الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"بيزنس الخير".. سبوبة الجمعيات الخيرية و"نصباية المحتالين"

«البوابة» تفتح الملف الشائك

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ناهبو حقوق الفقراء يتحايلون للصرف من مصادر عدة.. والجمعيات ترفع شعار «هل من مزيد؟»
رحلة الحصول على 10 إعانات لشخص واحد تبدأ برشوة الموظف.. ثم تزوير بحث حالة اجتماعية.. ثم التوجه بنفس الأوراق لأكثر من جهة للسطو على أموال المحتاجين

فى الظروف الاقتصادية التى تعيشها مصر، ومع الجهود المبذولة من الدولة لإصلاح الأوضاع من خلال تنفيذ برنامج الإصلاح، بما يتضمن من إجراءات مؤلمة وإن كانت حتمية، كما يصفها المسئولون فى الدولة، هذه الإجراءات التى يقع العبء الأكبر منها على محدودي الدخل، وبالأخص من الفقراء الذين لم تكف شبكات الأمان الاجتماعي لتوفير الحماية الكاملة لهم، فاضطر الكثيرون وربما من غير المحتاجين ومن المحتالين للبحث عن أي حيل أو طريق يوفر لهم مكسبًا ماليًا ولو عن طريق التحايل.
في هذا التحقيق، تكشف «البوابة» أحد أخطر طرق التحايل التي لجأ لها كثيرون للحصول على كسب مالي «غير مشروع»، مما يمكن أن نطلق عليه «بيزنس الخير» لدى الجمعيات الخيرية التي لا هم لها سوى زيادة أعداد «المحتاجين» وقوائم «العوز» لديها حتى تتاجر بهم، وتجمع الملايين من الإعانات.

فمن جانب يضطر الفقراء من طالبي المعونات للتحايل على تلك المؤسسات والحصول على إعانات شهرية من أكثر من جهة، بل ويستغل المحتالون ثغرات ليحقق بعضهم كسبًا شهريًا يصل لـ٣٠٠٠ جنيه، ومن جانب آخر تسوق هذه المؤسسات، الأرقام، وتجعل من الفقر سلعة تروجها لكسب وحصد التبرعات، حيث لا همّ لها إلا تضخيم حجم وأرقام المستفيدين، وهو ما يجعلنا أمام مافيا مزدوجة ما بين متحايلين يحصلون على حقوق غيرهم وجمعيات كل همها جمع أكبر كم من التبرعات.
ولنعرف حجم «بيزنس الخير» الذي تديره جمعيات لا تترك فرصة للحصول على أكبر كم من التبرعات، علينا أن نقرأ الأرقام المعلنة، حيث يبلغ حجم النشاط الخيري في مصر ٥٥ مليار جنيه من ٦٥٥ مليار جنيه على مستوى العالم، وتنشط الجمعيات الخيرية في الأشهر ذات القدسية مثل رمضان أو قبيل عيد الأضحى، حيث تعلق الإعلانات «الأوت دور»، وتتهافت شركات الدعاية والإعلان على تلك الأنشطة، وخير دليل وصول سعر الباقة الإعلانية الواحدة في إحدى القنوات الفضائية لنحو ١١ مليون جنيه لنشر إعلان مساحته ٣٠ ثانية فقط، لحث المشاهدين والمارة على التبرع.
في المقابل هناك مافيا منظمة تخصصت في بيع وترويج الشهادات الطبية المزورة والأبحاث الاجتماعية، ليحصل المحتالون وغير المستحقين على معونات من المفترض أن تذهب للفقراء، إلا أنها تذهب في طريق آخر غير الذي يجب أن تسلكه، تذهب لجيوب محترفين جعلوا من الفقر والعوز عملًا لهم يحصلون من خلالهم على معونات من أكثر من جهة وجمعية!
خاضت «البوابة» تجربة عملية اكتشفت من خلالها أن الحصول على إعانة أمر ليس صعبًا، بل من اليسير الحصول على تلك الإعانات من أكثر من وزارة وجمعية خيرية مثل وزارات التضامن الاجتماعي والأوقاف ومشيخة الأزهر وجمعيات مصر الخير والأورمان وغيرها.
لا يحتاج الحصول على الإعانات والأموال بهذا الشكل مجهودًا سوى العمل وفق مصطلحات مثل «فتح دماغك» و«الرشاوي تجعل في البحر طريقًا»، ليستولى المحتالون على حقوق غيرهم من المرضى وغير القادرين الذين لا يعرفون عن هذه الجمعيات شيئًا، وتضيع حقوقهم وسط عمليات النصب التي وصلت لدرجة محاربة «الجمعيات الخيرية» لمشروع تعمل عليه وزارة التضامن لإنشاء قاعدة بيانات ضخمة تهدف لمنع ازدواجية الصرف وتقليل عدد المستفيدين ورفع حجم الإعانة لترتفع من ٢٠٠ و٣٠٠ جنيه إلى ١٢٠٠ جنيه.
وتبدأ رحلة الحصول على إحدى هذه الإعانات من مكاتب الخدمة الاجتماعية بالمستشفيات الحكومية، وتحديدًا من مستشفيات المنيرة العام وهيئة التأمين الصحي بالجيزة، فما عليك سوى الدخول على موظف الخدمة الاجتماعية، وإجراء المحادثة التالية.

يسألك الموظف بابتسامة صفراء: «طلباتك إيه أؤمر».. لترد: «عايز أعمل تقرير طبي»، ليعاود الموظف السؤال: «فين الحالة المريضة علشان نشوف أوراقها أو تتعرض على قومسيون طبي يقرر مريضة بإيه» لترد ثانية: «موجودة وبتصرف علاج على نفقة الدولة لأنها تعانى من مرض خبيث وأورام سرطانية، لكن للأسف مش قادرة تتحرك والأوراق ضاعت».. الموظف: «فين الأشعة والتحاليل عشان لازم تتعرض على الطبيب للكشف»، لترد: «معلش عايزين نمشى حالنا، وكله بثوابه وبعدين ده مريض».
ببساطة وبعد الاتفاق على «المعلوم»، يخرج الموظف من الدرج الذى أمامه سجلا كبيرا مكتوبا عليه «تقارير طبية»، ليدون فيه أن «الحالة» مصابة بأورام خبيثة، ثم يقوم بالختم بختم النسر والتوقيع محل الطبيب.
يعيد الموظف سؤالك: «عايز لأي جهة توجه التقرير، وهى كالتالى «بنك ناصر.. التكافل.. الأزهر.. والأوقاف»، لترد «عايز ٣ جهات»، ليستوقفك مسئول الخدمة الاجتماعية معترضًا: «حيلك حيلك.. هو مكان واحد بس، وبعدين فيه جهات إذا حبيت تصرف منها لا بد من وجود كارت صادر منها حتى تحصل على تقرير»، وبعد مفاوضات مع الموظف، يعد لك ٣ تقارير طبية موجهة لثلاث جهات.
من باب الدردشة يكشف لنا الموظف أن بعض محترفى النصب يحصلون على الإعانات الخيرية من ١٠ أماكن، حيث يمكن أن يحصل الفرد الواحد على إعانات من بنك ناصر الاجتماعى وبنك فيصل ووزارة الأوقاف والتكافل الاجتماعى و«مصر الخير» و«الأورمان» والأزهر والجمعيات الشرعية، وهذا لا يكلف «النصاب» أكثر من ١٠٠ جنيه إلى ٨٠٠ جنيه كل ٤ شهور.
ويوضح الموظف أن هناك بعض الجهات انتبهت لحيل النصابين، ومن بينها «التكافل الاجتماعي» التى وضعت نظام معلومات وبطاقات لتسجل أسماء المستفيدين منها، لمعرفة عددهم وحصر كل الإعانات وصار فيها لوضع حد لازدواجية الصرف، حيث تسلم هذه الإعانات عن طريق الكروت الذكية.
وحسبما تُبيِّن إحدى مسئولات مكاتب الخدمة الاجتماعية بالمستشفيات فإن مكتب الخدمة الاجتماعية لكل مستشفى يستقبل يوميًا ما لا يقل عن ١٠٠ شخص لعمل تقرير طبى لصرف إعانات من التكافل الاجتماعى وبنك ناصر وغيرها، لافتا إلى أنه عندما بدأت بعض الجهات فى التحفظ ووضع بعض القيود على الصرف من خلال التسجيل الإلكترونى، انخفض عدد التقارير اليومية إلى حوالى ١٠ تقارير فى اليوم الواحد بحوالى ٣٠٠ تقرير شهريًا.

وأشارت المسئولة إلى أنها اكتشفت وجود بعض المرضى التي يلجأون للتحايل لعمل أكثر من تقرير، بل إنها تحفظ الكثير من وجوههم، وبعضهم ممن يجلسون بجوار مسجد السيدة زينب.
بعد الانتهاء من أولى خطوات صرف الإعانة لإعداد التقرير الطبي، توجهنا إلى الوحدة الاجتماعية الموجودة بالحى التابع لمحل الإقامة لعمل بحث اجتماعى عن حاجة المريض واستحقاقه الحصول على إعانة خيرية، بأنه ليس بحيازته أرض أو أملاك، ولا يملك مصدر دخل يعينه على متاعب الحياة، وأنه غير قادر على ممارسة أية مهنة.
ولأنه من المفترض أن تشكل الوحدة الاجتماعية التابعة للحى لجانًا للتأكد من كل هذا حتى تثبته فى البحث على الطبيعة، وتقوم بعمل تحرياتها وزيارة المريض على العنوان المدون فى أوراق المريض، وهو ما يستلزم فترة زمنية قد تزيد على الشهر، يتحايل طالب الإعانة على كل ذلك عن طريق شراء بحث جاهز يجنبه كل هذه الإجراءات التى يراها معطلة.
وحسبما قال أحد طالبي الإعانة والذي يرى «أن الإعانة حق من حقوقه وليست عطايا من الدول»، فإن إعداد بحث اجتماعى مزور هو المخرج الوحيد للخروج من تحت رحمة الموظفين، وتعنتهم للتربح والحصول على أية مصلحة منهم، مؤكدا أن البحث المزور يأتيه وهو نائم فى بيته، ويمكنه من صرف الإعانة بعد التوجه به إلى جهات الصرف.
ولا تستغرب فحسبما كشف لنا العميد عصام الدين حسن مدير مؤسسة التكافل الاجتماعية «معونة الشتاء»، فإن أحد العاطلين وتجار بيزنس الفقراء يتربح مرتبا لا يقل عن ٣ آلاف جنيه شهريا عن طريق ضرب هذه التقارير، وتقديمها، وذلك لأنه لا يتم تسجيل المستحقين إلكترونيًا، ولا يخصص للحاصل على الإعانة رقم داخل وزارة التضامن يجبر هذه الجمعيات على الحصر الحقيقى لكل شخص وأسماء من يعول.
وشدد مدير مؤسسة التكافل الاجتماعية على أن عدم وجود أنظمة ذكية وتسجيل إلكترونى فى المستشفيات الحكومية، يجعل التزوير فى التقرير الطبى أكثر من مرة وحصول أكثر من مريض عليه سهلًا، نظرا لتسجيل اسم صاحب الحالة فى دفتر ورقي. وحسبما يكشف العميد عصام الدين حسن، فإن عدد الجمعيات الأهلية يصل لـ٤٥ ألف جمعية، ولا يوجد حصر لبياناتها بالكامل، مشددًا على أن العمل بموجب قاعدة بيانات ضخمة يساهم فى القضاء على عصابات تزوير التقارير الطبية والأبحاث الاجتماعية.
من جانبه بيَّن الدكتور يوسف محمد الخبير الاقتصادى، أن دراسة أجريت فى أواخر ٢٠١٣ عن حجم النشاط الخيرى فى مصر، وقدر بـ٣٣ مليار جنيه، لافتا إلى أن مصادر تمويل هذه الجمعيات يأتى من الطبقة المتوسطة وبعض الأغنياء. وانتقد الخبير الاقتصادى الجمعيات الخيرية التى تسوق الفقر وتجعل منه سلعة تتاجر بها على المواطنين، فى المقابل لا بد من تبنى مشروعات تنموية تدير اقتصادًا منتعشًا وترفع مستويات الدخول للمواطنين، لافتا إلى أنه توجد علاقة طردية بين ارتفاع نسب البطالة وزيادة أنشطة التبرعات والأعمال الخيرية.