الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ليلة سفر مع مصطفى بيومى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أتساءل كثيرا ما السر الذي يجعل الأحلام تأتينا من الصعيد!، وأنا صغير كنت أنتظر بائع «العسل الأسود»، ذلك الرجل الأمين الذي يغير مرارات مذاق القرية، يمنحنا العسل دون أن يطلب المقابل، يكتفي بوضع علامات على جدران الديار حتى ينتهي موسم الحصاد، يصب في «الكيزان» العسل لأطفال القرية، وفي القلوب المحبة.

 أحببنا الصعايدة رغم بعد المسافات كنت أراهم كجذوع النخل العتيد، وأرى اختمار الحلم في جباهم، أينما زرعتهم أثمروا، ثمة علاقة ما بين لهيب الشمس هناك وإتمام نضج الأحلام، كُثر هم لم يأت أحد فيهم القاهرة يحمل أوراقه إلا وصارت كبرديات عابرة للأزمنة. 

مصطفى بيومي واحد من هذا الطرح الشهي، جاب هناك يجمع الحرف من بساتينه ليصنع منه عناقيد من الفل بتوأدة المحب الذي لا يلتفت إلى ألم نزع الشوك، يعبء من دمائه المسالة مدد، ليكتب أن المسألة لم تكن سوى عشق وهوى وأن من لم يدرك قيمة كلمته هوى.

أنيق حين يتكلم.. يفيض بالعبارات وكأنه يضع يده في بئر لا يجف، ألقُ في الطرح كنبي يعي قيمة النبأ، يقرأ بنهم ويكتب كأنه يوحى إليه من إله للكلم، مطفأة سجائره أفكار لم تكتمل، أحرقها لأنه لا يحب أن تنجب براجم أصابعه عبارات مشوهة.

لم يفكر لحظة في "المصعد" وآثر الصعود على الدرج.. ففي الدرج حياة وعناوين للبشر.. رائحة الحكايات وسير الأموات ومواء القطط. هدهدة أمومة وغضب وطرب، قصص حب منثورة..  رذاذ أحلام وعبق عرق..  المصعد علبة موت صماء تختصر الزمن فتعطي وقت فراغ وانتظار وقلق وأرق.

في ليلة الاحتفاء به وقف النقاد والأصدقاء والمحبون حول نوافذ «مقامه» يفندون مدده ويشرحون مداده، يصنع له شخوص محفوظ صفين فيبادلهم التحية كعادته، فلقد كان أكثر الناس معايشة لهم بعد خالقهم «محفوظ».

 يبتسم له أحمد عاكف، الحلاق شهيد الحب العبثي، ويشد على يديه عباس الحلو، اليساري قبل الأوان علي طه، الكل يبتهج به: «العانس نفيسة ذات الشهوة الطاغية والمرح المغلف بالمرارة، حسن وحسين وحسنين وأمهم، حميدة وحسين كرشة وزيطة صانع العاهات والشيخ درويش وعم كامل، اللص المثقف طالب الثأر والانتقام سعيد مهران، الوفدي المأزوم الممزق عيسى الدباغ، الشحاذ الوجودي المتوتر عمر الحمزاوي، الشيوعي الهش منصور باهي، الصحفي العجوز الحكيم المتقاعد عامر وجدي، الخادم الطموحة زهرة، المجنون سيد العقلاء جعفر الراوي، الست عين وقططها، أحمد عبد الجواد وأمينة وياسين وخديجة وعائشة والشيخ متولي عبد الصمد، يحتضنه كمال عبد الجواد.

ينصرفون إلى فيديو المذياع ليستدعي «ثومة» ويأت تشايكوفسكي ومحمد رفعت وتشيخوف وكازنتزاكي وآل باتشينو وأنتوني هوبكنز وساندرا بولوك وجوليا روبرتس.. كلما انفض جمع آتى آخر بنفس الحب والترحاب.

ثم يأتيه صلاح عبد الصبور، فينشدان

الله لا يحرمني الليل ولا مرارته

وإن أتاني الموت فلأمت محدثا أو سامعا.

قبل ربع قرن إلا قليلا،آثر الروائي المتقاعد أن يقبع في الكهف ويتخذه وطنا بديلا. يغادر كل شهر أو شهرين فتفزعه الشوارع القبيحة المكتظة، ويعود مهرولا إلى غرفته مسدلة الستائر، المسكونة بالعتمة الحانية ورائحة البخور الثقيل، غير أنه في هذه الليلة أعد حقيبة سفره وضع فيها حصاد عمره: « الصورة، لمحات من حياة المواطن م.ب، أحلام سرية، لعبة الحب، أمير المؤمنين، لذة القتل، ناس من المنيا، أما بعد، أكاذيب صغيرة، في النقد الأدبي، عصير الشخصية المصرية.. قراءة في رباعيات صلاح جاهين، معجم أعلام نجيب محفوظ، أستاذ الجامعة في عالم نجيب محفوظ، السينما في عالم نجيب محفوظ، الوظيفة الاجتماعية للماء في الأدب المصري، أم كلثوم في الأدب المصري، كشف الأقنعة.. صنع الله إبراهيم وهؤلاء، سعد زغلول في الأدب.. وأخرى» وصورته حينما كان طفلا، ترجل إلى محطة القطار وقطع تذكرة إلى المنيا، تبعت خطاه وأنا أتساءل إلى من يذهب هناك؟.

في الطريق يسير يتكئ على حزنه، بعدما حقق نصرا عظيما، لم يهنئه أو يصفق له أحد، فباخت فرحته.. الوجوه كئيبة متجهمة، البنايات قبيحة ماسخة، الكلاب والقطط والفئران تتصارع حول أكوام القمامة، والنيل يقتله الظمأ.. يتمتم: «لا شئ يبقى من الوطن الذي نعرفه إلا أطلال الذكريات.. أه يا وطني آه».. يدلف إلى المقابر ليقرأ الفاتحة على: «شقيقه محسن وصابر سبرتو وخاله محمد وجده حمدان وسمير طانيوس والمقدس بطرس» يتذكر رحيل جمال عبدالناصر، وأم كلثوم، ويحيى الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين وغيرهم» يجفف دمعه ويواصل السير حتى يصل إلى بيته.. يفتح الباب ثم غرفته وهو يدندن:

تلاتين سنة مروا قوام كده ليه؟

أنا كنت باحلم أياميها بإيه؟

شجرة ليمون تسكرنا مجانا

وبيت صغير سوره مش عالي

تقولي فوق دا وهم يا صاحبي

دلوقتي فرضوا ضريبة ع الأحلام

يفتح حقيبته يُخرج صورته طفلا ويبتسم ثم يعطيها للطفل الجالس على فراشه ويقول:

ها قد جئت إليك يا صغيري؟

يبتسمان: أو كان الأمر يستدعي كل ذلك العناء؟

فيجيب الشيح: نعم انظر في تلك الحقيبة لترى.

يقوله له الطفل: وماذا غيرت في العالم بكل هذه الكتب؟

يجلس بجواره ويضع يده على كتفه ويقول: يا صغيري الكتابة لا تغير العالم،  إنها فقط تحتج عليه.

يقول الطفل: إذا ما جدوى الكتابة؟

فيجيب الشيخ: وهل نملك سواها يا ولدي!

- يقول الطفل: ما الهزيمة التي تقصم الظهر يا شيخي؟

- فيرد: الانتصار في المعارك التافهة يا ولدي. 

يعانق الطفل ويدندنان:

يمامة بيضا.. ومنين أجيبها

طارت يا نينة.. عند صاحبها

تطير وتجيني.. قاصدة تسليني

لأحلف بديني.. لأطير وياها

وخطفها البلبل.. وطار وياها

أصله يا نينة.. يعرف لغاها

 للرحلة بقية نحكيها..

أن تموت وأنت تكتب.. ان تكتب حتى لا تموت