الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة "9"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
غير «العلمانية»، ولها حديث مستقل ينتظرها، ليس أهم من «المواطنة» مرتكزًا حقيقيًا يمكن أن تتأسس عليه «الدولة المدنية الحديثة». لا يقلل ذلك من أهمية «الديمقراطية» كإطار عام حاكم، ولا من «سيادة القانون» عقيدة مجتمعية راسخة. ذلك أن «المواطنة» وثيقة الصلة بفعاليات الحياة اليومية؛ ومن ثم فهى مسئولة عن إشاعة روح «الدولة المدنية الحديثة» في المجتمع، بما تحمله من قيم إنسانية رفيعة.
فليس من شك أن «المواطنة» مفهوم واسع يضم بين جنباته مجموعة من القيم الكفيلة بتحقيق مبادئ وأهداف «الدولة المدنية الحديثة»، فبموجب «المواطنة» تعلو قيمة «الانتماء» داخل ضمائر المواطنين، وتتجسد «العدالة الاجتماعية» في أبهى صورها، وتستقر «المشاركة» منهجًا مجتمعيًا عامًا، وتبدو «المساواة» وقد أدركت موقعها الأثير المستحق في الوعى العام.
ليس أدل على ذلك من أن «المواطنة» كانت من العناصر اللازمة التي افتقدها حكم جماعة الإخوان الإرهابية، فلا «وطن» شعروا يومًا بالانتماء إليه، ولا «مساواة» جمعت أمامهم بقية الشعب الخارج عن دوائر الأهل والعشيرة. ولا «عدالة اجتماعية» كان للإخوة من المصريين المسيحيين أن يتمتعوا بها. ولا «المشاركة» كانت مطلوبة في عهدهم، فقد احتكروا السلطة والحقيقة والدنيا والآخرة!. ولا «المساواة» كانت تتسع في ممارساتهم لتشمل جميع عناصر ومكونات الأمة المصرية. ولذلك ضاقت بهم السُبل وهم يسعون إلى ترسيخ أقدامهم في «وطن» هو الأعرق كدولة مركزية عرفتها الإنسانية، وكمجتمع عرفته الأدبيات الاجتماعية باعتباره مجتمعًا منسجمًا، لا تحكمه طائفية أو عصبية، على تعدد مكوناته. 
من هنا كانت دولة الإخوان دولة دينية بالأساس. وكان طبيعيًا لثورة تنهض لتزيلهم من سدة حكم الوطن، أن تتخذ من «الدولة المدنية الحديثة» شعارًا نبيلًا، تنخرط به في منظومة المجتمع الدولى، بقيمه العالمية النابعة من تجارب مريرة لطالما أكدت أن «الدولة الدينية» لم تقدم أبدًا نموذجًا يمكن أن يُحتذى، بعد أن أذاقت أوروبا ويلات حارة أليمة على مدى عقود طويلة، حتى زالت وحلت محلها «الدولة الوطنية»، وبمرور التراكمات، واجتياز إشكاليات فكرية كبيرة، تبلورت «الدولة المدنية الحديثة» لتعلن عن نفسها سبيلًا وحيدًا إلى إحراز تقدم حقيقى يدفع إلى رفاهية الشعوب.
وعليه، ونحن نخطو إلى «الدولة المدنية الحديثة»، لا محل بيننا لممارسات تعيدنا إلى سابق عهود مظلمة، أضلت جهود التنمية عن أدواتها الحقيقية الماثلة في البشر أولًا، باعتبار الإنسان هو بانى حضارته، مثلما هو هدفها الأول. 
والواقع أن مراجعات حقيقية جادة، لا ينبغى أن تغيب أكثر من ذلك عن خطواتنا ونحن نسعى، إن كنا جادين بالفعل، إلى إدراك صحيح مفهوم «الدولة المدنية الحديثة». ومن ثم علينا الوقوف طويلًا لنتأمل ما تموج به ممارساتنا اليومية من أحداث تسقط بموجبها التطلعات الرامية إلى قيم «الدولة المدنية الحديثة». لن أُذكرك بحادث ابن الزبال الذي رآه «وزير عدل» أنه لا يتناسب والعمل في القضاء، وقد كان الرجل صادقًا في التعبير عن قناعات حقيقية موجودة بالفعل، فما كان من الوزير إلا أنه استقال، أو أقيل، لكن أبدًا ابن الزبال لم يصبح قاضيًا، وإلا ما كان الآتى:
رفض بعض الشخصيات العامة للخضوع لإجراءات التفتيش في بعض المطارات الوطنية، بدواعٍ واهية من سمو المكانة الاجتماعية، ما بين نسب انقطع، وزال أثره، بالسلطة القضائية!، أو انتماء للسلطة التشريعية، كان جديرًا بأن يفرض موقفًا أكثر حكمة ورصانة. فكلنا تابع كيف رفضت النائبة السابقة لرئيس المحكمة الدستورية العليا، الانصياع لإجراءات التفتيش في مطار القاهرة، ما أدى إلى موجة من الاستياء العام، أظنها بالقطع تزيد من الأمل في صحة رغبتنا في تأسيس «الدولة المدنية الحديثة» بقدر أكبر مما سحبت به سيادة المستشارة من رصيد آمالنا في تجسيد قيم «الدولة المدنية الحديثة». ثم كان أن رفض عضو في البرلمان الإجراء ذاته، خلع الحذاء، في مطار شرم الشيخ، بحجة أنه إجراء يقلل من هيبة البرلمان!، بينما الرجل «أكثر وطنية من غيره»!. غير أن تخفيفًا من وقع تلك الأحداث المحبطة، نؤكد أننا ما زلنا في مستهل الطريق نحو «الدولة المدنية الحديثة»؛ ومن ثم فقيمها لم ترسخ بعد، ومبادئها تعانى جراء حالة من عدم اليقين داخل طبقات كثيرة في المجتمع، لا تدرك عن ثقة، هل نجحت بالفعل ثورتنا، يناير ـ يونيو، أم أننا على الدرب القديم نعود أدراجنا؛ وبالتالى لا يعدو شعار «الدولة المدنية الحديثة» إلا أن يكون غلافًا براقًا لذات المحتوى الردىء من القيم السلبية التي رسخها نظام مبارك، باحثًا عن استقراره هو لا استقرار الوطن، وهو ما تمسك به واستخدمه وجهه الآخر الماثل في جماعة الإخوان، للسبب ذاته.
في ملمح آخر، شديد الصلة بقيم «الدولة المدنية الحديثة»، خاصة في محور «المواطنة»، كانت موقعة الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة، حين قرر مؤخرًا إلغاء خانة الديانة من جميع الشهادات والمستندات التي تصدرها أو تستخدمها جامعة القاهرة، وكان ذلك على خلفية رفض معهد البحوث الأفريقية قبول طالب بالدراسات العليا لكونه مسيحيًا، ما دفع الطالب إلى مقابلة نائب رئيس جامعة القاهرة شاكيًا مقدمًا مستندات كلها تدعم ادعاءه صادرة عن معهد الدراسات الأفريقية، حيث رُفض طلبه بعد اختبار عبارة عن لقاء شخصى مع الطالب بعد أن يملأ استمارة بها خانة الديانة والطائفة، ما دفع الطالب إلى الاعتقاد في رفضه بسبب ديانته!. ولأن الدين يأتى على قمة العوامل المكونة والمثيرة للرأى العام، بل يعد الدين خارجًا عن دوائر منازلات الرأى العام في كثير من جوانبه، باعتباره مُسلمات لا تقبل الجدل والنقاش، فقد راح نائب برلمانى، وربما سانده زملاء له، يدين فعلة الدكتور جابر نصار، متوعدًا بأنه سيطالب بإقالته!. بينما أعلنت مجموعة أخرى من النواب تأييدهم الكامل للقرار. والواقع أن شيئًا من ذلك ما كان يمكن أن يحدث لو أننا قطعنا شوطًا كبيرًا معتبرًا على الطريق نحو «الدولة المدنية الحديثة»؛ ففى تلك الدولة، لا يتم تصنيف الشعب تصنيفًا دينيًا، ولا حاجة لأى مؤسسة، هناك في «الدولة المدنية الحديثة»، لأن تتعرف على موقع «المواطن» من الدين. غير أن صبرًا جميلًا ينبغى أن نتحلى به ونحن نتابع صدامات تعبر بالفعل عن حقيقة موقعنا من «الدولة المدنية الحديثة»، فنرصد بها ومعها المشوار الشاق الذي علينا أن نقطعه وصولًا إلى جعل «الدولة المدنية الحديثة» ثقافة مجتمعية، أكثر منها شعارًا نستتر خلفه، دون خجل يعترينا. تشيع بيننا أحاديث تنطلق بعنف لتصادم جميع مكونات مفهوم «المواطنة»، فطبقات بعينها يُعد الانتماء لها من دواعى زيادة الهيبة والمكانة، وهذا أمر له صدى في كثير من المجتمعات الديمقراطية، لكنه أبدًا لا يقتطع من حقوق بقية الطبقات، متى كان لمفهوم المواطنة مكانه المعتبر على الأرض. كذلك فئات مجتمعية بعينها، تبدو في خطابنا المجتمعى أوثق بالوطنية، فيما يؤكد أن إدراكًا صحيحًا لمفهوم «المواطنة» لم يزل بعيدًا؛ ذلك أن الأمر، على هذا النحو، يشير إلى افتقادنا لحقيقة مفادها أن الوطنية «انتماء» للوطن، و«مشاركة» في المسئوليات، وهما أمران على صلة أكيدة بالشعور العام «بالعدالة الاجتماعية»، و«بالمساواة» أيضًا، ولعلنا هنا نلحظ أننا نتحدث عن مكونات مفهوم «المواطنة»؛ وبالتالى فإن «المواطنة» كفيلة بأن تتجه بنا مباشرة إلى الوعى بمحتوى مفهوم «الدولة المدنية الحديثة». وإلى الأسبوع القادم بإذن الله.