السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مقاهي الغرباء.. "بحثًا عن دور" لشاب "عادي" جدًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعد رؤية متكررة للمشهد ثم اعتياد، بعدها لن تصيبك دهشة كبيرة وأنت تمر بين تجمعات الجالسين على المقاهى من أولئك الشباب، ستقل عملية طرحك للأسئلة مع كل مرور جديد على مقاهى الشوارع الواسعة التى تنفتح براحًا مزدحمًا للجالسين يلعبون ويأكلون ويصخبون، لن تلتفت بعد ذلك وأنت تمضى بينهم فالاعتياد يصنع ألفة الأشياء.
ومع الوقت ستعتاد أيضًا على رؤية لون السماء فوقهم مختلفًا لونه، رماديًا قاتمًا مزعجًا خانقًا تصنعه أبخرة الشيشة وأدخنة السجائر التى لا يفلت من نصيبها جالسًا واحدًا أو هكذا ترى، تلاحقك قوية وأنت فى الطريق نحو السوبر ماركت، ما سيدهشك حقًا هو أن هذا المقهى الصغير الذى كان يفتح بابيه الكبيرين ليجلس القادمون داخل ساحته الداخلية فرادى متناثرين، قد امتد الآن خارجه فى كل الفضاء المتسع المحيط به وعلى مساحة تقترب من ملعب كرة رياضى كامل المواصفات، لكنه يخلو من الرياضيين وألعابهم، ثم إذ بهذا المقهى يضع فى كل زاوية شاشة تلفزيونية ضخمة تعرض مباريات كرة وأخرى ليتحلق عليها من يلعبون «البلاى ستيشن» وثالثة وهكذا وعلى مدى الرؤية إذ تمتد، يسير فى طرقاتها بخفة طائر شباب يحملون خدمات المقهى، مسرعين لاهثين يلاحقون طلبات الزبائن التى لا تتوقف.
السؤال الذى لا يمكنك أن تنفلت منه هو أى معادلة اقتصادية غريبة تحكم هذا المشهد؟، ومن أين يأتى كل هؤلاء الذين يملأون المكان يوميا بنفقات كهذه فى ظل شكوى عامة من وضع اقتصادى صعب، لن يمكنك الصمت تفكيرا أيضا عن كيف نمت خدمات المقهى بفكر استثمارى ضخم يعبر عن قدرة على جذب هذا النمط من الزبائن؟، حيث تناثرت على جانبى بوابته الخارجية عربات تبيع ساندوتشات الفول والطعمية وأخرى للسجق والكبدة وثالثة للآيس كريم، ثم بعدها ظهرت فتيات فى ملابس نظيفة مهندمة يعملن على عربات صغيرة، يصنعن ويقدمن حمص الشام والزلابية وغزل البنات، ويستمر هذا التواجد حتى تكاد الساعة الثالثة بعد منتصف الليل تحل.
مئات من شباب صغير فى عمر الجامعات يجلسون هناك، ويتولى الإنفاق على مقهاهم الليلى - والذى يتسع رويدا- آباء يرزحون كل صباح تحت وطأة شكوى من الغلاء، تغيب هنا سلطة الأسرة الموجهة لتحل محلها سلطة رفاق المقهى، بينما يختفى الأب بحثا عن شيء ما «من هنا أو هناك» يمول به رحلات المقهى للجميع.
سيدهشك مفارقة هذا النمو التجارى وتضخم الأنشطة حيث هنا يتوسع فكر استثمار المقهى وتأفل أفكار تطوعية وإنتاجية مهمة تشكل عنصر جذب ومجالا بديلا ومضيفا معا لتضم أغلب هؤلاء.
عشنا زمنا نذهب إلى مدارس وجامعات واحدة، ونشترى ذات الطعام غالبا ونرتدى ملابسنا من ذات الأماكن، وكانت الأحوال بتعبير الحمد والرضا ميسورة، وكان جلوس أحدنا على المقهى لشرب كوب شاى فقط علامة خطر لدى الأهل، وإنذارا للزملاء بأن هذا الشخص فى طريقه نحو ما هو معروف: «خيبة أمل»، تمر الأيام ولا يحتاج الشاب أن يستأذن أو يتخفى ليقول «بفم مليان» أمام من شاء له الاستماع أنه جالس على مقهى أو كافيه معبق بالدخان، ثم لا ينتظرون جوابا.
نبحث هنا عن دور مهم وضرورى لوزارات ذات صلة وثيقة بالأمر، ولا بد أن يتجلى فى دراسة مهمة عن الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة التى تتشكل حضورًا واضحًا فى مختلف المحافظات، هدف الدراسة أن تنتج خططًا واقعية عن كيفية تفعيل دور الشباب منتجين ومضيفين فى الحياة العامة، وكيفية الاستفادة من كل هذا الوقت المهدر فى المشاركة فى جهود تطوعية تجتذب طاقاتهم وتشعرهم بإمكانيات الفعل والمساحة، وحتى لا يكونوا خارج معادلة العطاء المجتمعى وعبئا اقتصاديا وأسريا فضلا عن كونهم خارج سياقات الحالة المجتمعية مشاركة وفهما ودورا.
القضية تبدو لها أولوية ويجدر أن يتم تضمينها فى كل استراتيجية موجهة للشباب، وهنا يجدر التركيز على توسيع إطار التعامل مع الشباب ليتخطى إطارًا تقليديًا يركز على الشباب المبادر والموهوب أو أصحاب المهارات والقدرات، ليكون المشروع الحقيقى والأهم هو الكتلة الأكبر عددا ومساحة وتأثيرا ممثلة فى المتوسط العام للشباب، أى من ليسوا فقط من المميزين والمخترعين وأصحاب الرؤى، الشباب العادى البسيط والذى هو كما حال كل المجتمعات يمثل الكتلة الأكبر، تحتاج إلى فهم ورعاية أهم وجهد أكبر يخرجهم من حالة ابتعاد وانشغال بلا شيء، هى استراتيجية أولى بالرعاية والاهتمام والتفكير من قبل الوزارات والهيئات المعنية، حين لا تقف بفكر التعامل مع الشباب عند حيز قطاع ممارسة الرياضة أو رعاية الموهوبين وهم يظلون فئة مهمة ولكنها محدودة وقادرة على إيجاد صيغ تواجدها، بل تتوجه نحو المساحة الأكبر من الشباب ببرامج نوعية ومتنوعة والاستفادة منهم على كل مستوى إقليمى ومحلى لتكون مبادرات فعالة فى تنمية محلية حقيقية، مهمة ومؤثرة وأيضا محدودة التكلفة. سيكون ذلك بمثابة تغيير مؤثر ومضيف حين تتقلص مساحات تلك الفضاءات من المقاهى التى تتسع كل يوم، وهى تنمو لتأخذ من طاقة وعطاء وتفكير الشباب، وهو دور يجدر أن تتفرغ له هيئات ذات صلة وثيقة بالأمر ومعنية، وهو أمر يستحق من زاوية الدور المجتمعى والأثر كل الجهد والمحاولة.