رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمد الباز يكتب: الله والرؤساء والنساء في حياة أنيس منصور (1)

قبل الدخول إلى عالم صاخب ومتناقض

أنيس منصور
أنيس منصور
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
■ أنيس منصور من أكبر «ناشري الخرافة» في الثقافة المصرية
■ انقلب على «عبد الناصر» و«مبارك» وبقى مخلصًا لـ«السادات» لأنه أخذ ما يريد 
■ البقاء فى «دائرة الضوء» وراء هجومه على المرأة.. وعلاقته بالدين «غامضة ومرتبكة»
ما الجديد الذى يمكن أن أقوله هنا عن أنيس منصور؟
ما الذى يمكن أن أضيفه عن كاتب اختار أن يكتب عن نفسه وعن الآخرين كل وأى شيء؟
ما الذى يمكن أن نكتشفه عن صحفى كاشف وفاضح ومعترف على نفسه وعلى الآخرين، عبر عصور سياسية وأزمنة اجتماعية، كان شاهدًا عليها ومتورطًا فيها وضحية لبعضها؟
من السهل أن نستسلم تمامًا لما كتبه أنيس عن نفسه فيما يزيد علي٢٥٠ كتابًا، تختلط فيها سيرته الذاتية برؤاه الشخصية بتجاربه الحياتية بشطحاته الفلسفية بتناقضاته النفسية بأكاذيبه السياسية، فلست فى حاجة أبدًا للبحث عن أنيس عند غيره، فقد كفانا مشقة التعرف عليه فى عيون وعقول الآخرين.
لكن من قال لكم إننا نبحث عن السهل فيما نكتب؟
منذ شهور وأنا أضع أمامى كل ما كتب أنيس منصور، باستثناء ترجماته لأعمال أدبية، كثير منها لا يحظى بانتشار يقارب انتشار كتبه التى لا تزال قادرة على اقتحام القراء رغم رحيل صاحبها.
فى بدايات حياته الصحفية كتب مقالًا، ولأنه كان حريصًا على أن يعترف به الكاتب الكبير عباس العقاد، فقد سأله بعد عصر يوم جمعة فى صالونه الذى كتب عنه بعد ذلك واحدًا من أهم وأعظم كتبه «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، عن رأيه فى المقال، دون أن ينظر إليه العقاد، قال له: «لقد أعجبنى الأسلوب يامولانا».
كان هذا كل ما قاله العقاد، انصرف بعده إلى حديثه مع الآخرين تاركًا أنيس يسقط ببطء فى بئر عميقة أفقدته الثقة فى نفسه، وفيما يكتب، لقد لفت الأسلوب العقاد، لا شىء غير ذلك، لا فكرة فى المقال ولا معلومة، لا منطق أثبته ولا رؤية قدمها، خرج أنيس من صالون العقاد ليعيد كتابة المقال، فعل ذلك أكثر من أربعين مرة، كان يحاول أن يثبت لنفسه أنه ليس صاحب أسلوب واحد، يمكن أن يغير ويبدل ويجود فيما لديه، لكن يبدو أن ما قاله العقاد كان بمثابة اللعنة التى صاحبت أنيس منصور حتى اليوم الأخير فى حياته.
يشعر قارئ أنيس منصور بمتعة هائلة، إذا بدأت مقالًا له فلابد أن تنهيه، وإذا فتحت الصفحة الأولى من كتاب له، لا تستطيع أن تتركه إلا إذا جئت على الصفحة الأخيرة فيه، سطوره سهلة التناول، عباراته سهلة الهضم، لكنك بعد أن تغادر لا يتبقى لك مما كتبه شىء على الإطلاق، إنه كاتب يبحث عن طريقة تسليك وتمتعك، بصرف النظر عما سيمنحك من معلومات أو أفكار، ولذلك من الصعب أن تجد أنيس أو شيئا مما كتبه طرفًا فى حوار فكرى، فهو أقرب إلى الحكواتى، يسجل ما يرى، يزيد عليه أحيانًا، وينتقد منه أحيانًا أخرى، المهم لديه أن تكون قصته محبوكة، جاذبة للانتباه ومثيرة للاهتمام.
هل يمكن أن نتجاوز إلى توصيف أكثر وضوحًا وربما أكثر دقة نلخص من خلاله حياة وعمل وعطاء وإنجاز أنيس؟
ولِمَ لا... إنه نديم هذا العصر بلا منازع، الصفة تناسبه تمامًا، أداها ببراعة، ليس على مستوى الكتابة فقط، ولكن على مستوى الحياة أيضًا، صحيح أن أنيس كان يلخص الكتب التى يقرأها، ويحكى ما جاء فيها للرئيس السادات أثناء تمشيته الصباحية معه، فقد كان عينا وأذنًا للرئيس، لكن لم يكن تلخيص الكتب هو كل شىء، فقد كان أنيس ناقلًا للنميمة التى تدور فى البلد، وراويًا للنكت التى يسمعها - كان يفتخر أنه يؤلف النكت أيضا- لا لشىء إلا من أجل تسلية الرئيس.
لم يكن أنيس هو كاتب السادات الأوحد، الرئيس رفض تكرار تجربة «هيكل - عبد الناصر»، أراد أن يكون حوله كثيرون، يتحدث إليهم، ويتحدثون عنه، رفض السادات أن يحتكره كاتب واحد، عرف أنيس ذلك، فحاول أن يقدم أوراق اعتماده، ولأنه كان يقرأ السادات جيدًا، فقد عرف أنه يريد تحطيم أسطورة عبد الناصر، فسخر نفسه للهجوم على جمال، كان السادات يبدى غضبًا ظاهريًا على تجاوز الكُتّاب والصحفيين فى حق سلفه، لكنه فى الوقت نفسه كان يقرب من يفعلون ذلك، فى رسالة واضحة أنه فعليًا يرضى عما يحدث تماما.
ولأن أنيس كان حكاء أكثر منه كاتبًا أو مفكرًا فى حياة السادات، فلا يمكنك أن تعثر فيما كتبه على واقعة يقول فيها إنه نصح الرئيس أو أشار عليه بفكرة، أو راجعه فى قرار، إنه فقط يحكى، ويعيد ما حكاه أكثر من مرة، فمن بين أهم ملامح كتب أنيس منصور، أن يحشر الرئيس السادات حشرًا فى معظم كتاباته، وكأنه يريد التأكيد على أنه كان صديقًا للرئيس.
حاول أنيس أن يفعل شيئًا من هذا مع مبارك وزوجته سوزان، وبالفعل تجد بعضًا من المواقف التى جمعته بهما، ولا يبخل أنيس على نفسه فى الحقيقة بالتأكيد على صلته بمبارك، لكنه لم يتوسع، ربما لأن مبارك كان حيًا يرزق لا يزال، ويمكنه أن يراجع أنيس فيما كتبه، ولأن مبارك من ناحية ثانية لم يكن يأنس بالكُتّاب والمثقفين والصحفيين، ولذلك لا تجد لدى كُتّاب عصره ما يروونه عنه.
■ ■ ■
فى علاقة أنيس منصور بالرؤساء ملمح مهم، يمكننا أن نتوقف عنده قليلًا هنا، فقد انقلب مرتين، الأولى على جمال عبد الناصر، ففى حياة ناصر كتب أنيس ما يشبه قصائد المدح والثناء والتبجيل، وقد استمر على طريقه هذا عدة أيام بعد وفاة عبد الناصر، لكنه سرعان ما انقلب على التجربة كلها، فلم يترك نقيصة إلا ونسبها لجمال والذين كانوا معه، وكم كان مخزيا ما فعله الصحفى الكبير الراحل عبد الله إمام عندما تولى رئاسة تحرير جريدة العربى فى إصدارها اليومى.
أراد إمام الذى كان بمثابة الذاكرة للعصر الناصرى أن يثبت بالدليل العملى نفاق بعض الكتاب وانقلابهم على ما قالوه، فأعاد نشر مجموعة مقالات كتبها أنيس منصور مادحًا عبد الناصر، ولم يكن إمام يفعل أكثر من إثبات تاريخ المقال فقط، وأذكر أن أنيس لم يعلق بكلمة واحدة على هذه المقالات، ولم يحاول الاشتباك مع رد الفعل عليها، فقد تركها مقتنعًا أن أثرها يتلاشى، ومراهنًا على أن الناس ستنسي.
أما المرة الثانية التى انقلب فيها أنيس منصور فكانت على مبارك وزوجته السيدة سوزان، لا يزال العهد قريبًا مما جرى، ويمكنك أن تستعيد حالة الحفاوة التى كان يكتب بها أنيس عن مبارك وزوجته، والكتب التى ضمت مقالاته شاهدة على ذلك، لكن بعد ثورة يناير ٢٠١١ خرج أنيس بتصريحات صحفية ضمها حوار أجرته معه جريدة الأخبار، أهال بها التراب على مبارك وزوجته، وكان لافتًا للانتباه وربما مستفزًا أيضًا، أن منصور تعمد إهانة الرئيس الأسبق وسخر مما كانت تفعله زوجته بعبارات قاسية.
لم يمهل القدر أنيس منصور ليكمل انقلابه، فقد مات فى ٢١ أكتوبر ٢٠١١، ومن يدرى فلو عاش قليلًا، لأصدر كتابًا كاملًا عن عصر مبارك، على غرار كتابه عن جمال «عبد الناصر... المفترى عليه والمفترى علينا».
ويظل السؤال عن سر انقلاب أنيس منصور على جمال عبد الناصر ومبارك، دون أن يفعل الشىء نفسه مع الرئيس السادات، فقد ظل حتى الأيام الأخيرة من حياته وفيًا ومخلصًا ومدافعًا عن كل ما فعله وقاله السادات.
قد تقول إن الإجابة لا تحتاج إلى مزيد من التأمل، فقد حصل أنيس فى عصر السادات على ما لم يحصل عليه فى عصرى عبد الناصر ومبارك، وكان طبيعيا أن يظل مخلصا للرجل الذى منحه الكثير، وهى إجابة صحيحة، لكنها لا تمثل كل شىء، فما جرى بين أنيس ورؤساء مصر يستحق أن يروى.
■ ■ ■
علاقة أنيس منصور بالرؤساء يمكن أن نضع لها عنوانًا واضحًا وهو التناقض، أما الغموض فهو التوصيف الدقيق لعلاقته بالله.
ليس من حقنا بالطبع أن نتحدث عن علاقة أنيس أو غيره بالله، إنها مساحة خاصة جدًا، ليس لى أو لغيري أن يطرق بابها، لكن عندما يصر أنيس على أن تكون هذه العلاقة مكونًا رئيسيًا من مكونات كتابته ومؤلفاته، فلابد أن نتوقف عندها ولو قليلًا، ليس لمعرفة هل كان أنيس مؤمنًا أم ملحدًا، فإيمانه أو إلحاده له وحده، ولكن من المهم أن نتأمل تجربة كاتب موسوعى، عاش ورأى وقرأ، وهو ينسج خيوط علاقته بالله.
توقفت قليلًا عند ما قاله أنيس عن كتابه «طلع البدر علينا»، وهو الكتاب الذى سجل فيه انطباعاته ومذكراته عن رحلته الأولى إلى مكة والمدينة مؤديًا لفريضة الحج، فقد غمرته أحاسيس روحية هادرة فى المرة الأولى، بدت بوضوح فى سطور كتابه، بعد أن انتهى منه، قدر أنه سيكون فى حاجة لأن يضيف عليه فى كل مرة يذهب إلى الأراضى المقدسة، فحتما سيجد شيئًا جديدًا، وحتما سيشعر بأحاسيس روحانية مختلفة.
ذهب أنيس منصور بعد مرته الأولى مرات عديدة، أدى فى بعضها الحج، وأدى فى بعضها العمرة، ولكنه لم يشعر بشىء جديد، بل إنه حتى لم يشعر بنفس الأحاسيس التى شعر بها أول مرة، فهل كان الدين لدى أنيس مجرد تجربة، أم أنه كان مجرد مادة للكتابة، التى لا أشك للحظة واحدة أنه كان عابدًا فى محاربها، يقدم بين يديها كل صباح فروض الولاء والطاعة علها ترضى.
أعرف كثيرين من الكُتّاب والمفكرين ملحدين بشكل كامل، لكنهم اختاروا أن يحتفظوا بما لديهم لأنفسهم، ليس قناعة بأن الاعتقاد أمر خاص، ولكن خوفًا من أن يكون الإعلان سببًا فى مشاكل وأزمات لا قبل لهم بها، من الصعب أن أقول عن أنيس منصور أنه كان واحدًا من هؤلاء، ليس لأن لم أسمعه يتحدث عن هذا بشكل صريح فقط، ولكن لأن الدين فى حياة أنيس، وكما أثبت هو فى كتاباته، خليط من الحقائق والأكاذيب، يقين ويقين مراوغ، غيبيات لا قبل له بها، وحالة من الشعوذة التى كان يستطيبها، فقد كان أنيس واحدًا من أكبر ناشرى الخرافة فى الثقافة المصرية، ولأنه كان يجيد صنعته باحترافية شديدة، فقد ألبس الخرافة ثوب العلم، وهذا حديث يطول بالطبع.
فى حياة أنيس وفى كتاباته إلحاح على أن الإنسان كائن مسلوب الإرادة، فهو أسير لمجموعة من الغيبيات التى لا قبل له بها، ولذلك لم يكن غريبًا أن يتحول الدجالون فى عام أنيس إلى أبطال خارقين، يستعين بهم ليطمئن على المستقبل، فمن بين سمات أنيس أنه كان قلقًا دائمًا لا يرتاح لشىء ولا لأحد حتى لو أبدى عكس ذلك تمامًا.
■ ■ ■
تحتمل علاقة أنيس منصور بالمرأة أن نصفها بالتردد، هذا تقريبا ما جرى منه، فى حياته الشخصية أحب أنيس أمه، كانت ملهمة له، بل أستطيع أن أدعى أن هذه السيدة كان لها أكبر الأثر فى حياة ابنها، فقد كانت حاضرة فى أغلب كتاباته، حتى ولو لم يذكرها صراحة، وقد أحب زوجته، أعلن هو ذلك صراحة.
لكنه فى كتاباته عن المرأة كان الساخر والكاره، للدرجة التى تعامل معه البعض على أنه عدو المرأة، فهل كان أنيس عدوًا بالفعل؟
الإجابة هنا قد تكون غير مباشرة، لكنها ستجعلنا نفهم ما الذى كان يفعله هذا الذى نعتبره واحدًا من آلهة الكتابة ليس فى عصرنا فقط، ولكن على مدى التاريخ.
لم يكن أنيس منصور يجيد شيئًا فى حياته إلا الكتابة، جعل كل شىء فى خدمتها، ولذلك لم يكن غريبًا عليه أن يكذب فى علاقته بالمرأة، فهو يحبها، لكنه اختار ككاتب أن يكون عدواً لها، فهذا أكثر ناشرى وقدرة على خلق جدل، كان يحرص عليه ويعمل على تخليقه، فقد كان أنيس كاتبًا يعشق الصخب، لأنه ببساطة كان يحب ألا تغادرها دائرة الضوء أبدًا. يعترف هو أنه كتب ما كتبه عن المرأة، لأنه يعرف أن هناك من يريدون أن يسمعوا ذلك ويقرأوه، إنه يمنح قارئه ما يريده حتى لو لم يكن مقتنعًا به، أو راضيًا عنه، ولا تعتبر أن هذا اتهام لأنيس، أو نقيصة أريد أن ألصقها به، فكثيرون من الكتاب حول العالم يفعلون ذلك.
■ ■ ■
ما الذى نريد أن نفعله هنا بالتحديد؟
هل نسعى إلى تقييم تجربة كاتب اختلطت عنده الصحافة بالسياسة، والأدب بالفلسفة، والدين بالخرافة، والحقائق بالأكاذيب، والمواقف بالبيزنس، والوطن بالتطبيع، والترجمة بالتلفيق، والرحلات بالخيالات... أعتقد أننى لا أسعى إلى التقييم، بقدر المسعى وراء الفهم لظاهرة فى الكتابة هى الأكثر بريقًا وجاذبية وثراءً.... ومع ذلك لا تستطيع أن تمنع نفسك من أن تصفها السطحية أيضًا. قد ترى فيما أقوله عن أنيس منصور ظلمًا، ما عليك إلا أن تبقى معى خلال هذه الحلقات، التى حاولت الدخول إليها عبرها من مداخل مختلفة، فلا أنا الذى يحاكمه، ولا أنا الذى يعاتبه، لكنها محاولة لفهم رجل وعصر، عاش لنفسه كما يريد، حصد المجد الذى يشاء، عبث بعقول أجيال بطريقته الخاصة، أجبر من يكتب عنه أن يتناوله بالطريقة التى حددها بنفسه، وهو ما سنحاول تفاديه هنا.
■ ■ ■
بقى أن أقول شيئًا عن الرجل الذى عاش ٨٧ عامًا «١٩٢٤_ ٢٠١١»، لقد ظل طوال عمره يخاف من أن يصاب بنزلة برد عابرة، وفى النهاية مات بالتهاب رئوى حاد، دخل بسببه العناية المركزة، أما المثير للعجب، فهو ما تردد عنه، من أنه كان يعكف على الانتهاء من كتابة مذكراته، لكن الموت عاجله فلم يتمها. معنى ذلك أن هناك مذكرات لأنيس منصور موجودة فى مكان ما، لدى شخص ما، وهو ما أعتقد أنه ليس صحيحًا بالمرة، فلم يترك أنيس حدثًا فى حياته إلا وسجله، لم يترك فكرة طرأت على ذهنه إلا وطاردها، وجعلها سجينة أوراقه، لم يقابل شخصية على طوال سنوات حياته كبيرة أو صغيرة، عظيمة أو تافهة، مؤثرة أو عابرة، إلا وحولها إلى حكاية من حكاياته، ولذلك قبل أن يموت أنيس لم يكن لديه شيء يكتبه عن نفسه، لأنه ببساطة كان قد كتب كل شىء.
ما الذى يمكن أن نكتبه نحن هنا؟
أعتقد أن أنيس منصور معنا سيكون مختلفًا.
حاولت أن أفعل ذلك... وليس عليك الآن إلا أن تقرأ... هذا إذا أردت بالطبع.