر على حمام وحده، فأعين الجميع لا تتحول عن أعمدة الصحف، وكأن هذا هو عملهم الحقيقي!
وفضلًا عن الذين ينفقون ساعات العمل في قراءة الصحف للتسلية والثرثرة، وما أكثرهم في عالم نجيب محفوظ، توجد إدارات حكومية خاصة تنحصر مهامها في متابعة المواد الصحفية المنشورة والرد عليها، ذلك أن الكثير مما تكتبه الصحف عن الوزارات والهيئات الحكومية يحتاج إلى رد وتصحيح وتوضيح، ومن هنا تظهر إدارات متخصصة لتتابع ما يُنشر، وفي قصة «مندوب فوق العادة»، مجموعة «دنيا الله»، يقترن الظهور الأول للراوي بالكشف عن طبيعة عمله: «كنت أراجع الصحف اليومية، وهو ما أبدأ به عملي عادة كل صباح».
يعمل الراوي فى مكتب الصحافة، التابع للوزير، والزائر الذي يدعى أنه مستشار برئاسة مجلس الوزراء، يبيح لنفسه أن يعلق على القصور والإهمال في الرد على الشكاوى، وهو ما يدفع الموظف الراوي إلى الدفاع عن نفسه وإدارته: «إني أوزع الشكاوى المنشورة في الصحف على الإدارات المختصة في يوم ظهور الجريدة، والإدارات هي التي تتأخر في الرد».
وفي قصة «أحلام متضاربة»، مجموعة «الفجر الكاذب»، يعمل الراوي في مطلع حياته الوظيفية بسكرتارية وزير المعارف: «كاتبًا مختصًا بشئون الصحافة».
لا تقتصر العلاقة بين الصحافة والجهات الحكومية على هذا الجانب وحده، فثمة وجه آخر لا يقل أهمية، نجده في روايتي «المرايا» و«حضرة المحترم» على وجه التحديد.
في «المرايا»، ينفعل الراوي بعد الإلغاء المفاجئ غير المبرر لقرار ترقيته، ويمارس حقه في الاحتجاج: «وذهبت إلى عدلي المؤذن منفعلًا وناقشته فيما سمعت من أنباء، ولكنه ظل طيلة الوقت صامتًا باردًا حتى تعبت وبخت، ثم قال لي بهدوء:
- أعدوا بيان الميزانية الجديدة للنشر في الصحف!».
بهذه العبارة الحازمة يغلق الموظف الكبير المتعجرف باب الحوار، ويكشف -بطريقة غير مباشرة- عن الأهمية الخاصة لبيان الميزانية ونشره، فهو عمل خطير لا متسع معه لشكوى خاصة أو احتجاج انفعالي.
وفي «حضرة المحترم»، يكشف عثمان بيومي عن خصوصية وخطورة بيان الميزانية، وجانب من هذه الخطورة يرتبط بالنشر الصحفي: «في الظروف الدقيقة الحرجة يُنسي كل شيء في الحكومة إلا الكفاءة الحقة والميزانية عمل خطير يتصل بالمدير العام ووكيل الوزارة والوزير ومجلس الوزراء والبرلمان والصحافة».
نشر بيان الميزانية في الصحف، يعني عرضه بشكل موسع على الرأي العام، وتجاوز الجهات الرسمية المغلقة، ومن هنا الخطورة والحرص على الدقة والإتقان.

قيم ونصائح
تلعب الصحافة دور الصديق والمشير والناصح المباشر لعدد من القراء، وتقدم لهم الرأي والفتوى، وتسهم في تشكيل قيمهم ومواقفهم. 
تليق الاستجابة لهذا الدور بمحدودى الثقافة والوعي، أولئك الذين يحتاجون دعمًا يعز وجوده في العالم الواقعي الضيق المحيط بهم على الصعيد الإنساني.
تأبى بهية، في «بداية ونهاية»، أن تستجيب لمغازلة خطيبها حسنين، وترى أن القبلة التي يلح في طلبها ليست حقا مشروعًا له، والمنطق الذي تتسلح به: «ألم تقرأ ما تنشره الصباح عن فتيات مهجورات لاستهتارهن؟ ألا تسمع الراديو؟».
«بهية» محدودة التعليم، ولذلك تستمد الجانب الأكبر من ثقافتها وقيمها عبر قراءة المجلات الشعبية المنتشرة في أوساط الطبقة الوسطى، وهي تبدو عظيمة التأثر بما تنشره مجلة «الصباح» عن المصائر الأليمة للفتيات المستهترات!
نموذج «بهية» هو الأكثر شيوعًا في علاقة القارئ العادي، متواضع التعليم والثقافة والخبرة، بالصحيفة وما تبثه من أفكار، فهو يفيد منها ويتواصل معها، ويتأثر بتوجيهاتها المباشرة وغير المباشرة.
وفضلًا عن هذه العلاقة وليدة القراءة، فإن عددًا من القراء يبحثون عن المزيد، ويجدون بغيتهم في باب صحفي يلقى رواجًا وإقبالًا بما يقدمه من إرشادات، ويُعرف عادة بأنه «بريد القراء».
في «السراب»، يتسم «كامل رؤبة لاظ» بالانطوائية والخجل وغياب الأصدقاء عن حياته، فمن المنطقي إذن أن يلجأ إلى باب «بريد القراء» في إحدى المجلات غير محددة الاسم، مستعينًا بالمحرر الصحفي للإجابة عن الأسئلة الحائرة التي تراوده وتؤرقه.
يقع «كامل» في حب «رباب جبر»، ويعاني من هموم وأزمات لا يستطيع أن يبوح بها إلى أمه: «بيد أني وجدت في بعض المجلات التي يقرأها جدي صفحات مخصصة لأسئلة القراء، فأملت أن أظفر منها بالمشير الذي أفتقد. 
وأرسلت إلى إحداها هذا السؤال الذي قض مضجعي: «رجل ثقيل الدم، أليس ثمة أمل أن يحبه محبوبه؟»، وكان جواب المجلة «الحب سر من الأسرار لا شأن له بالخفة ولا بالثقل، وقد يتعامى عن القبح والدمامة فلا تخف على حبك من ثقل دمك!!، وإذا جاز لنا أن نتفلسف عن طبيعة المرأة فلعله يصح أن تقول إنها مغرمة بالقوة والشجاعة!». 
سررت بمطلع الإجابة، فلما أن بلغت ختامها خامرني شعور بالخيبة، وتساءلت عما يعنيه بالقوة.. آه.. لست قويًا على أي حال».
لا توجد علاقة مباشرة بين كامل والصحف، فهو ليس ممن ينشغلون بالقراءة أو يفكرون في الكتابة، لكنه يبحث عن ناصح مشير، ينتشله من العواصف التي تحيط به، قد يبدو السؤال الذي يطرحه على المجلة ساذجًا، ولا شك أن الإجابة لا تقل في سذاجتها وسطحيتها عن السؤال، لكن العودة إلى صحف الثلاثينيات في القرن العشرين، وما قبلها، يؤكد شيوع هذا النمط من الأسئلة التافهة والإجابات الفضفاضة.
تعلق كامل رؤبة بالمجلة ينم عن وحدته المطلقة وقلة حيلته، وهو بالضرورة لا ينتظر إجابة حاسمة. 
في هذا السياق، لا غرابة في أن يعاود التجربة، وكأنه يراود علاجًا فوريًا بلا مجهود: «فأرسلت إلى المجلة هذا السؤال: «كيف أجذب محبوبتي؟»، وكان الجواب: «اذهب إلى أبيها أو ولى أمرها واطلب يدها إليه وإني كفيل بأن تحبك!». رباه، ما أقسى المجلة! إنها لا تدري أني طالب، وأن أمامي أربعة أعوام -أو ثمانية- قبل أن أصير رجلًا مسئولًا، وأنني فوق هذا كله أقدر على اقتحام أبواب جهنم مني على طرق باب محبوبتي لأطلب يدها.. يا أسفا، ألا يعلم هؤلاء الناس ما الخجل؟!».

طموح النشر 
الإمكانات الثقافية المحدودة لكامل، الانطوائي الخجول، لا تتجاوز طرح الأسئلة ذات الطابع الذاتي الأقرب إلى السطحية، وقدرته على التعبير بالكتابة تتوقف عند كلمات أقرب إلى التقريرية والمباشرة، تستهدف البوح بما يشغله من قضايا وهموم، لكن الحياة تتسع للموهوبين، أو من يتصورون أنهم من أصحاب المواهب، ويتطلع هؤلاء إلى مراسلة الصحف بحثًا عن وسيلة للنشر والانتشار، وتجسيد ما يعتمل في أعماقهم من أفكار، يلجأ هؤلاء إلى مراسلة الصحف، ويختلف رد الفعل والمردود بالنظر إلى ما يتسم به كل منهم من قدرات.
يتوهم أحمد عاكف، في «خان الخليلي»، أنه قد امتلك أدوات الإبداع الأدبي بعد قراءة عدة كتب تراثية، ويقوده الوهم إلى الكتابة: «وأمسك بالقلم وصدقت عزيمته على أن يكتب، وكتب موضوعًا سماه: «على شاطئ النيل» أفرغ فيه فنه وإلهامه، وأرسله بالبريد إلى إحدى المجلات، ومضى يتخيل ما عسى أن يستقبله به القراء من الإكبار والإعجاب، وكيف أنه قد يكون أول درجات الشهرة والمجد، وحسبه هذا، فما يطمع في أجر غير المجد الأدبي، وظهرت المجلة وفتش عن مقاله فما وجد له أثرًا، ففتر حماسه، وتعثرت أمانيه في الخجل، ولكنه لم ييأس فناجى نفسه يستنظرها أسبوعًا آخر، ومضت أسابيع دون أن تُتاح للمقال فرصة الظهور».
عنوان الموضوع يوحي بمضمونه ومحتواه، ولا شك أنه أقرب إلى التناول الإنشائي. 
لا مفاجأة في امتناع المجلة عن النشر، أما الخيالات التي تتهيأ لاستقبال إكبار وإعجاب القراء فهي مسئولية محدث الكتابة الذي لا يملك الموهبة، ويأبى إلا أن يقدم تفسيرًا بعيدًا عن المنطق: «هل أهمل القوم نشره لأن كاتبه غير معروف؟ أو لأنه لم يستشفع إليهم بشفيع؟ أو تراهم عجزوا عن فهمه؟! وفكر في أن يذهب إلى المجلة بنفسه ليقف على حقيقة الأمر، ولكنه لم يستطع لأن خجله كان يقف له بالمرصاد دائمًا، ثم تناسى آثار الصدمة الأولى، وكتب مقالًا ثانيًا عن العدالة، فلم يكن حظه أحسن من الأول، فكتب ثالثًا عن «جناية الفقر على النبوغ»، فلم يكن خيرًا من سابقيه، وتوثب للكتابة بعناد وإصرار من ناط بها أمله الأخير فحطمت محاولاته جميعًا على صخرة الإهمال الباردة، وأعاد كتابة أكثرها وأرسلها إلى مجلات مختلفة، فلم يجد بينها من ترحم أمله المعذب، وتنقذه من هاوية القنوط، وكان آخر مقال كتبه عن «تفاهة الأدب»، فضاع كما ضاع إخوته، وانكسر عن محاولاته محطم النفس مطعون الفؤاد، لقد تآمر عليه سوء الحظ -عدوه القديم- وخبث طوايا النفوس ولؤم الطباع، فلم يساوره شك في قيمة مقالاته الأدبية، بل ظنها خيرًا مما بدأ به المنفلوطي نفسه وما يتيه به كثير من المعاصرين، ولكنه سوء النية وفساد الطوية!».
يطرح أحمد عاكف احتمالات شتى لتبرير فشله، ولا يفكر فى محدودية كتابته التى لا تستحق النشر، الامتناع عن الذهاب إلى مقر المجلة لا يغير شيئًا، أما الإصرار على الكتابة فلا طائل من ورائه، ولعل تعثر النشر في مجلات مختلفة ينهض دليلًا عمليًا على أن المسألة لا تتعلق بغياب الشفيع أو العجز عن الفهم، فالسبب المنطقى الوحيد هو ضحالة وتهافت ما يكتبه الموظف المأزوم، الذي يضفي على نفسه عبقرية لا وجود لها!
ليس مستغربًا أن يحمل عاكف على من ينشرون في الصحف وينتشرون من خلالها، فها هو يقول ساخرًا: «ما هؤلاء الأدباء الذين يملأون الصحف والمجلات؟ أمن الأدب الحق أن تستعين على البروز فيه بالسياسة والحزبية؟ وهل يعجز عن بلوغ ما بلغوا من مجد كاذب إلا كريم؟».
أي منطق هذا؟! وكيف يكون جميع الأدباء الذين تنشر لهم الصحف والمجلات ممن يستعينون بالسياسة والحزبية؟! يدعى أحمد عاكف أنه قادر على بلوغ ما بلغوا، ويتغافل عن حقيقة عجزه ومحدوديته وضحالته! لا يملك ذرة من الموهبة، لكنه لا يسلم بالحقيقة ويتحايل عليها بالادعاء الكاذب!

تواصل إيجابي
ليس صحيحًا أن القائمين على إدارة الصحف التي يراسلها أحمد عاكف يتخذون موقفًا متعنتًا من إنتاجه، ذلك أن موهبته المحدودة تمثل العائق الأساس أمام نشر مقالاته التقليدية الركيكة، التى يتوهم أنها من الروائع. وفى عالم نجيب محفوظ، يظهر آخرون ممن يشقون طريقهم إلى النشر، مسلحين بالمؤهلات المطلوبة للنجاح: الجدية والثقافة والموهبة والإصرار.
في «قصر الشوق»، يبدأ كمال عبدالجواد رحلته مع النشر فى الصحف وهو دون العشرين من عمره، طالب في مدرسة المعلمين، فقد ظهر له مقال في «البلاغ الأسبوعي»، لفت أنظار أصدقاء أبيه، وعلق عليه محمد عفت مشيدًا مادحًا: «سُجل اسم ابنك مع أسماء كبار الكتاب في مجلة واحدة، طب نفسًا وادع الله أن يكتب له مستقبلًا باهرًا كما كتب لهم».
لا يملك كمال وساطة للنشر، ولم يكن مقاله المنشور فى «البلاغ الأسبوعي» عن «أصل الإنسان» هو أول إنتاجه: «لقد سبق أن نشر في الصباح تأملات بين النثر والشعر المنثور ضمنها نظرات فلسفية بريئة وأنات عاطفية».
وفي «السكرية»، يستمر تواصل كمال مع الصحف والمجلات، فقد انتظم نشر مقالاته الفلسفية في مجلة «الفكر»، حيث يرحب صاحبها ورئيس تحريرها عبدالعزيز الأسيوطي بالكتاب المتطوعين: «والواقع أن جميع كتاب المجلة كانوا من المتعاونين في سبيل الفلسفة والثقافة لوجه الله وحده!».
المسألة هنا لا تتعلق بالمقابل المادي، فالمعيار الذي يحكم النشر هو المستوى والكفاءة، وليست الوساطة والمحسوبية كما يتوهم أحمد عاكف وغيره من الفاشلين.
الأمر نفسه يتكرر مع أحمد إبراهيم شوكت، في «السكرية» أيضًا، فهو يراسل مجلة «الإنسان الجديد» بالبريد، وبعد ثلاث مقالات كان مصيرها الإهمال، نشر له مقال ملخص في باب «رسائل القراء». جدية طالب المرحلة الثانوية تفتح له باب النشر، وتتوالى مقالاته بلا انقطاع، وصولًا إلى العمل الاحترافي بعد التخرج.
رحلة مماثلة للشاعر الموهوب طاهر عبيد في «قشتمر»، وقد كان دون العشرين عندما نُشرت قصيدته الأولى: «فاجأنا بنشر أول قصيدة غزلية له في مجلة الفكر، ظهرت القصيدة تحت عنوان «الجميلات فى الحديقة «في مجلة عريقة منتشرة ومعروفة بالدعوة لروح العصر والتقدمية، إنه تقدير بكل معنى الكلمة».
موهبة طاهر هي التي تتيح له النشر، والتواصل المباشر مع المجلة ينتهي به إلى العمل الصحفي الاحترافي مع أسرة تحريرها، كما هو الحال مع أحمد شوكت من قبل.
وفي «قلب الليل»، يعود إبراهيم سيد الراوي من بعثته الدراسية في فرنسا، دون الظفر بشهادة، لكنه يتسلح بثقافة متميزة ورغبة في الكتابة: «وكان يرسل بمقالات إلى الصحف بين الحين والحين».
وبعد أن يشب الابن جعفر وينضج، يهتم بما كان يكتبه الأب الراحل ويبحث عن مقالاته: «بحثت عنها في أرشيف بعض الصحف، وهي تدور حول التوفيق بين الدين من ناحية والعلم والفلسفة من ناحية أخرى، واعتبرتها دون تحيز عصرية ومتقدمة».
فشل أحمد عاكف مردود إلى ضحالة وسطحية ما يكتبه، أما كمال عبدالجواد وأحمد شوكت وطاهر عبيد وسيد الراوي، فالموهبة هي المفتاح الذي يقتحمون به عالم النشر في الصحف والمجلات، دون حاجة إلى الاستعانة بالوساطة والمحسوبية، وبلا شكوى من التآمر والاضطهاد، ذلك أنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح.

باعة الصحف
لا يكتمل الوعي بالموقع الذي تحتله الصحافة في نسيج الحياة المصرية، إلا بالتوقف عند باعة الصحف، فهم الذي يلعبون دور الوسيط الإيجابي في عملية التوزيع، بما يضمن وصول السلعة إلى مستهلكيها.
يتسم باعة الصحف بالنشاط والحركة الدائبة، ويكتسبون بالخبرة موهبة التمييز بين المواد المنشورة لاختيار ما يحقق رواجًا البيع.
الشائع المستقر أن تُباع الصحف في الشارع، لكن البائع قد يتردد على المنازل في حالات بعينها.
 وفي قصة «ضد مجهول»، مجموعة «دنيا الله»، يتساءل الضابط الذي يحقق في جريمة قتل المدرس المتقاعد حسن وهبي: «ألا يزوره اللبان أو بائع الجرائد؟»، ويجيب البواب: «الجرائد يعود بها بعد مشوار الصباح».
السؤال المطروح ينم عن إدراك الضابط أن التقدم في السن قد يحول دون النزول إلى الشارع لشراء الصحف، فلا غرابة أن يتردد البائع على منازل بعض الزبائن.
عوكل وأبو العباس
عوكل، في «زقاق المدق»، من الزبائن المعروفين في حانة «فيتا»: «غلام في الرابعة عشرة قصير مفرط في البدانة، مطين الوجه والجلباب، حافي القدمين، يزحم الشاربين ويكرع من قدح مترع، ويتمايل رأسه سكرًا».
يتحدث عنه حسين كرشة بقدر كبير من الإعجاب والإكبار: «هذا عوكل بائع الجرائد. يبيع الجرائد في النهار ويسكر في الليل. غلام ولكن قل في الرجال مثله».
لا شيء عن تفاصيل عمله وطبيعة أرباحه، لكنه يمارس سلوكًا متفردًا يفوق سنه، ليس لأنه من رواد الحانة فحسب، بل لأنه أيضًا عاشق جسور ومسلح بالوقاحة وسلاطة اللسان: «نظر فيما حوله بعينين زائغتين ورأسه يميل إلى الوراء في عظمة وسلطنة وصاح بلسان ملتو: 
- أنا عوكل شاطر الشطار وسيد الرجال، أسكر وأنبسط، وها أنا ذاهب إلى عشيقتي، فهل لأحد منكم اعتراض؟ أهرام، مصري، البعكوكة». 
لابد من الإشارة هنا إلى دلالة النداءات التي يرددها عوكل، ذلك أن «الأهرام» و«المصري» و«البعكوكة» من أهم صحف ومجلات المرحلة، ولا يحول السكر دون استدعائه للمفردات الشائعة التي ينفق فيها نهار عمله.
ولعل محمود أبو العباس، في «ميرامار»، هو أهم باعة الصحف في عالم نجيب محفوظ. يبيع الصحف والمجلات والكتب في ميدان الرمل بالإسكندرية، وسكان البنسيون من زبائنه، ولذلك تنشأ بينه وبينهم علاقة تقترب من الصداقة والمودة، ولا تنجو من التوتر والصدام.