السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

محمد علي باشا.. "أمير الدهاء"

محمد على باشا
محمد على باشا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا أحد ينكر فضله على مصر، صانع نهضتها العلمية والعسكرية الحديثة، كانت الدولة عندما أختاره الشعب واليا عليها –شبه دولة– ولكن بفضل عبقريته ودهائه وقدرته على الإدارة استطاع أن يمسك بزمام الأمور ويعيد مصر إلى موقعها الطبيعي بين بلدان العالم كدولة عظمى منذ قدم التاريخ، مستعينًا بذلك على عزيمة شباب مصر الطامح إلى تقديم كل ما لديه من جهد ووقت لتطوير ودعم بلاده رغم ما مرت به من نكبات أستمرت إلى مئات الاعوام قبل توليه حكمها، فسماه البعض يوسف مصر الحديثة، نسبة إلى ما عاشته مصر من سنوات رخاء في عد نبي الله يوسف، إنه محمد على باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة.
ولد محمد على في مدينة قَـوَلة الساحلية في جنوب مقدونيا عام 1769. توفى إبراهيم أغا والد محمد على ثم عمه طوسون أغا وهو لا يزال قاصرا ولم يتركا له ما يأويه فكفله حاكم قولة صديق أسرتهم، وربى محمد على فقيرا يتيما، غير أن مضاء عزيمته وسعة حيلته جعلاه منذ حداثته من المتفوقين على أقرانه، كما أن مربيه زوجه من إحدى قريباته، وكانت سيدة ميسورة الحال فمكنته من التجارة في الدخان، ولقي في عمله هذا مساعدة من أحد التجار الفرنسيين ربما كان لها شئ من التأثير في ميوله نحو أبناء الشعب الفرنسي.
قدومه إلى مصر
جاء محمد على إلى مصر ضابطا صغيرا في الحملة العثمانية التي دفعتها تركيا لإخراج الفرنسيين من البلاد، وشهد انتهاء عهد الحملة الفرنسية، ولمح من خلال الافق ما تتمخض عنه الامة المصرية من نزوع إلى الحرية، وما يجيش في صدرها من أمال كبار، وما تشعر به من سخط على نظام الحكم القديم، فماشاها في ميولها وسايرها في آمالها، ورسم لنفسه خطة الوصول إلى عرش مصر عن طريق ارادة الشعب، وهي فكرة مبتكرة بالقياس إلى ذلك العصر تدل على ذكاء محمد على ودهائه وبعد نظره.
اتفقت الحكومتان الإنجليزية والعثمانية على وجوب إخراج الفرنسيين من مصر، وجهزت كل منهما حملة لهذا الغرض، وكان محمد على أحد رجال الحملة العثمانية، اذ جاء مع فرقة بقيادة حاكم قولة وكان محمد على وكيلا لذلك القائد، فوصولوا إلى القطر المصري في يوليو سنة 1799، وبعدما اشتركت هذه الفرقة في محاربة الفرنسيين، اضطر قائدها إلى مغادرة مصر والعودة إلى وطنه فخلفه محمد على في قيادة الفرقة ورقى إلى رتبة بكباشي.
واستمر النزاع مع الفرنسويين إلى يونيو سنة 1801 حيث تم توقيع اتفاق يقضي بجلائهم عن مصر، فانسحبوا منها في شهر سبتمبر من تلك السنة، وعادت السلطة على مصر إلى الدولة العثمانية، فعينت خسروا باشا واليا عليها، فتقرب محمد على اليه وتولى قيادة فرقة من الألبانيين، عدد رجالها ما بين ثلاثة وأربعة آلاف، وكانت رتبته حينئذ تضاهي رتبة أمير لواء في أيامنا هذه.
محمد على والمماليك
عندما تطلع محمد على لتولي سلطان مصر كان أمامه عدوان يهدف إلى التخلص منهما وهما المماليك حكام البلد الأقدمين، وسلطة الوالي التركي الذي كان يمثل حكومة الاستانة، وكانت هذه الحكومة تعمل على أن تكون لها الكلمة العليا في البلاد بعد أن احتلتها بجيوشها، ثم كانت أمامه عقبة أخرى وهي سلطة الجند الارناؤود والدلاة وغيرهم من اخلاط السلطنة العثمانية، فاستطاع محمد على بدهائه وصبره وذكائه أن يضرب كل سلطة بالاخرى، وأن يشق لنفسه طريق النجاح والوصول إلى الغاية التي يطمح اليها.
توليه ولاية مصر
بعد سقوط دولة المماليك عُين خورشيد باشا واليا لمصر، وبقى محمد على في صف الشعب يدافع عن مطالبه ويتودد إلى زعمائه، فلما ساءت سيرة خورشد وكثرة مظالمه ثار عليه الشعب وخلعه، وهناك طلب الزعماء من محمد على أن يقبل منصب الولاية والحوا عليه في أن يجيب طلبهم، فقبل ما عرضوه عليه وصار الولاي المختار من الشعب.
واستطاع بذكائه وصدق نظره في الأمور وسعة حيلته أن يذلل العقبات التي اعترضته في السنوات الأولى من حكمه، فتغلب على دسائس الاتراك والانجليز ومساعي المماليك، كل ذلك يدلل على مقدرته بل على عبقريته، وخاصة أنه إلى ذلك الحين كان اميا، اذ من المعروف أنه لم يبدأ في تعليم القراءة والكتابة إلا بعد أن تجاوز الاربعين وبعد أن تبوا عرش مصر وتخطى العقبات الأولى في حكمه.
ويتجلى لك بعد نظره ورجاحة عقله واخذه الأمور بالاناة والحكمة أنه لما اعتزم ادخال النظام الجديد في الجيش المصري لم يغامر بانفاذ عزمه، بل انتظر السنين الطوال يتحين الفرص الملائمة لانفاذ مشروعه، ولو أنه استعجل الأمر وتسرع لاستهدف لهياج الجنود، ولشهدت البلاد ثورة من ثورات الجند التي تودي بمراكز الولاة بل توردهم موارد الحتف والهلاك. ومن مواهبه التي ذللت العقبات في طريقه وكفلت له الاضطلاع بالمهمات الجسام. الشجاعة وعلو الهمة، ومضاء العزيمة، فهذه الصفات كانت من أكبر مميزاته بعد الذكاء وحسن التدبير.
تنظيم الجيش الجديد وثورة الجند
الجيش هو الدعامة الأولى التي شاد عليها محمد على كيان مصر المستقلة، ولولاه لما تكونت الدولة المصرية ولا تحقق استقلالها، وهو الذي كفل هذا الاستقلال وصانه أكثر من ستين سنة، فخصه محمد على باعظم قسط من عنايته ومضاء عزيمته، وليس في منشآت محمد على ما نال عنايته مثل الجيش المصري، وكانت كل المنشأت الأخرى متفرعة من الجيش أو وجدت لخدمته فانشاء مدرسة الطب مثلا يرجع في الأصل إلى تخريج الأطباء الذين يحتاج اليهم الجيش، وكذلك دور الصناعة ومصانع الغزل والنسيج، كان غرضه الأول منها توفير حاجات الجيش والجنود من السلاح والذخيرة والكساء، واقتضى اعداد الأماكن اللازمة لاقامة الجنود بناء الثكنات والمعسكرات والمستشفيات، واستلزم تخريج الضباط انشاء المدارس الحربية على اختلاف انواعها، وكذلك المدارس الملكية كان الغرض الأول منها تثقيف التلاميذ لاعدادهم على الاخص لأن يكونوا ضباطا ومهندسين، وإرسال البعثات إلى أوروبا كان الغرض الأول منه توفير العدد الكافي من الضباط ومن الاساتذة والعلماء والمهندسين ممن يتصلون عن بعد أو قرب بالاداة الحربية، صحيح أن هذه المنشآت وغيرها كان لها اغراض عمرانية أخرى، لكن خدمة الجيش كانت أول ما فكر فيه محمد على.
عهد الإصلاح والتوسيع
تمكن محمد على أن يبني في مصر دولة عصرية على النسق الأوروبي، واستعان في مشروعاته الاقتصادية والعلمية بخبراء أوروبيين، ومنهم بصفة خاصة السان سيمونيون الفرنسيون، الذين أمضوا في مصر بضع سنوات في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، وكانوا يدعون إلى إقامة مجتمع نموذجي على أساس الصناعة المعتمدة على العلم الحديث.
وكانت أهم دعائم دولة محمد على العصرية: سياسته التعليمية والتثقيفية الحديثة.
فقد آمن محمد على بأنه لن يستطيع أن ينشئ قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم، ويزودها بكل التقنيات العصرية، وأن يقيم إدارة فعالة، واقتصاد مزدهر يدعمها ويحميها، إلا بإيجاد تعليم عصري يحل محل التعليم التقليدي. وهذا التعليم العصري يجب أن يقتبس من أوروبا. فمنذ 1809 أرسل بعثات تعليمية إلى مدن إيطالية مثل "ليفورنو، ميلانو، فلورنسا، وروما" لدراسة العلوم العسكرية، وطرق بناء السفن، والطباعة. وأتبعها ببعثات لفرنسا، كان أشهرها بعثة 1826 التي تميز بيها إمامها المفكر والأديب رفاعة رافع الطهطاوي، الذي كان له دوره الكبير في مسيرة الحياة الفكرية والتعليمية في مصر.
أظهر محمد على بعد النظر والحزم والمرونة السياسية. وأدرك برأيه الصائب أن اقتباس الأنظمة الأوروبية ومجاراة الأوروبيين في الأساليب العمرانية أمور لابد منها لرقي بلاده، وتثبيت دعائم حكومته التي كانت حكومة الآستانة تعمل على تقويضها، فلما أخفق في محاولته لتنظيم الجيش للمرة الأولى ستر اخفاقه بلباقته السياسية، لكنه بقى مصرا على العودة إلى التنظيم عندما تتاح له أول فرصة.
جعل محمد على للحملة على السودان ثلاث غايات وهي: التخلص من الضباط والجنود الذين كانوا يقاومون التنظيم العسكري والقضاء على المماليك الذين فروا من القطر المصري إلى دنقلة بعد مذبحة القلعة المشهورة، والحصول على مصادر جديدة للثروة والتجنيد. والسودانيون قوم بسل، ظن محمد على أنه يستطيع أن يؤلف منهم جيشا يحل محل الألبانيين وغيرهم. فبلغت الحملة غرضيها الأولىن، لكنها لم تأت بالفائدة المادية المرجوة ولا حققت الآمال في التجنيد، نظرا لعدم مناسبة جو مصر للسودانيين.
إنجازات محمد على
كان محمد على طموحًا بمصر ومحدثا لها ومحققا لوحدتها الكيانية وجاعلا المصريين بشتي طوائفهم مشاركين في تحديثها والنهوض بها معتمدا على الخبراء الفرنسيين. وكان واقعيا عندما أرسل البعثات لفرنسا واستعان بها وبخبراتها التي إكتسبتها من حروب نابليون. ولم يغلق أبواب مصر بل فتحها على مصراعيها لكل وافد. وانفتح على العالم ليجلب خبراته لتطوير مصر، ولأول مرة يصبح التعليم منهجيا، فأنشأ المدارس التقنية ليلتحق خريجوها بالجيش.
وأوجد زراعات جديدة كالقطن وبني المصانع واعتني بالري وشيد القناطر الخيرية على النيل عند فرعي دمياط ورشيد.ولما استطاع محمد على القضاء على المماليك ربط القاهرة بالأقاليم ووضع سياسة تصنيعية وزراعية موسعة. وضبط المعاملات المالية والتجارية والإدارية والزراعية لأول مرة في تاريخ مصر. وكان جهاز الإدارة أيام محمد على يهتم أولا بالسخرة وتحصيل الأموال الأميرية وتعقب المتهربين من الضرائب وإلحاق العقاب الرادع بهم. وكانت الأعمال المالية يتولاها الأرمن والصيارفة كانوا من الأقباط والكتبة من الترك.لأن الرسائل كانت بالتركية. وكان حكام الاقاليم واعوانهم يحتكرون حق التزام الاطيان الزراعية وحقوق امتيازات وسائل النقل. فكانوا يمتلكون مراكب النقل الجماعي في النيل والترع يما فيها المعديات. وكان حكام الأقاليم يعيشون في قصور منيفة ولديهم الخدم والحشم والعبيد. وكانوا يتلقون الرشاوي لتعيين المشايخ في البنادر والقري. وكان العبيد الرقيق في قصورهم يعاملون برأفة ورقة. وكانوا يحررونهم من الرق.