الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

عيد الأم.. رحلة الباحثات عن الرزق من القرية إلى المدينة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«عطيات» أم لـ«4 بنات وولد» وتنفق على 4 أحفاد
«بثينة» تسافر من بنها إلى «سوق الساحل» وتأمل الحصول على معاش
«عزيزة» من المنوفية وتدخر لإجراء جراحة لابنها 

«الجميلات هُنَّ القويّاتُ.. يأسٌ يضيء ولا يحترق.. الجميلات هُنَّ الأميرات.. رَبَّاتُ وحيِ قَلِق.. الجميلاتُ هُنَّ القريباتُ.. جاراتُ قوس قُزَح.. الجميلات هُنَّ البعيداتُ.. مثل أغانى الفرح.. الجميلات هُنَّ الفقيراتُ..كالورد فى ساحة المعركة»، لم تجد «البوابة»، أفضل من كلمات محمود درويش، لتصف الريفيات الكادحات اللاتى قابلتهن فى الأسواق يعملن بجهد وعرق، وفى ظروف صعبة، يبدأن رحلتهن مع أول ضوء للفجر من القرى الى العاصمة، سعيًا وراء الرزق، ليعدن ليلًا، بعد يوم طويل، ليخطفن ساعات قليلة من النوم قبل بدء رحلة جديدة للإنفاق على أسرهن.
تجلس فى هدوء بجلبابها الفلاحى، أمام مجموعة متنوعة من الخضار والفاكهة، ملامحها سمراء احترقت من أشعة الشمس التى تلاحقها منذ بداية يوم عملها، محفور على وجهها تجاعيد تكشف عما فعله الزمن بها من شقاء وحياة صعبة، هى عطيات فهمى، البالغة من العمر ٦٥ سنة، إحدى بائعات الخضار بسوق الجسر بحى الساحل.


تقول عطيات لـ«البوابة»، إنها تستيقظ فى الثالثة فجرًا من أجل شراء الخضار من أصحاب الأراضى، ببلدتها شبين القناطر، التى تبعد عن القاهرة مسافة ساعتين بالسيارة، ثم تتجمع مع باقى الفلاحات لتنتظر سيارة نصف نقل تقلهن إلى السوق.
وأضافت عطيات: «أنا أم لأربع بنات وولد، وزوجة لرجل أصابه المرض والشلل قبل ٢٠ عامًا، فأصبحت الأم والأب للأولاد، ولم أكلّ من السفر يوميًا من قريتى لسوق الخضار، لأننى أعلم حجم المسئولية الملقاة على عاتقي». 
وتابعت عطيات: «أنا تحملت البهدلة والتعب عشان خاطر بناتى ميتبهدلوش وميخرجوش للشارع، فهم لايعرفوا صنعة ولا معاهم شهادة، والحمد لله زوجت ثلاثة منهم وأحضر جهاز الرابعة من النقود القليلة التى أدخرها من بيع الخضار، واختبرنى الله فى فقدان ابنى الأصغر، الذى مات وترك لى ٤ أطفال، أصبحوا معلقين فى رقبتى حتى أموت، بعد أن تركتهم أمهم وتزوجت».
وبسؤالها عن آخر هدية حصلت عليها فى عيد الأم، ضحكت عطيات فى أسى وقالت: «هدية إيه يا أبلة، أنا هديتى ولادى يكونوا مستورين، وربنا يقدرنى على تجهيز البنت الصغيرة، وتربية العيال الأيتام، ومش عايزة حاجة فى عيد الأم غير الستر والصحة».
صمتت قليلًا واستكملت: «أنا الصراحة نفسى أعمل عمرة، باحلم كل فترة أننى عند مسجد النبى أصلى هناك، نفسى الرئيس عبدالفتاح السيسى، يسمعنى ويلبى رغبتى، بأسمعه فى التليفزيون مهموم بالفقراء، ومتأكدة إنه لو سمع طلبى هيساعدنى أروح أشوف النبي».


تجلس الحاجة بثينة عمران، أمام أكوام من البرتقال الطازج، وتغلف وجهها ابتسامة مليئة بالرضا والسلام النفسى، رغم كبر سنها وصعوبة العمل، تحكى لـ«البوابة» أنها تسافر يوميًا من مدينة بنها، إلى القاهرة لبيع الفواكه، بعد أن كانت تملك قيراطين من الأرض تعيش الأسرة من ريعها، وأن ما تملكه من أرض ضاع على مرض الزوج، الذى توفى قبل أكثر من ١٥ عامًا.
أضافت بثينة: «أنا سعيدة بقدرتى على العمل، ولا أنتظر إحسانًا أو عطفًا من أبنائى الذين بات لكل منهم حياته وأسرته، ورفضت النوم فى البيت، وأعمل لمدة ١٢ ساعة يوميًا».
وتتابع بثينة، أنها كانت تأمل الحصول على معاش شهرى تنفق منه على الأدوية التى تتناولها، خاصة أن زوجها لم يكن موظفًا ولم يترك لها معاشًا، مؤكدة أنها حينما تمرض تذهب لأحد المستوصفات الطبية، رغم زحامها وسوء المعاملة فيها، إلا أنها لا تقدر الذهاب لعيادة خاصة لارتفاع قيمة الكشف.
أما عن احتفال أولادها بعيد الأم، قالت «أجمل حاجة بتحصلى فى هذا اليوم زيارتهم جميعًا لى فى بيتى، لا أنتظر الهدايا بقدر انتظارى للاطمئنان عليهم». 


«الجبنة الفلاحى، والفطير السخن، والبيض البلدى، هتدوق وتدعيلى، هكذا كانت تنادى عزيزة محمد على بضاعتها التى أنتجتها فى بيتها بالمنوفية لتبيعها لسكان العاصمة.
تقول عزيزة: «نستيقظ والناس نايمة، ونرجع بلدنا بعد الناس ما تكون نامت، يوم طويل وشاق، لكن ما باليد حيلة، هعمل إيه، جوزى يعمل غفيرًا بمدرسة، ومرتبه لا يكفى الإنفاق على أسرة مكونة من ٧ أولاد، فلم يكن هناك بديل سوى نزولى للبيع بالأسواق».
وأضافت عزيزة: «نفسى فى يوم أستريح ومنزلش للشغل، نفسى أروح للدكتور عشان أتابع الضغط والسكر، لكن بوفر ثمن الكشف عشان خاطر أولادى، خاصة ابنى الصغير فى المرحلة الإعدادية، الذى أصيبت عينه أثناء لعب الكرة، وتتطلب جراحة تتكلف ١٣ ألف جنيه».
صمتت عزيزة للحظات، وامتلئت عيناها بالدموع، ثم استكملت: «أنا تعبت أوى، كل يوم سفر، مفيش فرق، شتاء أو صيف، لازم أنزل عشان أبيع الجبنة والفطير، وحتى عند العودة للمنزل هناك عمل ينتظرنى من خبز الفطير وتجهيز «المش» وجمع البيض من الجيران بالقرية للبيع فى اليوم التالي». 
وعن هدايا عيد الأم، قالت: «ولادى اشتروا لى موبايل العام الماضى ليطمئنوا به عليا أثناء سفرى كل يوم، ولادى هما التعويض الحقيقى من ربنا لكل التعب والشقاء اللى بشوفه فى حياتي».
وتابعت عزيزة: «قدمت أوراقى لبرنامج تكافل وكرامة للحصول على معاش الضمان الاجتماعى، حتى يساعدنى على المعيشة بجانب عملى، إلا أنهم رفضوا الورق، لأن زوجى موظف، الاسم متجوزة، لكن أنا المسئولة عن كل كبيرة وصغيرة فى البيت، وزوجى أصبح يستسهل فكرة عدم إنفاقه على المنزل، طالما أنا أنفق». وهنا انهارت عزيزة فى البكاء، وطلبت التوقف عن الكلام. وتقول فايقة على، التى تبلغ من العمر ٤٥ سنة، من أجهور الصغرى بمحافظة القليوبية: «الشغلانة ملهاش مواعيد، بخرج من بيتى بعد صلاة الفجر لتجميع الخضار، ثم السفر إلى القاهرة، وأحيانًا البيع يكون نايم وبرجع بالخضار تانى». 
اضافت فايقة: «عمرى ٤٥ سنة، ولدى ٥ بنات، أنا المسئولة عنهم بعد مرض الزوج وجلوسه بالبيت»، معبرة عن حزنها، لعجزها عن دفع مصروفات المدارس، وعدم قدرتها على جعلهن يستكملن تعليمهن، ووتابع: «أخشى عليهن من نفس مصيرى، ويضطروا للتواجد فى الأسواق، ومواجهة المشكلات يوميًا مع الزبائن والبلدية التى تلاحقهم أثناء افتراشهم الأرض للبيع».
أحلام فايقة ليست كبيرة، فهى تتمنى أن تتدخر مبلغًا من بيع الخضار لبناء بيتها بالطوب الأحمر، بدلًا من البوص والأخشاب، لحماية بناتها من أمطار الشتاء وحرارة الصيف، وأن تتمكن من تجهيزهن ليتزوجن بالقرية، مؤكدة أن بنات الفقراء لا يتزوجن، وقالت: «نفسى أفرح بهم وميدفعوش ثمن ظروفنا المادية الصعبة».
والتقت «البوابة» أثناء جولتها فى السوق بأصغر أم، وهى عيلة محمد، من قرية الشواشنة بالفيوم، تبلغ من العمر ٢٩ سنة، أم لثلاثة أطفال، أصبحت مسئولة عنهم بعد الطلاق، ورغم أن اسمها عيلة، فإن عائلتها تفككت بفعل انصراف الزوج فى طريق المخدرات، وتركه أبناءه بلا عائل.
تقول عيلة «كان عمرى ١٤ سنة، وصمم أبى على زواجى، ولم أستطع وقتها رفض طلبه، حتى امى لم تكن قادرة على الوقوف أمامه، تزوجت ولم أجد يومًا طيبًا فى حياتى مع الزوج، وعشت معه ١٥ سنة أنجبت فيها بنتين وولدًا».
وأضافت: «نزلت لبيع الخضار بالأسواق بعد طلاقى الشهر الماضى، حتى أستطيع الإنفاق على أولادى، فأبى رجل معاشه ضعيف ويكفيه بالكاد، وطليقى يقول لأبى، روحوا المحاكم واشتكونى بس مش هدفع ولا مليم نفقة». 
تستكمل عيلة فى حزن: «ليس أمامى سوى العمل، أنفق ٨٠ جنيهًا يوميًا مواصلات، ولا يتبقى معى مكسب من اليوم سوى ٥٠ جنيهًا، نفسى يكون عندى معاش للإنفاق على مرض ابنى الصغير، فهو لديه مشكلة فى التخاطب، وتكلفنى الجلسة الواحدة ١٠٠ جنيه، وهو يحتاج جلستين بالأسبوع». 
اختتمت عيلة حديثها: «كان نفسى أعيش زى كل البنات، تكون لى أسرة وزوج يتحمل المسئولية ولكن أصبحت أم ومطلقة وعمرى ٢٩ سنة لأبدأ رحلة المعاناة طوال حياتى الباقية».
وتقول منى عزت، مدير برنامج المرأة والعمل بمؤسسة المرأة الجديدة لـ«البوابة»: «هؤلاء الفلاحات اللاتى يندرجن تحت فئة عاملات الزراعة لا يتمتعن بأى حماية قانونية، وفقًا لقانون العمل رقم ١٢ لسنة ٢٠٠٣، حيث استثنى القانون فى باب لائحة تشغيل النساء هذه العمالة، ومن ثم يتعرضن لمشكلات كثيرة، وانتهاكات أبرزها العمل دون ساعات محددة، يمكن أن تستمر طوال اليوم مثلًا، ليس لهن حماية تأمينية أو اجتماعية أو صحية حال إصابتهن أثناء العمل».
وأضافت منى: «أبناء هؤلاء العاملات لا يجدوا أى دعم بعد إصابة أو وفاة الأم، ويتعرضون للحرمان من التعليم والمعيشة الكريمة، نظرًا للأجور غير المنتظمة والمنخفضة فى ذات الوقت»، مشيرة، إلى أن هؤلاء الريفيات يعتبرن عمالة موسمية، ويجب إدراجهن فى قانون العمل الموحد الذى من المقرر مناقشته فى البرلمان خلال الفترة المقبلة، لتوفير نظم تأمينية للحماية الاجتماعية لهن ولأسرهن، مؤكدة على أهمية التمكين الاقتصادى للنساء من جانب الدولة، خاصة فى ظل وجود إحصائيات تشير إلى أن ٣٠٪ من العائلات الفقيرة فى مصر عائلها الوحيد من النساء، وهذا لا يشمل عائلات الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة العليا، التى تعتمد فيها الأسر بشكل متزايد على الدخل المشترك للزوج والزوجة بسبب غلاء المعيشة والأزمة الاقتصادية، وهو ما جعل مشاركة النساء فى الاقتصاد أمر ضرورى.
وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن النساء يمثلن ربع قوة العمل فى الاقتصاد الرسمى، بينما ترتفع نسبة النساء العاملات فى قطاع الاقتصاد غير الرسمى لقرابة النصف، حيث يعمل ٧٥٪ منهن بدون أجر.