الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

البقاء للإنسان.. المعري أنموذجا

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لماذا يظل كل من يتبنى نظرية الإنسان؛ هو الأبقى بينما يفني سريعًا من يحاول تكوين نظرية عكسية؟- سؤال وجودي-.
بالبحث في التراث عمن يجيب عن هذا السؤال كنموذج ثقافي عربي نجد -الشاعر أبو العلاء المعري- كمثال حي ودليل وبرهان على صحة نظرية الإنسان هو الأبقى بالرغم من معاناة المعري، وصراعه مع معارضيه، وعبر عن مضمون هذا الصراع أصدق تعبير عميد الأدب العربي "طه حسين" حينما قال مستلهمًا روح العصور العربية كلها من زاوية فهمه لشخصية المعري:"نعم مر أبو العلاء في عصره، ولم يفهم الناس منه شيئا، فهموا قشره، وجهلوا لبه، فهموا ما كانوا يفهمون من ابن خالويه وأبي على الفارسي وغيرهما من الرواة والنحويين، فهموا منه اللغة والأدب والنحو وما يتصل بذلك، ولم يفهموا شيئا آخر".
ويبدو أن وراء هذا المشهد الرافض لشخص المعري؛ إنسانيته التي تشكلت بالحب والرحمة، منذ نعومة أظافره، فنجده قد تتلمذ صغيرا في دير للرهبان باللاذقية، كما فهم بسعة صدر، وعقل متفتح أيضا الإسلام والمسيحية واليهودية، بل وصل بسموه الروحي إلى إستجلاء عمق المعاني الإنسانية في السيخية والبوذية، ويكفي للدلالة على نقاء نفس وروح المعري أنه كان يرفض التزود بالطاقة وطلب الشفاء من صدور وأفخاد الدجاج، وهو لم يفعل ذلك جلبا للشهرة، بل ظل حافظا لعهد مع ما يؤمن به حتى الموت دون إنقطاع أو قبول إستئثنائي، على الرغم من الإلحاح عليه في العدول عن ذلك خوفا على صحته، لذا فلا عجب أن نجده يقول مبررا ذلك شعرًا":
فلا تأكلن ما أخرج المال ظالمًا ولا تبغ قوتًا من غريب الذبائح
ولا تفجعن الطير وهي غوافل بما وضعت فالظلم شر القبائح ".

لخص العقاد سر تفرد المعري وبقاءه حيًا في تراثنا العربي في مؤلفه رجعة أبي العلاء فقال مفندًا:"ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حق في الخلود: فرط الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه، وجو من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون ويستكثرون قدرتهم على الآدمية فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي، وتراة إلى السحر والكهانة، وتارة إلى فلتات الطبيعة إن كانوا لا يأمنون بما وراءها..".

كما فطن المعري إلى حساده فآثر استخدام الرمز في التعبير حتى لا يقع في مواجهة صريحة مع المتشددين الدينيين، وإن كان لم يسلم منهم رغم تلك الحيلة اللغوية التى لجأ إليها مضطرا.
ورغم إيثار المعري للغة الرمز لتوصيل أفكاره الإنسانية العميقة إلا أنه لم يسلم من الجاهلين الحاقدين عليه، الذين إتهموه بالزندقة والكفر بل وطالبوا بسرعة سفك دمه، الأمر الذي جلعه يتنسك ويتحول من مرحلة الظلام الأول في حياته والمتمثل في كف بصره إلى المرحلة الظلامية الثانية، بملازمته داره ليتحول إسمه ونقبه إلى" رهين المحبسين" بدلا من المحبس الواحد، وفي إعلان سر تنسكه اللاطوعي هذا يقول المعري:"
تنسكت بعد الأربعين ضرورة ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ
فكيف ترجي أن تثاب وإنما يرى الناس فضل النسك والمرء شارخ".

ومن ثم يكون المعري قد اختار محبسه مضطرًا لا بطلًا، حتى يأمن شر الوحوش الآدمية التي تريد الفتك به، وفي ذات الوقت حتى يضمن لرسالته أن تستمر لتصل إلى الأجيال القادمة لإستلهامها والتزود من روحها الأبدية، التي حملتها أبيات شعره إلى كل الأجيال من بعده.