الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

بنت ليل وزوجة غير رسمية!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتردد داخل كل واحد منا صوت: «ما تكونش غير نفسك».. فيجده على الورق: «لا تكن ما لست أنت».. فهل نحن مصابون بالازدواجية؛ نفكر بلغة ونكتب بأخرى؟!
نحن خبيز الثقافة الشفاهية التى عجنت وطبخت لغاتنا من قديم الأزل، اللغة التى أسهمت فى صناعة النسق الثقافى المصري، وهو نسق لا يقف عند اللغة الرسمية بل ينهل من طقوس لغات المصريين فى جميع العصور، من الفرعونية إلى العربية، فى سياق فنون متنوعة، وإذا كان «الفلاح الفصيح» هو «الصوت المثالي» فى فن التعبير عن حال البسطاء من أهل مصر فى العصر القديم، فإن مبدعى مصر فى العصور المتعاقبة، وصولا للعصر الذى نعيش فيه، يدركون جيدا أن الفنون بيوت خيال تتحرك فى الحياة، وأن لكل فن أدوات وآليات يلاحقها العلم قدر المستطاع، يحصنها تارة ويؤطرها تارة أخرى؛ فيما يعرف بالجمالى والمعرفى، ويعى الأدباء أن اللغة واحدة من أدوات الفنون، فالفن ليس مربوطا على لغة بعينها.
وعن نفسى أنظر للعامية «الدارجة، الشعبية» باعتبارها اللغة الأم فى كل العصور، من بطنها تتشكل اللغات الرسمية؛ هى المصنع الذى ينتج القماش الذى نفصل منه الثوب والجلباب والبنطال والقميص، وكذلك نفصل منها اللغة الرسمية التى نعتمدها فى التأصيل والتدوين والتوثيق وهلم جرا.
الازدواجية إذن ليست فى ترجمة لغة نحلم ونفكر ونتحدث بها إلى لغة (رسمية)، لكن فى إنكار الفصاحة على اللغة «الأصل» وقصرها على اللغة «النسخ»، وكأن فصاحة اللغة لا تتحقق إلا عندما تصبح مكتوبة أى مدونة.
أدرك أن هذا قد يجرنا إلى قضايا خلافية، لكننى أرى أنه ليس من المنطقى فى ظل الحضارة المصرية الراسخة أن يجرد كثيرون العامية من فصاحتها، ويجروننا إلى دهاليز كونها لغة أم لهجة، أو ربط الفصاحة باللغة الرسمية دون العامية، وهو ربط غير علمي.
وتكفينا الإشارة إلى أن العامية لغة منسوبة للعامة، للناس، لغة خارجة من رحم الحياة، ولدنا بها وترعرعنا فى حضنها، شعبية (نسبة للشعب ودلالة على الانتشار)، ودارجة بحكم تلقائيتها؛ وجدناها فى البيت والمدرسة والشارع، وستظل تعبيرا تلقائيا واضح المعالم عن حياتنا؛ فى الفرح تغنى وفى الحزن تُعدِّدُ وفى الغضب تُخرج لسانها لكل فاسد وكل حاقد؛ لغة نهار، تعبر عن قضايا الحياة بمفردات «راشقة»، إلا أنها تظل لدى الجهات الرسمية «بنت ليل» أو على أكثر تقدير زوجة غير رسمية (فى التدوين والتوثيق والإبداع)، فى حين يدرك الناظر لها أنها الأوفر حظا فى التعبير الحى وبألفاظ محددة، بالقياس للغة العربية، فالعامية لغة متحركة، غنية، تخلق «مفرداتها»، ولا تركن إلى «المرادفات»؛ المفردة فيها لا تعبر سوى عن نفسها، بينما تكمن أزمة اللغة الرسمية بشهادة متخصصين فى علوم اللغة العربية أنها تعج بالمرادفات، حتى إن مشروعا ضخما كان يعكف عليه الأديب الكبير الراحل سليمان فياض يتعلق بإشكاليات «المرادفات» فى اللغة العربية؛ إذ يكون المقصود بالمفردة معنى بعينه بينما يمنحها المرادف معنى مقاربا، وهى الأزمة التى يدركها ويقف عليها المترجمون من العربية إلى لغات أخرى.
الكارثة الحقيقية أن الإبداعات الشفاهية وكذلك المدون منها باللغة العامية، فضلا عن مبدعيها، ظلوا جميعا فى نظر أصحاب «الياقات المنشية» من مغرمى الثقافة السلفية وممثلى قوى الرجعية، على الهامش، «حيا لله حاجة شعبية»، إذ عملوا على الترسيخ للنظرة الدونية لكل من ينتمى لعامة الناس بالنيل من لغتهم، غير مستحين من استخدامهم لها، بادئين بالسؤال الساذج: «انت بتكتب ليه بالعامية»؟!.. والحق أن هؤلاء هم من «ينشعون» ويعيشون فى قمة الازدواجية؛ منفصلين عن الحراك الثقافى والبناء الحضارى الذى شيدته العامة على مدار تاريخ مصر، وكان لفن الشعر الفضل الأكبر فى تأسيس أجرومية اللغة العامية على أيدى كبار مفكريها ومبدعيها، خصوصًا شعراء العصر الحديث.
وإذا كان بيرم التونسى عابر سبيل رماه الله على باب مصر فاحتضنته ليهديها مفاتنها، فقد كان معه فى الدرب أقران، جعلوا الباب غرام الأهل والأحباب، وعلى رأس هؤلاء فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم، وغيرهم ممن يسيرون فى دروب الإبداع؛ يصوغون من واقع الحياة صوت الناس ليهدوه إلى من يبصر؛ فإن تبصَّر نجا، وإن غفا؛ «إتاخد قفا».
elmerekhy@hotmail.com