رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداعات "البوابة نيوز"|| نسائم يوليو.. قصة قصيرة للكاتبة علياء مصطفى

الكاتبة علياء مصطفى
الكاتبة علياء مصطفى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أصير شخصا آخر في يوليو، تحترق أوراق النباتات على شباكي، تشاركني اكتئابي الموسمي، في يوليو يصاحبني خمول شديد طوال اليوم يصل ذروته وقت العصر، أهرب منه إلى النوم واستيقظ بجسد منهك، ومزاج متقلب تفشل في عدله فناجين القهوة، وعلب السجائر.

أنتفض على رنين الهاتف.. ألمح اسمها فألتقطه سريعا فيسقط من يدي، أنتظر تلك البحة في صوتها، فتعيدني لسنوات بعيدة آخر عهدي بصوت أمي، لم نتقابل رغم معرفتنا التي تجاوزت العامين، كل مرة تعرفني بنفسها وكأنها المرة الأولى "أنا بسنت.. مديرة مؤسسة حياة".

جاملتني اليوم بعبارة لم أسمعها من قبل " أحيى إنسانيتك " تبعتها بجمل مقتضبة عن عجوز مريض، وازدادت بحة صوتها وهي تقول " لو راح مكان غير عندك هيموت". صرت أراها من خلف صوتها، أعلم حالتها، وأدرك أحاسيسها، أنهت حديثها ككل مرة "أتمنى تزورنا في المؤسسة قريب" تلك العبارة التي تختلف فيها بحة صوتها كل مرة عن سابقتها.. عبارة تطورت من المجاملة إلى التمني، ثم إلى ما هو أبعد عن قصد لم أقل خلال المكالمة سوى ثلاث عبارات: "أشكرك"، "تحت أمرك"، " مع السلامة"، تاركا لصوتها المجال لينشر دفئه المعتاد.  

منذ سنوات اخترت الانتقال إلى المحراب، هكذا يطلق حسن وأحمد - رفقاء درب العمل الخيري- على استراحتي الصغيرة بجوار الدار الخيرية التي بناها والدي في المنصورية، قبل رحيله عن الحياة، ويضمهما سور واحد تعزله الأشجار العالية عن كل شيء سوى السماء.

في يوليو الماضي جمعتني الصدفة برانيا في عزاء راضي، أقدم نزيل بالدار التي تستضيف المسنين مرضى الزهايمر، يوم عزائه رأيتها تستند بيدها إلى سيارتي، وباليد الأخرى تمسح دموعها المنسابة خلف النظارة الشمسية الكبيرة لم تنتبه لصوت ريموت فتح السيارة، فانتظرت لبرهة لكنها ظلت على حالتها.. "إنتى كويسة"؟، انتبهت وأومأت برأسها "تحبي أوصلك؟ رايحة فين؟" لم نتبادل الحديث طوال الطريق من مصر الجديدة إلى المعادي عندما توقفت كانت تعبث بحقيبتها، ناولتني قلما وبصوت خفيض قالت "تليفونك" وهي تضع يدها الأخرى قبالتي في إشارة لكتابة رقمي على يدها، هممت بالبحث عن ورقة فوجدتها تقرب يدها أكثر، بصعوبة حاولت الكتابة على يدها المتعرقة دون أن أؤلمها. لا أتذكر أنها شكرتني على توصيلها، بعد مغادرتها ندت عنها التفاته سريعة قبل أن يبتلعها مدخل العمارة الضخم، ملامح دقيقة، جسد ضئيل، شعر بني قصير، وأقراط عديدة تبرق بأذنيها الصغيرتين، أصرت على توطيد العلاقة سريعا وأعجبني ما بذلته من جهد؛ كان كفيلا لعزوف مثلي أن يتركها تقترب.
جذبتني عفويتها وإيقاع روحها ذات الوتيرة الواحدة وسط كل هذا الصخب، جبنت أن أتوقف لأسأل نفسي عن حقيقة إحساسي ناحيتها، فقط حرصت على أن أبقيه تحت السيطرة ولم أكن أدرك أن ذلك يزيد روحي إرهاقا

تركتها تضع الحدود، اختارت متى نتقابل وأين.. في البداية اكتفت بقضاء ليلة كل أسبوع بالمحراب، تأتى ليلا وترحل في الصباح الباكر، غير ذلك اختارت التواصل عبر رسائل الموبايل عوضا عن المكالمات.. بعد فترة أصبحت تقضى ليلتين أو أكثر، وصارت لا تهتم بأوقات المغادرة وعن قصد تركت انطباعا للعاملين بالمكان بأنها زوجتي تزامنا مع تلميحاتها حول الزواج وكونه فكرة رجعية بلا معنى.. اليوم يمر عام على وجودها بحياتي ومازالت الوحدة تسكنني!.

الساعة الثانية صباحا، فرغت علبة سجائري، وعلبة المنوم، ومواجهتي لنفسي.

الأيام في يوليو متشابهة ثقيلة مثل ردها المتوقع على رسالتي "هجيلك لو خلصت مع أصحابي بدري".
في الصباح أرمي قطرات من الدواء على عيني المحترقتين بليالي يوليو، وأخفي الهالات السوداء بنظارات قاتمة لا تفارقني حتى الغروب 
في المساء أعبر الممر الخلفي بين الدار والمحراب، ألمح المزيد من أوراق النباتات تقاوم الاصفرار الذي يسبق احتراقها، لم أكترث لانعكاسات ضوء الغرفة الصغيرة من خلف زجاج بابها الملون معلنا عن وجودها.. أقاوم اشتياقي لحضن أعلن فيه عن ضعفي الإنساني، وأنا أكاد أراها من خلف الباب تلصق وجهها باللابتوب الصغير تتابع أعمالها، تراجعت إلى غرفة نومي.. ألمح مفرش السرير الحريري ذي اللون الذهبي؛ تلك المفارش التي تفضلها مع موسيقى غريبة ليلة ممارسة الحب، لم أشك لحظة أنها تعلم أنى لم أصل معها أبدا إلى نشوتي كرجل، وبدا أن ذلك لا يعنيها، جسدها النحيل المنهك طوال اليوم في عملها، وعقلها المتهاوي في رحلة اللهاث في ماراثون لا ينتهي من مصالح، ومجاملات؛ وتنازلات، يتركانها نهاية كل يوم كقطعة أثاث قديمة تسمع صوت طقطقتها كل حين، صرت أشك مؤخرا أن وجودها هدفه فقط أن تنافس في جلسات الشلة المتباهيات بوجود حبيب.

الليلة قررت ألا أمارس معها تلك التمثيلية الساخرة، أغمضت عيني، فوجدت وجهه المحاصر بالتجاعيد يطاردني، اعتدلت على جانبي الأيمن وهززت رأسي بإصرار أسقط ملامحه من مخيلتي.. فملامح راضي قبل رحيله لم تكن تئن تحت وطأة المرض بقدر ما تصرخ من الوحدة، بعدما تباعدت زيارات أبنائه، وغيب الموت زوجته التي واظبت على زيارته على كرسي متحرك حتى فتراتها الأخيرة ورغم أنه لم يكن يدرك من هي ولا أنها رحلت إلا أن شيئا به انكسر.. عدت أتقلب في سريري وأستقر على جانبي الأيسر، وملمس الفراش الحريري يستفز جسدي.

ثعبان قرمزي ذو رأس كبيرة يتسحب على طرف الفراش الذهبي، لا أعلم كيف رأيته بوضوح وسط العتمة، أندفع بقوة مغادرا سريري، أطير في الهواء وأهوي مصطدما بحواجز كثيرة، تسقط مع جسدي وفوقه لحظة ارتطامه بالأرض. لم أستطع كتم أنيني، والألم يعتصر جسدي، تطن أذني بضجيج صادر من أعماقي، لا أعلم أين أنا ولا ماذا يحدث؟!. أحاول النهوض ولا أستطيع، أزحف في كل اتجاه.. أتحسس ما حولي، بصعوبة أتمكن من النهوض، بعض من ارتياح ينتابني عندما تلامس يدي مقبض الباب. خرجت إلى الردهة، اعترت جسدي قشعريرة، أنزع قميصي الملتصق بجسدي المبلل بالعرق الغزير، وأطوحه بعيدا.. كل شيء يبدو في مكانه، حجرة المكتب مازالت مضاءة، أعود الى سريري 
يغمر ضوء الصباح غرفتي ذات النوافذ الزجاجية الملونة، تاركا في عيني المفتوحتين منذ الأمس حرقة شديدة،
أرفع وجهي ناحية رزاز الماء المندفع من الدش، يأتيني صوتها "أنت زوغت فين امبارح؟"، لم تنتظر إجابة على السؤال، انفردت بمرآة الحمام تضع عدساتها اللاصقة، ندت عنها التفاته سريعة ناحيتي وأنا أجفف جسدي.." إيه الكدمات اللي في جسمك دي؟ أكيد ما سمعت كلامي وركبت الموتوسيكل "سؤال آخر لم تنتظر إجابته وغادرت!.
الآن أدرك أنها لم تكن إلا جزءا من ارتحالي نحو عالم أقل وحدة، الحقيقة إن وجودها قد زاده حدة.
بجوار البوابة الكبيرة أقف أتفقد حالة الموتوسيكل المهمل من شهور.. في طريقي إلى "مؤسسة حياة"، أتعمد ألا أنظر إلى مؤشر البنزين، بل وأتغافل عن ارتداء الخوذة؛ لربما ليوليو وأحزانه قليل من النسيم.