كانت معركة فكرية استمرت عقودا طويلة، وكان قائدا هذه المعركة هما الشيخ ناصر الدين الألباني ممثلا لمدرسة الحديث من ناحية، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ممثلا لمدرسة الفقه من ناحية أخرى، والمدرستان يشار إليهما بمدرسة النقل ومدرسة العقل، أما عن الشيخ الألباني فهو ألباني ولد فيها ثم هاجر أبوه إلى دمشق وهو بعد صغير، وكان أبوه من علماء المذهب الحنفي، فقيها لا يشق له غبار، وكان حريصا على أن يسلك ابنه ناصر نفس الدرب، فتعهد ولده بالرعاية وجعله يتم حفظ القرآن، وإذ أخذ التبن طريقه في المذهب الحنفي وجده عصيا عليه، وكلٌ مهيئ لما خلق له، فشغب الغلام ناصر على أبيه وتركه ليعمل في مهنة إصلاح الساعات، حيث لم ينتظم أبدا في مدرسة نظامية، سواء كانت متخصصة في علوم الدين أو علوم الدنيا، وحين بلغ العشرين من عمره وقع تحت يده بالصدفة وهو جالس في محل إصلاح الساعات عددٌ من مجلة المنار لصاحبها رشيد رضا، والتفت الألباني إلى الأحاديث التي أوردها رشيد رضا في مجلته فكان أن شغف بالأحاديث وطرق تخريجها، فانكب الألباني على كتب الحديث يعلم نفسه، وكانت طريقته في التعلم هي نسخ كتب الأحاديث وحفظها عن ظهر قلب، واستمر الألباني يعلم نفسه ويعتمد على الحفظ واستظهار ما حفظه، والغريب أن الألباني الذي أشاد به من أشاد لم يكن له شيخ أو أشياخ يعلمونه ويتلقى علوم الحديث عليهم، بل كان هو شيخ نفسه، ومن كان شيخ نفسه شاخ علمه، وقديما قالوا لا تأخذ العلم من صحفي أي من ناسخ الصحف، ولا القرآن من مصحفي أي ممن حفظه من المصحف دون أستاذ يرشده، ومع ذلك بلغ الألباني شهرة عريضة رغم مئات الأخطاء التي وقع فيها وهو يتناول علم الحديث حتى إن كبار العلماء كتبوا عن أخطائه التي وقع فيها والتي لا يمكن أن يقع فيها تلميذ مبتدئ! وأصبح الألباني هو ناظر مدرسة الحديث في العصر الحديث وأحد أئمة من تسلفوا مع علماء الحركة الوهابية.
أما الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي فقد حفظ القرآن وهو في السادسة من عمره، وأدخله والده إلى المدارس النظامية في دمشق، ثم التحق بأحد المعاهد الدينية وبعد أن تخرج فيه سافر إلى مصر ليلتحق بالأزهر الشريف ليحصل منه على العالمية في الشريعة الإسلامية، ليعود إلى دمشق ليعمل في جامعتها ثم يذهب لمصر مرة أخرى للحصول على الدكتوراه في الشريعة وبعد أن حصل عليها عاد إلى دمشق ليترقى في مدارج العلم حتى أصبح أحد أكبر علماء الشريعة في القرن العشرين.
هذان هما قطبا المعركة الفكرية التي دارت رحاها حول السلفية، وقد سجل البوطي بعض هذه المعركة في بعض كتبه ومنهم كتابه الشهير "السلفية مرحلة زمنية مباركة" والحقيقة أنه لم يكن غريبا على البوطي أن يطرح فكرته بسلاسة واقتدار وهو الدارس الباحث الأريب الذي أوتي من كل فقه سببا، ولم يكن من المستغرب أن يصل البوطي في بحثه إلى حقيقة غابت كثيرا عن أذهان بعضهم، تلك الحقيقة الغائبة تشير إلى أن "السلف لم يكن شيئا واحدا ولا طريقة واحدة" بل عاش الإسلام في الأعصر الأولى- تلك العصور التي يبتغي البعض اقتفاء آثارها ذراعا بذراع وشبرا بشبر- بين تشدد المتشددين وتيسير الميسرين، عاشت تلك العصور التي نطلق عليها عصور السلف بين أهل التقليد وأهل الرأي، بين من يأخذ بالعزيمة ومن يأخذ بالرخصة.
كانت السلفية إذن مرحلة زمنية ولكنها تحولت عن بعض أصحاب الأفهام المتشددة إلى مذهب ديني مبتدع وعن ذلك يقول البوطي "إن السلفية الحالية مذهب جديد مخترع في الدين، وان بنيانه المتميز، قد كونه أصحابه من طائفة من الآراء الاجتهادية في الأفكار الاعتقادية والأحكام السلوكية، انتقوها وجمعوها من مجموع آراء اجتهادية كثيرة مختلفة قال بها كثير من علماء السلف وخيرة أهل السنة والجماعة، اعتمادا على ما اقتضته أمزجتهم وميولاتهم الخاصة بهم، ثم حكموا بأن هذا البنيان الذي أقاموه من هذه الآراء المختارة من قبلهم، وبناء على أمزجتهم وميولاتهم، هو دون غيره البنيان الذي يضم الجماعة الإسلامية الناجية والسائرة على هدي الكتاب والسنة، وكل من تحول عنه إلى آراء واجتهادات أخرى قال بها فصيل آخر من السلف فهم مبتدعون تائهون".
ولكن المرحلة الزمنية أصبحت دينا، وفي مصر دخل هذا الدين على يد رسله، وكانت معالم هذا الدين تقوم على نشر علوم الحديث، والانتصار لمدرسة النقل، وكان للحكم مكانة في هذا الدين الجديد، ولكنهم وضعوا الحكم في منطقة خفية من أفكارهم فلم يصرحوا به، وأوهموا الدنيا أنهم أهل علم فقط ولا شأن لهم بأمور الحكم ولكن الحكم كان مبتغاهم الأكبر، وهذا هو موضع المقال القادم.
أما الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي فقد حفظ القرآن وهو في السادسة من عمره، وأدخله والده إلى المدارس النظامية في دمشق، ثم التحق بأحد المعاهد الدينية وبعد أن تخرج فيه سافر إلى مصر ليلتحق بالأزهر الشريف ليحصل منه على العالمية في الشريعة الإسلامية، ليعود إلى دمشق ليعمل في جامعتها ثم يذهب لمصر مرة أخرى للحصول على الدكتوراه في الشريعة وبعد أن حصل عليها عاد إلى دمشق ليترقى في مدارج العلم حتى أصبح أحد أكبر علماء الشريعة في القرن العشرين.
هذان هما قطبا المعركة الفكرية التي دارت رحاها حول السلفية، وقد سجل البوطي بعض هذه المعركة في بعض كتبه ومنهم كتابه الشهير "السلفية مرحلة زمنية مباركة" والحقيقة أنه لم يكن غريبا على البوطي أن يطرح فكرته بسلاسة واقتدار وهو الدارس الباحث الأريب الذي أوتي من كل فقه سببا، ولم يكن من المستغرب أن يصل البوطي في بحثه إلى حقيقة غابت كثيرا عن أذهان بعضهم، تلك الحقيقة الغائبة تشير إلى أن "السلف لم يكن شيئا واحدا ولا طريقة واحدة" بل عاش الإسلام في الأعصر الأولى- تلك العصور التي يبتغي البعض اقتفاء آثارها ذراعا بذراع وشبرا بشبر- بين تشدد المتشددين وتيسير الميسرين، عاشت تلك العصور التي نطلق عليها عصور السلف بين أهل التقليد وأهل الرأي، بين من يأخذ بالعزيمة ومن يأخذ بالرخصة.
كانت السلفية إذن مرحلة زمنية ولكنها تحولت عن بعض أصحاب الأفهام المتشددة إلى مذهب ديني مبتدع وعن ذلك يقول البوطي "إن السلفية الحالية مذهب جديد مخترع في الدين، وان بنيانه المتميز، قد كونه أصحابه من طائفة من الآراء الاجتهادية في الأفكار الاعتقادية والأحكام السلوكية، انتقوها وجمعوها من مجموع آراء اجتهادية كثيرة مختلفة قال بها كثير من علماء السلف وخيرة أهل السنة والجماعة، اعتمادا على ما اقتضته أمزجتهم وميولاتهم الخاصة بهم، ثم حكموا بأن هذا البنيان الذي أقاموه من هذه الآراء المختارة من قبلهم، وبناء على أمزجتهم وميولاتهم، هو دون غيره البنيان الذي يضم الجماعة الإسلامية الناجية والسائرة على هدي الكتاب والسنة، وكل من تحول عنه إلى آراء واجتهادات أخرى قال بها فصيل آخر من السلف فهم مبتدعون تائهون".
ولكن المرحلة الزمنية أصبحت دينا، وفي مصر دخل هذا الدين على يد رسله، وكانت معالم هذا الدين تقوم على نشر علوم الحديث، والانتصار لمدرسة النقل، وكان للحكم مكانة في هذا الدين الجديد، ولكنهم وضعوا الحكم في منطقة خفية من أفكارهم فلم يصرحوا به، وأوهموا الدنيا أنهم أهل علم فقط ولا شأن لهم بأمور الحكم ولكن الحكم كان مبتغاهم الأكبر، وهذا هو موضع المقال القادم.