الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فتح الله كولن وصراع البقاء في تركيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
صاحب القرار الأول لأنشطة مراكز الخدمة الدعوية التي تتوزع بين مدارس وجامعات في كافة أنحاء العالم، فهدف محمد فتح الله كولن، محاربة الفقر والجهل كمحاولة منه في تغيير نسق التفكير الذي يمثل أحد المرتكزات والمحرك الأساسي لجماعات العنف الديني، فهو عدو الصيغة التي يطرحها الإسلام السياسي في العموم.
يمثل "كولن" أحد أبرز الدعاة المعاصرين في تركيا، يبلغ أنصاره وحواريوه بالملايين داخل وخارج عاصمة الخلافة الإسلامية كما يحب رئيس الدولة التركي رجب طيب أردوغان أن يسميها، لم يُشارك في العمل السياسي ولم يتهافت على ممارسته بل وقف ضد هذه الممارسة معتبرًا أن محاولة التغيير من القمة خطر يُساعد في تشويه الإسلام، وأن التغيير الحقيقي المنصوص عليه لا بد أن يكون من القاعدة ومن خلال العرض على هذه القاعدة وليس بالإجبار.
من عباراته التي خاطب بها جمهوره العريض "استعدوا للعفو عن النّاس"، كما قال لأنصاره في معرض خلافه مع الرئيس التركي: "عليكم ألا تقطعوا الجسور بينكم وبين مَن حولكم، فسوف يأتون نادمين وقتها يمكنكم أن تستقبلوهم بأحضانكم وتحتضنهم قلوبكم".
لا نكاد نسمع صوت فتح الله كولن في خلافه مع الرئيس التركي، في المقابل نجد أردوغان يندد بمراكز الخدمة ودعاتها في كل مناسبة، فعندما خرج في اللحظات الأولى للانقلاب العسكري في تركيا وأول ما وجّه اتهامه من خلال أحد مواقع التواصل على شبكة المعلومات الدولية على الإنترنت كان اتهامه للرجل الصوفي الذي يعاني المرض بولاية بنسلفانيا وهو ما حدا بأنصار رئيس الدولة للفتك بكل مَن يقابلهم من أنصار رجل الدين الصوفي قبل إجراء أي تحقيق ومعرفة خلفيات ما حدث.
الصراع بين كولن وأردوغان، ديني في الأساس، رغم أن الأول آثر عدم الدخول في معترك هذا الصراع وكان دائم الهجوم على جماعات الإسلام السياسي المختفي وراءها حزب العدالة والتنمية، ورغم أن أردوغان يجلس على قمة السلم السياسي كرئيس دولة إلا أنه اشتبك مع غريمه في منطقة أخرى لم يطرح نفسه فيها.
دائمًا يشعر أردوغان بالخوف من كولن لما له من سلطة روحية على أتباعه، فهو أبرز الدعاة المتصوفة، صاحب العين الباكية والأديب الرفيع الذي ينحت ألفاظه وعباراته فتخترق القلوب والعقول، ويبقى تصوف الرجل مثار خلاف استطاع أردوغان استغلاله خاصة وهو يُصدّر نفسه عدوًا للمشروع الإيراني، فبعض أهل السنة يرون تقاربًا بين المتصوفة والشيعة في الأفكار وحب آل البيت!
كولن هو أهم وأكبر حزب سياسي في تركيا، رغم أنه لا يمارس السياسة ولا يسعى لممارستها كما أنه لم يسع للحصول على رخصة لذلك، كما أنه يمثل أكبر قوة مادية ضاربة نجحت في تطويع الأعمال الخيرية والخدمية ليس في تركيا فقط وإنما لخدمة الإنسانية والبشرية، فأنشأ هذه المراكز الخدمية في مجال التعليم لتغطي أكثر من 170 دولة لقرابة ألف وخمسمائة مركز تعليمي، هدفها الرئيسي تقديم خطاب يحترم القيم الإنسانية في المقام الأول، ولذلك تجد طلاب هذه المراكز من كافة الديانات وتجد تأثير هذه المدارس أعمق في أفريقيا التي تخلو من فرص للتعليم فضلًا عن تعليم القيم المسلوبة.
يدعو للسلم وتقوم أفكاره على النصائح الاجتماعية، فهو مشغول بإعادة التوازن للإنسان بعد أن طغت عليه المادة فأصبح ضعيفًا في مواجهتها وشرسًا في صراعه مع الآخرين من البشر، أفكار كولن قائمة على بناء الفرد، ففي صلاحه يرى المجتمع صالحًا رافضًا لأي أطروحات للإسلام السياسي من خلال التغيير بالقوة أو من خلال قمة الهرم والوصول للسلطة.
دائمًا ما يُبشر بأفكاره التي يرى فيها ضرورة احتضان كل الحضارات، كما أنه يراها مكملة لبعضها البعض طالما تعزز من قيمة الإنسان وتُعلي من سلطاته وسلطانه ماديًا وروحيًا، فنجده مثلًا دائم الحديث عن قيم الإنسانية مثل حب الوطن، فمراكزه التعليمية في مصر على سبيل المثال مثال واضح في منافسة المدارس المصرية التي تسعى لإضفاء هذه الصفة لدى طلابها، فرغم أنها مدارس دولية رفيعة المستوى إلا أنها معنية بإجراء مسابقات في تعليم اللغة العربية وعمل أنشطة وبرامج تعزز من قيمة الوطن في قلوب وعقول النبت الصغير.
لم يكن كولن مجرد رجل دين صوفي وإنما عالم ومفسر للقرآن وأديب وشاعر وله ديوان شعر مطبوع، ترجمت إصداراته البالغة لقرابة سبعين كتابًا إلى لغات 22 دولة، من أشهرها وأعمقها مخاطبة للعقل والقلب كتابه "النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية"، فيحمل قراءة جديدة ومختلفة لسيرة الرسول لم يتطرق لها داعية إسلامي من قبل، يقرأ فيها الإسلام المعتدل الغائب عن عقول الكثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
إصداراته ومخططاته تتميز بأنها كُتبت بلغة رزينة غاية في الشاعرية خاصة ما يُعبر فيها عن المشاعر والأحاسيس، فكلها كُتبت بصفاء ذهني يُعبر عن شكل الرجل داخليًا، فرغم شاعريته التي بلغت مبلغًا في التعبير الأدبي إلا أنك تشعر بعمق الرجل عندما تجده يُحصي كافة الأيديولوجيات الغربية والفلسفات القديمة، فإذا أردنا أن نختصر الرجل فهو مفكر نجح في قراءة الحياة بلغة العصر ممزوجة بتصوره للدين.
تحمل كولن ألم الغربة وبقاءه في الولايات المتحدة الأمريكية، متلافيًا أي صدام مع أردوغان أو العلمانيين، يبعث برسائله من غرفته التي أقام فيها داخل أحد المستشفيات الذي يخضع فيه للعلاج من مرض القلب والجراحات التي أجراها في هذا العضو الرقيق.
غُربة "كولن" مكانية واختيارية، ولكن آلامه النفسية في هذه الغربة التي بلغت أكثر من عشرين عامًا لا تقاوم ولا يستطيع قلبه الضعيف تحملها، فاختار أن يضع قليلًا من التراب من كل مدينة تركية في برطمانات وضعها في غرفته المليئة بعلاج قلبه العليل حتى يستنشق هواء تركيا التي حُرم منها داخل منفاه بإحدى الولايات المتحدة الأمريكية.