الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

سياسة

نجوم التنوير.. نصر حامد أبو زيد رائد التنوير في القرن الحادي والعشرين

 نصر حامد أبو زيد
نصر حامد أبو زيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

3 محاور رئيسية أساس أبحاثه: دراسة التراث على أسس علمية.. ونقد خطاب الإسلام السياسي.. وتأصيل وعى علمى بدلالة النصوص الدينية.


قدم لنا نصر حامد أبو زيد الكثير من الأبحاث والكتب المهمة لفهم تراثنا، ومعرفة سبب فشل مشروعات التحديث والتنوير. وكانت البداية مع أفكار المعتزلة، حيث أعد دراسة عن المجاز فى القرآن عند المعتزلة، الذين لعبوا دورا مهمًّا فى التأصيل لهذا العلم، كمنهج فى تعاملهم مع النص القرآنى، ساعدهم على فهم القرآن، وقد حاز نصر بهذه الدراسة درجة الماجستير بتقدير امتياز، بعد ذلك بدأ فى وضع مجموعة من الأركان الأساسية لمشروع تجديد الخطاب والفكر الدينى، توصل إليها بعد رحلة طويلة سنحاول رصد أبرز ملامحها.
نصر حامد أبو زيد المولود فى قحافة، أنهى دراسته فى قسم اللاسلكي عام ١٩٦٠، وعمل بضع سنوات حتى استطاع أن يوفر لنفسه فرصة الدراسة الجامعية. وحصل على الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة ١٩٧٢ بتقدير ممتاز، ثم ماجستير فى الدراسات الإسلامية عام ١٩٧٦ بتقدير ممتاز، كما حصل على دكتوراه فى الدراسات الإسلامية كذلك عام ١٩٧٩ من الكلية ذاتها. أحد أبرز المفكرين التنويريين فى مصر والعالم العربى خلال القرن الحادى والعشرين، وصاحب المشروع المهم فى تجديد الفكر والخطاب الدينى، الرجل الذى تعرض لتنكيل كبير من قِبَل الأُصوليين الإسلاميين وصل إلى حد اتهامه بالكفر، ونفيه من مصر، والحكم بالتفريق بينه وبين زوجته، لكنه ظل صامدًا ومدافعًا عن حق الإنسان فى التفكير والبحث وإعمال العقل، حتى رحل عن عالمنا فى ٥ يوليو ٢٠١٠، تاركًا ميراثًا كبيرًا من المعرفة. 

واهتم نصر أبو زيد خلال رحلته العلمية بثلاثة محاور رئيسة، هي: دراسة التراث على أسس علمية ووضعه فى سياقه التاريخى، ونقد خطاب الإسلام السياسى، وتأصيل وعى علمى بدلالة النصوص الدينية، وقد أصل نصر لهذه المحاور فى العديد من كتبه، ومنها «الاتجاه العقلى فى التفسير، وفلسفة التأويل، ونقد الخطاب الدينى، ومفهوم النص دراسة فى علوم القرآن، وغيرها من الكتب والأبحاث فى هذا المجال».
يعتمد نصر حامد أبو زيد فى موقفه من التراث على منهج تأويلى يرتكز على الفكر المعتزلى الذى أعلى من دور العقل فى فهم وتحليل النصوص وكذلك على التراث الصوفى وخاصة التأويل عند محى الدين ابن عربى وطبق هذا المنهج فى قراءته للتراث الإسلامى بشكل واضح، مستعينًا بآليات جديدة لم تكن موجودة من قبل فقد استفاد من المناهج الفلسفية واللغوية الحديثة كنظرية التلقى والهرمنيوطيقا والسيموطيقا وتحليل الخطاب وغيرها، وقد ركز نصر حامد أبو زيد فى إعادة قراءته للنص القرآنى فى جانبيه اللغوى وعلاقته بالإنسان باعتباره المقصود بالخطاب والمشكل له من جهة أخرى، وذلك بحكم ثقافة الإنسان وبيئته التى ترتبط بالنص فى تنزيله، كما نادى نصر حامد أبو زيد فى كتاباته بنزع القداسة عن نصوص التراث؛ حيث يرى أن هذا الفهم الأيديولوجى يشكل عائقًا أمام الفهم الصحيح لهذا التراث، منطلقًا من مجموعة من المُسَلَّمات التى تحدد منهجيته فى القراءة الكاشفة هى:


المُسَلَّمة الأولى:
إن أى مجال من مجالات المعرفة ليس مجالًا منفصلًا عن باقى المجالات الأخرى فى سياق ثقافة محددة.
المُسَلَّمة الثانية:
إن أى نشاط فكري- فى أى مجال معرفي- ليس نشاطًا مفارقًا لطبيعة المشكلات الاجتماعية «الاقتصادية والسياسية والفكرية»، التى تشغل الكائن الاجتماعى، والمفكر كائن 
اجتماعى يمارس فعالياته الفكرية غير منعزل أو متعال عن طبيعته الأساسية تلك.
المُسَلَّمة الثالثة:
إن منهجية الفكر تكتسب صفة «الصدق» أو «عدم الصدق» من منظور «رؤية العالم» التى تختلف من جماعة لأخرى داخل الثقافة الواحدة فى تفاصيلها، وإن تشابهت فى كلياتها، وبعبارة أخرى ثمة منظور كلى إسلامى للعالم لا يختلف عند الجماعات «بالمعنى الاجتماعى أو المعرفى» المختلفة، ولكن تفاصيل هذا المنظور تختلف من جماعة إلى أخرى، فلا يمكن مثلا أن نعتبر أن رؤية العالم عند «المعتزلة» تتشابه فى تفاصيلها مع رؤية العالم عند «الأشاعرة»، وحين ندخل «رؤية العالم» فى تحليلنا للفكر يصبح «الصدق» أو «عدم الصدق» أمورًا نسبية أو تاريخية، بالمعنى الاجتماعى، وهذا الذى يجعل من الممكن الحديث عن «أيديولوجيات مختلفة داخل النظام الفكرى الإسلامى».
المُسَلَّمة الرابعة:
إن كل الخلافات الاجتماعية «الاقتصادية، السياسية، الفكرية» بين الجماعات المختلفة فى تاريخ الدولة الإسلامية كان يتم التعبير عنها من خلال اللغة الدينية فى شكلها الأيديولوجى، فلم يكن ممكنا ممارسة أى صراع على حلبة الخلاف حول قضايا التفسير والتأويل، أى النزاع على ملكية النصوص، والحرص على استنطاقها بما يؤيد التوجهات والمصالح التى تعبر عنها الجماعات المتصارعة، ويؤكد نصر حامد أبو زيد فى هذه المسلمة على أن تناول تاريخ الفكر الإسلامى بوصفة نزاعًا حول «الحقيقة» هو فى الحقيقة نوع من التزييف الأيديولوجى للتاريخ والفكر معا، فتاريخ الفكر ليس إلا تعبيرا متميزا عن التاريخ الاجتماعى بمعناه العميق، وسيطرة اتجاه فكرى بعينه على باقى التيارات الفكرية الأخرى لا يعنى أن هذا التيار قد امتلك «الحقيقة» وسيطر بها. فعلى سبيل المثال لا الحصر قد سيطر «المعتزلة» فترة من الزمن على حركة الفكر بمساعدة السلطة السياسية، والخليفة المأمون على قمتها، ثم حدث انقلاب فكرى فى عصر المتوكل جعل السيطرة «للحنابلة» التى تم إطلاق اسم «أهل السنة والجماعة» عليها وهو اسم ذو طابع أيديولوجى واضح؛ لأنه يعنى بدلالة المخالفة– نزع الصفة عن التيارات الأخرى المخالفة– وهذا ما يُظهر الآن على السطح من خلال تلك الفرق «الإخوان المسلمين، والسلفيين، والجماعة الإسلامية.. إلخ» التى تقوم بنفى الآخر المسلم وإقصائه.
المُسَلَّمة الخامسة:
إن سيطرة اتجاه فكرى بعينه لفترة طويلة من الزمن لا يعنى أن الاتجاهات الأخرى اتجاهات ضالة أو كافرة؛ لأن هذه الصفات الأخيرة تعد جزءًا من آليات الاتجاه المسيطر لنفى الاتجاهات المخالفة. وهذا أيضًا ما يتم تفعيله الآن من فصائل التيار المتأسلم تجاه مخالفيهم فى الرأى.
المُسَلَّمة السادسة:
إن «المستقر» و«الثابت» فى الفكر الدينى الراهن ينتمى فى أحيان كثيرة إلى جذور تراثية هنا وهناك، قد تكون الصلة واضحة بين الآنى والراهن، وبين التراث القديم «كالدعوة السلفية مثلا وارتباطها بفقه ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب»، وقد لا تكون كذلك فنحتاج إلى آليات تحليل ذات طبيعة خاصة قادرة على «الحفر»؛ من أجل رد الأفكار إلى أصولها وبيان منشأها الأيديولوجى، وحين ينكشف الأساس الأيديولوجى لبعض ذلك «المستقر» و«الثابت» تنتفى عنه أوصاف «الحقائق الثابتة» أو «ما هو معروف من الدين بالضرورة».
كما يؤكد نصر حامد أبو زيد على أن للأفكار تاريخًا، وحين يتم طمس هذا التاريخ تتحول تلك الأفكار إلى «عقائد» فيدخل فى مجال الدين ما ليس منه، ويصبح الاجتهاد البشرى ذو الطابع الأيديولوجى نصوصًا مقدسة.
وهذه المسلمة كما يوضح لنا نصر حامد أبو زيد تكشف لنا عن بعد الصراع الآنى بين منهج «تحليل الخطاب»، ومنهج القراءات التكرارية التى لا تضيف شيئًا إلى ما سبق.. إنه صراع بين «الوعي» الإسلامى الراهن: هل يظل كما هو أسير الترديد والتكرار؟ أم ينطلق إلى آفاق البحث الحر القادر على «فهم» التراث والتجادل معه والإضافة إليه؟
وينطلق كذلك نصر حامد أبو زيد فى قراءته للتراث من منطلقين أساسيين يحددهما فى كتابه «دوائر الخوف».
المنطلق الأول:
هو الإيمان العميق بصلابة الإسلام وقوته فى نفوس الناس كلما تأسس على «العقل» وقوة الحجة، وضعفه فى المقابل وتهافته، كلما اعتمد على مجرد التسليم والإذعان، ويؤكد نصر حامد أبو زيد على أن الإسلام هو الدين الوحيد من بين الأديان المنزلة الذى يعطى لإيمان العقل أولوية قصوى، وينحاز له ضد «التقليد»، والتمسك بأهداب الماضى وعبادة ما كان عليه الآباء والأجداد، فالعقل هو السبيل الوحيد لـ«العلم» الذى هو بدوره الأساس المتين الذى تتأسس عليه «الهداية»، ويقرر نصر حامد أبو زيد بأنه لأهمية وأصالة دور العقل فى تأسيس الايمان والهداية ربط الإسلام ربطا محكما بينه وبين «الاجتهاد»، ولم يجعل الوصول إلى «الصواب"- ناهيك عن الوصول إلى «الحقيقة» التى هى ضالة المؤمن- شرطًا لإجازة الاجتهاد ومكافأته، لقد أجاز الإسلام الاجتهاد «الخطأ» وكافأه «من اجتهد فأخطأ فله أجر»؛ ذلك أن الخطأ هو السبيل لبلوغ الصواب فى مجال التفكير الحر، بلا خوف، ولا عوائق، ولا مناطق آمنة كما يريد البعض.
ويستنتج نصر حامد أبو زيد من كل هذا أن «دينًا يحرص على التفكير الحر بمكافأة الاجتهاد الخطأ لهو دين واثق من نفسه، وهو دين يمنح المؤمن به ثقة وجسارة فى الاجتهاد، وجرأة فى البحث والتفكير لا تبالى بغضب الغاضبين ولا تعصب المتعصبين».
المنطلق الثانى:
أن ثوابت الإيمان الدينى هى «العقائد، والعبادات» الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. والإيمان لا يستبعد الفهم والشرح والتأويل، ففى مجال العقيدة اختلفت اجتهادات العلماء المسلمين مثلا حول فهم طبيعة «الإيمان»، واختلفوا حول تعريفه، وما إذا كان التعريف يتضمن «العمل»- أى العبادات- أم أنه قاصر على إيمان القلب، وأكثر من هذا اختلفوا حول عقيدة «التوحيد» بين من يفصل «الذات الإلهية» و«الصفات» وبين من يوحد بينهما، كما اختلفوا حول طبيعة «القرآن» هل هو محدث مخلوق أم قديم أزلي؟
ويقدم نصر حامد أبو زيد هذه الاختلافات ليؤكد أن تلك الخلافات لم تكن خلافات حول «الأصول»، وإنما كانت اجتهادات مختلفة فى فهم تلك الأصول وشرحها، فلم ينكر أحد منهم وجود «الله» عز وجل، أو ينكر «التوحيد» فضلًا عن أن ينكر أن «القرآن» منزل من عند الله. وقد كان من الطبيعى وقد اختلفوا حول طبيعة القرآن أن يختلفوا فى تفسيره وتأويله بين متمسك بالمعنى الحرفى مع التسليم بما وراءه، وبين متأول يرى فى قواعد اللغة والبلاغة مدخلًا طبيعيًا لفهم لغة القرآن الكريم وتأويلها؛ لأن القرآن ليس فى التحليل الأخير إلا تنزيلًا «بلسان عربى مبين» سورة الشعراء ١٩٥ وكل من هؤلاء لم ينكر «إعجاز» القرآن الكريم.
تلك كانت المسلمات والمنطلقات التى أرساها نصر حامد أبو زيد لقراءة التراث الإسلامى بشكل عام.
المرأة داخل دوائر الخوف وخطاب الأزمة
يرى نصر ابو زيد أن هناك تحولا حدث فى الخطاب العربى كله بعد هزيمة ١٩٦٧ حين لجأت الذات العربية الجريحة للهروب إلى الماضى المتمثلة فى الهوية الذاتية الأصلية إلى الرجولة وبقائها المتوهم.
فعلى المستوى الإقليمى حدث التشرذم هروبا من الوحدة، وعلى المستوى الاجتماعى استيقظت الطائفية بديلا عن القومية، وعلى مستوى الانتماء حل «الدين» محل «الوطن والمصالح المشتركة والتاريخ والجغرافيا».
ويرى أبو زيد أنه إذا اتحد التشرذم والطائفية مع غطاء الدين فإن النتاج سيكون العنف والإرهاب على كل الأصعدة، فيتحول المسلم ضد المسيحى، والسنى ضد الشيعى، والرجل ضد المرأة والعكس. كما يرى أن هزيمة ١٩٦٧ خلقت خطابا يعمق أزمة المجتمع العربى، وأحدثت تراجعا اقتصاديا، وأن هذا الخطاب لا يسعى إلى حل الأزمة والنهوض بالتجربة، ولكن يكتفى بتحليل أسباب الأزمة طوال الوقت، وهذا التراجع فى الخطاب صحبه تراجع فى قضية المرأة.
وحسب أبو زيد فإن هذا التراجع سمح بإعلاء الخطاب الدينى الذى يستند إلى مرجعية النصوص والقيم الشاذة داخل النموذج الغربى عن طريق إبرازها وانتقادها؛ وذلك لتزييف قضية المرأة، متجاهلًا أنها قضية اجتماعية فى الأساس، بل وساعد فى تعقيد الإشكالية فى زعمه أنه يُسهم فى حلها، من خلال الاعتماد على النصوص الشاذة واللجوء إلى أضعف الحلقات الاجتماعية، سعيًا لنفى الإنسان، ومن هذه الوجهة يتعامل مع المرأة تعامله مع الأقليات الدينية الأخرى فيسعى إلى حبسها داخل أسوار المنزل وداخل الحجاب؛ بهدف إخفائها، بنفس القدر الذى يسعى فيه إلى إلغاء وجود الأقليات المسيحية بحبسهم فى مفهوم أهل الذمة والولاية عليهم.
ويقر أبو زيد فى كتابه أن الطائفية التى تولدت تجلياتها الأولى عقب أزمة الهزيمة ١٩٦٧ قد مارست التفتيت لكل شيء من بداية المؤسسات إلى الفرد ذاته.
وهذا التفتيت خلق تيارين أساسيين هما الأصولية الإسلامية، والاتجاهات العلمانية. فالتيار الأول بدأ فى تشويه الأطر المرجعية الثقافية التى هى «الغرب» من وجهة نظره للتيار العلمانى، فأنتج لنا خطاب سيد قطب فى مصر، وأبى الأعلى المودودى فى الهند.
وهذا الخطاب الأصولى لم يهتم بقضية المرأة ولم ينظر إليها إلا من جانب الوظيفة الجنسية فقط. وقد استخدم التيار الأصولى قضية المرأة لتشويه خطاب التنوير، عن طريق القول أن نهضة الغرب الذى يدعو لها العلمانيون تحرض المرأة على ترك مكانها فى المنزل وخلع الحجاب والسفور.
ويرى الكاتب أن خطاب النهضة والخطاب الإسلامى المعاصر مختلفان؛ حيث إن الأول يحاول التجميع، بينما الثانى يشتت، فالأول يرى الوطن هو وحدة الأرض والتاريخ المشترك والمصالح المشتركة، أما الثانى يراه فى وحدة الدين، وبينما يرى خطاب النهضة الغرب بقيمه المتحضرة ومدركا تمامًا مطامعه، لكنه يحاول أن يتعلم من تجربته، بينما خطاب التراجع لا يرى فى الغرب سوى العدو. وقضية المرأة إن كانت فى خطاب التراجع ما هى إلا الطاعة لتروجها، والبعد كلية عن تقاليد الغرب، فخطاب النهضة يرى أن الاختلاط بالغرب شيء لا بد منه لكن مع مراعاة التقاليد ومبادئ الإسلام، وينتقد خطاب النهضة مبدأ «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، ويولى الأولوية لإصلاح المفاسد والاستفادة من المصالح قدر الإمكان.

إذا اتحد التشرذم والطائفية مع غطاء الدين فإن الناتج سيكون العنف والإرهاب على كل الأصعدة 
 

نقد الخطاب الدينى
يتكون كتاب «نقد الخطاب الدينى» من ثلاثة فصول كُرست كلها عن آليات الخطاب الدينى المعاصر، والتى تحكم منطقه الداخلى، ويفرق الكاتب بين «الدين» و«الفكر الدينى»، فالدين هو ما تمثله فى الإسلام مثلا مجموعة النصوص المقدسة «القرآن والسنة». أما الفكر الدينى فهو «الاجتهادات البشرية» التى بذلت من أجل الوصول إلى فهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها. 
وبما أن الاجتهادات تختلف من عصر إلى عصر ومن دارس إلى آخر نتيجة اختلاف البيئة والواقع الاجتماعى والتاريخى فإن ذلك مدعاة إلى الإقرار بشرعية تعدد القراءات، وبالتالى، فإن ما يحكم هذه القراءة أو تلك هو السياق العام لزمن القراءة، مما يسمح بالقول إن النصوص الدينية مشرعة على عدة قراءات قد تلتقى أو تختلف فيما بينها، ولكنها قابلة للنقد والتقويم.
وإذا كان هذا يمثل جوهر الفكر النهضوى الذى قاده الطهطاوى والأفغانى ومحمد عبده وغيرهم من رواد عصر النهضة، فإن الخطاب الدينى استطاع أن يخفى «حقيقة» الاختلاف ويرسى أسس «إطلاقية» فكرية تقترب فى اعتبارها ودورها فى المجتمع من الدور الذى تنهض به النصوص المقدسة، وإذ يتقاطع فى الخطاب الدينى ما هو سياسى بما هو دينى فإن «المد الإسلامى» الذى تعرفه البلاد العربية منذ التسعينيات قائم على استغلال هذا اللبس بين الدين من جهة والخطاب الدينى من جهة ثانية كى يحقق أهدافا «دنيوية» لا علاقة لها بالدين. 
تعتمد دراسة نصر حامد أبو زيد فى «نقد الخطاب الديني» على كل المجالات التى تشكل موضوع ذلك الخطاب، وهذا التحديد أتى على التمييز، الذى غالبا ما يلجأ إليه رجال السياسة بين إسلام سياسى متطرف وإسلام سياسى معتدل، ويوضح الكتاب كيف أن الاختلاف بين الاثنين هو اختلاف فى الدرجة لا فى النوع، فلا خلاف بينهما فى المنطلقات الفكرية والآليات المستعملة فى قراءة «النص».
ويرمى الكاتب من وراء هذه الملاحظة إلى القول إن الخطاب الدينى يستعمل نفس الآليات بغض النظر عن كونه معتدلًا، أو متطرفا، ويحدد أهم تلك الآليات فى الخلط بين الفكر والدين، الذى يؤدى إلى إلغاء المسافة بين الذات والموضوع، وفى تفسير كل الظواهر على اختلافها بردها إلى علة واحدة، وفى الاعتماد على السلف والتراث وقلب تراتبية المرجعيات المعتمدة بشكل يصبح فيه ما هو أساسى ثانويا وما هو ثانوى رئيسيا، وفى رفض أى خلاف فكرى باعتماد القطعية فى الأحكام، وفى تجاهل البعد التاريخى بالحنين والاستشهاد فى جميع الأحوال بالعصر الذهبى للخلافة الراشدة. 
من الصعب فى تحليل الخطاب الدينى أن نفصل بين آليات هذا الخطاب ومنطلقاته الفكرية، ولذلك فإن نصر حامد أبو زيد وهو يحلل تلك الآليات يبرز فى نفس الوقت السمات الفكرية الغالبة على هذا النمط من التفكير، يظهر ذلك على سبيل المثال من خلال الآلية الأولى التى تتعلق بتوحيد الفكر والدين. 
فالخطاب الدينى كما سبقت الإشارة إلى ذلك يقيم نوعا من التقاطع الذى يكاد يصل إلى حد التماهى بين النصوص الدينية وبين فهم «قراءة» تلك النصوص، ويترتب عن ذلك ادعاء ضمنى بالقدرة على النفاذ إلى «جوهر» النص، أى إلى تحقيق نوع من التطابق بين النص والقراءة. وهذا من الناحية النظرية والإجرائية مستحيل لاختلاف «زمن النص» عن «زمن قراءته»، ومثل ذلك الادعاء يفهم فى غالب الأحيان على أن «الفقيه» يفهم ما لا يستطيع الآخرون أن يفهموه، ويرمى من وراء ذلك إلى أنه وحده من يمتلك «الحقيقة» الدينية، مما يوقع الخطاب الدينى فى تناقض صارخ: فهو من جهة يسلم بأن «لا رهبانية فى الإسلام»، وهو من جهة أخرى يدعى امتلاك المفاتيح السحرية للقبض على «جوهر» النص الدينى. 
ومن شأن هذا كله أن يكرس مبدأ «القراءة» الواحدة للنص، مما يؤدى بطريقة أو بأخرى إلى إلغاء العقل، ويتمثل هذا الإلغاء بالخصوص فى استحضار تراث «السلف الصالح»، حيث يمارس نوعا من الانتقائية تعيد النظر فى التراتبية المعروفة فى الإسلام: القرآن والسنة والإجماع والقياس.. وهكذا يتشكل خطاب يقينى مبنى على التجريد، الذى يقصى فى كل الأحوال البعد التاريخى للنص الدينى، ويتجاهل سياقه الخاص.
سيطرة اتجاه فكرى بعينه لفترة طويلة من الزمن لا يعنى أن الاتجاهات الأخرى اتجاهات ضالة أو كافرة؛ لأن هذه الصفات الأخيرة تعد جزءًا من آليات الاتجاه المسيطر لنفى الاتجاهات المخالفة. وهذا أيضًا ما يتم تفعيله الآن من فصائل التيار المتأسلم تجاه مخالفيهم فى الرأى