الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة «15»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعالت فى الآونة الأخيرة مواقف وأحداث تشير إلى صعوبة الطريق نحو بناء «الدولة المدنية الحديثة»، إذ بموجبها نتأكد من بقاء الكثير من الممارسات التى نهضت الثورة المصرية، يناير/يونيو، لتزيلها من طريق الشعب الباحث عن فرصته المشروعة فى تحقيق تنمية شاملة حقيقية تتناسب ومشواره الطويل المُشرف عبر المسيرة الإنسانية، ومدى إسهاماته المؤثرة فيما حققته البشرية من تطور.
والواقع أن ما نشير إليه من عقبات على طريق بناء «الدولة المدنية الحديثة» لا يُعبر إلا عن مشقة عملية التحول الديمقراطى المنوط بنا تحقيقه، ذلك أن جدية خطواتنا صوب «الدولة المدنية الحديثة» لا يمكن تأكيدها فى ظل ما تشهده المرحلة الانتقالية التى نمر بها داخل نفق التحول الديمقراطى من تجاذب إلى الأمام تارة، وإلى الخلف تارة أخرى.
فليس من شك أن مقومات «الدولة المدنية الحديثة» تتطلب من الجميع إعلاء شأن المصلحة الوطنية، وتغليبها على كل مصلحة ذاتية مهما عظُمت فى أعين أصحابها، ومن ثم لا بديل عن رشادة الحكم، وترسيخ قيم سيادة القانون، والشفافية والمساءلة والمحاسبة، وحرية الرأى والتعبير.
الديمقراطيون فقط هم من يصنعون نظامًا سياسيًا ديمقراطيًا. وللديمقراطية سُبل وأدوات وآليات معروفة ومتبعة لا يمكن الالتفاف عليها، ولو بشكل استثنائى، ما لم يكن الأمر فى إطار تراكم يظل يتنامى إلى أن ينتج نظامًا ديمقراطيًا حقيقيًا، لا تشوبه تشوهات، ولا تلحق به الشكوك، ولا تمتد إليه ممارسات لطالما عانت منها الدولة كلها، لا أقول الشعب فقط، بل كل أركان الدولة وعناصرها، شعبًا وإقليمًا ونظامًا سياسيًا. من هنا أُشير إلى الآتى، عسانا نصحح الكثير من الخطى، فتتحد الخطوة، وينخرط الجميع يبنى بحق «دولة مدنية حديثة» تتبنى تطلعات الشعب المشروعة نحو حياة كريمة حرة، فأقول:
• «حكومة سياسية منتخبة» تُعد سمة أساسية لا تغيب أبدًا فى كل «دولة مدنية حديثة»، على عاتقها تتحقق رؤية وطنية شاملة، بموجب استراتيجية عامة ليست محل جدل بين أغلب أبناء الوطن. ذلك أمر لا مفر منه إذا كان لخطواتنا الكثير من الجدية. وغير ذلك تراوح الخطى موقعها، فلا جديد أنشأنا، ولا صديق صدقنا. وقد يقول قائل إن الحكومات التكنوقراط موجودة فى بعض الظروف فى مجتمعات بلغت بالفعل حدود «الدولة المدنية الحديثة». وعليه أرد أن حكومتنا ليست تكنوقراط، قدر ما هى حكومة موظفين تتم ترقيتهم إلى درجة وزير، ومن ثم الرؤية غائبة، والتطور السياسى يجد منهم كل تجاهل وعنت.
• من جهة أخرى، فإن مجتمعًا خارجًا لتوه من ثورتين شعبيتين، لا بد وأن يتطلع إلى آفاق بعيدة من الحكم الديمقراطى الذى لا يتحقق إلا فى وجود حكومة «سياسية منتخبة»، فهى القادرة بالفعل على توسيع قاعدة المشاركة السياسية، وتحقيق التنمية السياسية فى أعمق صورها، بما ستضيفه إلى المشهد السياسى من حيوية، فضلًا عن قدرتها على استلهام اتجاهات وتفضيلات وانحيازات الرأى العام بما تمتلكه من قواعد شعبية أوصلتها إلى مقاعد الحكم. إلى جانب ما ستوفره الحكومة «السياسية المنتخبة» من استقرار على طريق التحول السياسى بموجب ما تتمتع به من أغلبية، حتى وإن نشأت من رحم تكتل برلمانى حاكم.
• ليس فى حديثى ما يدفع عن «أى» حكومة «سياسية منتخبة» احتمالات الفشل أو الإخفاق عن تحقيق الأهداف المنوط بها بلوغها. غير أنها لا شك ستعمل فى مناخ صحى من الرقابة البرلمانية والشعبية بما يضمن تمسكًا أقوى بأسباب النجاح، وسُبل التنمية المنشودة. وبالتالى ليس متوقعًا لها أن تقع فيما وقعت فيه الحكومة الحالية من ممارسات تطعن بالقطع فى قدرتنا على إنجاز متطلبات «الدولة المدنية الحديثة». ومن ذلك على سبيل المثال:
١- تلاحق الأزمات المجتمعية فى أمور بسيطة لا تتطلب إلا اليقظة والتنسيق البديهى، الغائب، بين الوزارات. فمن الأزمات التموينية المتتابعة، من زيت وأرز وسكر، إلى أزمات موسمية ناشئة عن السيول، وكذا الامتحانات، إلى تردى مستويات الخدمات الصحية المقدمة للمواطن على جميع المستويات تقريبًا. وليس صحيحًا أن ضعف الموارد المالية هو السبب الرئيسى لكل ما تقع فيه الحكومة من خطايا، قدر تمسكها بالفكر العشوائى منهجًا وعنوانًا، فضلًا عن الانعزال عن واقع الشارع، اللهم إلا أمام شاشات الفضائيات، ودائمًا يأتى بتوجيه رئاسي! لا تخجل الحكومة ذاتها عن الإعلان عنه. فيما يؤكد أنهم مجموعة من الموظفين بالفعل، يتبعون تعليمات رئيسهم الأعلى، ولا حديث إذن عن إبداع خلاق، ورؤى بعيدة.
٢- فى مواجهة الأزمات دائمًا ما تفشل الحكومة فى إيجاد أساليب علمية فى مخاطبة الرأى العام، فدائمًا ما تتجاهل الأزمة فى بداياتها، ومع تفاقم الأزمة إلى حد أن تصبح الحكومة هى الوحيدة التى لا تراها، تجد الأساليب العتيقة سبيلًا وحيدًا لدى الحكومة «الانعزالية»، حيث تشكل اللجان لبحث ما هو معروف فى الشارع! ثم تُتخذ القرارات، المتأخرة دائمًا، على عجل! باعتبارها إنجازات حكومية ينبغى توجيه الشكر عليها وعلى صانعها ومتخذها. ولا يقل أحد إن ذلك لم يحدث مؤخرًا فى مواجهة أزمة اختفاء الكثير من الأدوية الضرورية، فلطالما أعلن وأكد وزير الصحة عدم وجود أزمة فى الدواء، بينما صراخ الناس يملأ الفضائيات، فلا يملك الوزير إلا التأكيد على أن شركات إنتاج الأدوية تتعمد الأزمة لتلوى ذراع سيادته القوية بغية زيادة الأسعار، ويؤكد أن لا زيادة فى الأسعار نهائيًا، وأخيرًا يكتشف سيادته، والحكومة معه، أن تحرير سعر صرف الدولار كان له تأثير مؤكد على تكلفة الإنتاج، وهو ما يبرر زيادة أسعار الدواء، ومن ثم تجتمع الحكومة وتشكل لجنة تنتج قرارًا باستيراد مجموعة من الأدوية الغائبة تمامًا عن السوق، بينما الأزمة على هذا النحو لم تجد طريقًا حقيقيًا نحو الحل النهائى بحكم الصراع الدائر بين شركات صناعة واستيراد الأدوية مع وزير الصحة، المشغول بالاشتباك مع نقابة الأطباء حول تنفيذ حكم قضائى صادر برفع بعض مخصصاتهم.
٣- لو أن حكومة «سياسية منتخبة» لدينا، لكانت قد حرصت على فهم واستيعاب ما فى الدستور من مواد بعينها تبنت بإخلاص مطالب فئات بعينها من الشعب لتأكيد مبدأ «المواطنة»، باعتباره أحد المبادئ الحاكمة «للدولة المدنية الحديثة». لكن حكومتنا «الانعزالية»، وقد بات لها باع طويل متوارث فى إنتاج الأزمات المجتمعية، لم تنتبه إلى أن كراسة الشروط المتعلقة بمشروع المليون ونصف المليون فدان المطروحة للزراعة والاستصلاح تتضمن مساحات كبيرة ما هى إلا جزء من الأراضى المعنية بنص الدستور، مادة ٢٣٦، حين أكد على ضمان حق أهل النوبة فى العودة إليها فى إطار عملية تنموية تنهض بها الدولة، كغيرها من المناطق الحدودية، التى تتمتع بخصوصية استثنائية. ومن ثم كانت احتجاجات أهل النوبة، إلى حد قطع طريق أسوان/ أبوسمبل لعدة أيام، تهددت فيها سيادة الدولة، واهتزت هيبتها، وتعطلت السياحة فى المنطقة، ونالت حكومتنا، ولا أقول غيرها، من الصورة الذهنية للوطن، فى الداخل والخارج على السواء. وطبيعى أن أهل النوبة طالبوا بقرار رئاسى ولا شىء غيره لسابق معرفتهم، بحكم أنهم من مواطنى هذا الوطن، أن لا شىء يتحرك إلا بأمر الرئيس!
ما أحوجنا إذن إلى «حكومة سياسية منتخبة»، لا حكومة تعيش راضية مرضية فى رعاية شعبية الرئيس فى الشارع. «حكومة سياسية منتخبة» تحمل على عاتقها مطالب الناس بخبرة الرجل السياسى المحنك بالشارع، لا بعقلية «الأستاذ الأكاديمى» وعلياء علمه. «حكومة سياسية منتخبة» تملك رؤية جادة موضوعية وبرنامجًا حقيقيًا يستطيع بحق تنفيذها، وهو ما يتطلب خلفية سياسية تستند إلى عمل حزبى، فعال ومؤسسى، يستند إلى فكر ومبادئ ضابطة لحركته، لديه كوادر تطرح رؤى وأفكار، وتصيغ برامج تكتسب قاعدة شعبية غالبة، تحقق بالفعل ما يعجز عنه مجموعة من الموظفين تمت ترقيتهم إلى درجة وزير.
وليقل قائل: وهل عندنا ما تبشر به من أحزاب حقيقية؟!، فلننتظر إذن إلى الأسبوع المقبل بإذن الله، فتلك سمة أخرى أساسية ليس لها أن تغيب عن جهودنا نحو بناء «الدولة المدنية الحديثة».