الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. أحمد يوسف يكتب: شهادة نابليون على الحملة الفرنسية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

جان تيولار: لو لم يحكم نابليون مصر لما أصبح إمبراطورا على بلاده

رسائل حافلة بالأحاسيس لزوجات الجنرالات القتلى بمعارك الشرق

وثيقة خطيرة من باريس تكشف نية نابليون بعد عودته إرسال أسطول لنجدة الجيش الفرنسى فى مصر


مقدمة المترجم

ظل التأريخ للحملة الفرنسية على مصر (١٧٩٨ – ١٨٠١) معتمدًا على مذكرات الساسة والجنرالات الذين عاشوا فى عصرها، وكذلك على وثائق وأرشيفات للإدارات والحكومات المختلفة فى مصر وتركيا وإنجلترا وفرنسا وغيرها. إلا أن أحداً لم يفكر فى إعطاء الفرصة لقائد الحملة الفرنسية وهو نابليون بونابرت للإدلاء بشهادته أمام محكمة التاريخ وإلقاء الضوء على مناطق الظل التى ما زالت تحتل مساحات كبيرة من تاريخ الحملة.

وعندما أفرجت وزارة الدفاع الفرنسية قبل نحو عشر سنوات عن الأوامر العسكرية التى وقعها بونابرت فى القاهرة طوال فترة إقامته فى مصر والممتدة من يوليو ١٧٩٨ وحتى أغسطس ١٧٩٩ تم هذا بالتنسيق العلمى مع مؤسسة نابليون فى باريس، ومع دار النشر الفرنسية الكبيرة فايار من أجل إصدار هذه الأوامر فى مجل واحد، وهو ما شكل حدثًا علميًا كبيرًا فى حد ذاته إذ تجمعت لدينا ولأول مرة شهادة بونابرت عن الوقائع الحربية، وكشف لنا هذا القائد العسكرى الكبير عن مكنونات نفسه ومشاعره تجاه جنرالاته وجنوده وتجاه – وهذا ما يخصنا على نحو أهم – الشعب المصرى برجاله وشيوخه ونسائه ليفتح لنا بذلك الباب على مصراعيه من أجل إعادة النظر فى تاريخ هذه الفترة فى حياة مصر خاصة أن هذه الفترة تشكل نقطة انطلاق مصر للدخول فى العصر الحديث والتخلص من نحو أربعة قرون من الاحتلال العثمانى الذى كان قد حولها إلى مجرد إقليم داخل الإمبراطورية وحول المصريين إلى مجرد رعايا للسلطان فى الباب العالي.


والواقع أن الكتاب الضخم الذى أصدرته دار فايار ويحوى جميع الأوامر العسكرية تحت اسم «المراسلات» ما هو إلا جزء من مشروع كبير لنشر كل مراسلات نابليون منذ دخوله فى الجيش وحتى وفاته منفيًا فى سانت هيلانة عام ١٨٢١، ولم يحتل الجزء المصرى فيها سوى المجلد الثالث الذى يبلغ عدد صفحاته نحو ألف وسبعمائة صفحة.

وإننى لمدرك كل الإدراك مدى أهمية هذه الترجمة التى شرعت فيها واستغرقت أكثر من عام للقارئ وللباحث العربى فى كل مكان فى الوطن العربى الكبير، وليس فقط فى مصر، ذلك أن هذه الأوامر وإن كانت تخص المصريين فإن جزءًا كبيرًا منها قد وقع خلال الحملة على الشام فى أبريل ومايو من عام ١٧٩٩، ورأينا فيها رسائل تم توقيعها فى العريش وغزة وصيدا والناصرة وعكا ويافا وغيرها.

كما أن هناك مراسلات وقعها بونابرت فى القاهرة إلى شريف مكة وسلطان عمان وباى طرابلس «ليبيا» وباى الجزائر وسلطان المسلمين بالهند وغيرهم.


وأعتقد جازمًا أن هذه الترجمة ستغير ليس فقط من نظرتنا إلى الحملة الفرنسية ككل وكمشروع استعمارى مبكر سيكون نموذجًأ فيما بعد لهجمات إستعمارية أوروبية أخرى على مصر والعالم العربي. بل ستغير أيضًا نظرتنا إلى شخصية نابليون بونابرت المعقدة والمركبة والتى يرى الكثيرون – ومنهم المؤرخ الفرنسى الكبير جان تيولار – أن هذا القائد الشاب والذى قد احتفل فى القاهرة بعيد ميلاده التسعة والعشرين قد انتابته طموحات الإمبراطورية عندما كان مجرد حاكم على مصر إنه لو لم يكن حاكمًا على المصريين لما أصبح إمبراطورًا على الفرنسيين.

ومن أشد المراسلات إثارة تلك التى تتبدى فيها وساوسه تجاه جنرالاته، وتتجلى فيها أشد منازع الوحشية فى حروبه ومشاعر العطف والإنسانية وعشق الحرية تجاه نفس الشعوب التى مارس ضدها أبشع أنواع البربرية فى ميدان القتال. ربما يحتاج هذا إلى بعض الجهد من علماء النفس لمعرفة سر هذا التناقض الخطير فى شخصية الرجل القادم من أعماق حوارى أجاكسيو بكورسيكا ليزلزل عروشًا ويبنى إمبراطوريات. ولعل ما قاله ليون لوا فى كتابه «روح نابليون». «إن النور لا يأتى إلا من النار".


• بعض الملاحظات الفنية على منهج الترجمة:

• حتى يفهم القارئ اللغة الفرنسية التى استخدمها بونابرت فى مراسلاته وحتى يمسك بصورها وأخيلتها التى تعمد بونابرت استخدامها فى أوامره وحتى يتمكن – وهو الأهم – من فك شفرة المصطلحات العسكرية فى ذلك العصر بل والمصطلحات العربية ذاتها رأيت أنه من الضرورى التوسع فى الشرح والهوامش وإضافة مصطلح (المترجم) فى كل مرة أضيف فيها من عندى وكل مرة أعطى تفسيرًا لما قد يستغلق على القارئ العربى لبعض شروح الناشر الواردة فى الهوامش.

• اتبعت فى هذه الترجمة – بشكل عام – منهج الترجمة الحرفية مع تقديم ذلك فى صياغة عربية سلسلة لا تجعل من نصوص الأوامر العسكرية نصوصًا خالية من الحياة ذلك، وإن كانت عسكرية الموضوع والمعنى والأسلوب، إلا أنها قد كتبت تحت وطأة السلاح وتحت نيران المدافع وأثناء زحف الجنود تحت قيظ شمس لم يعرفوها طوال حياتهم. وكان بونابرت نفسه يتجاوز الأسلوب الجاف المباشر فى الكتابة العسكرية إلى شكل فضفاض يسع المشاعر والأحاسيس الحزينة عند كتابته لزوجات الجنرالات الذين سقطوا فى معاركه فى الشرق.

• قد يلاحظ القارئ بعض الاختلاف فى التسلسل التاريخى للمراسلات بل وبعض الإضافات الموجودة برسائل كان قد وقع عليها بونابرت، وقد عنينا فى كل مرة إلى لفت نظر القارئ إلى السبب، وهو أنه كانت لديه سكرتارية هائلة من الكتبة والمترجمين، وكان اختلاف الكتبة على الرسالة الواحدة أحيانًا ومعاودته لإضافة ما قد يجد فى موضوع الرسالة قبل إرسالها.

• عُنينا أيضًا فى هذه الترجمة بوضع أغلب المصطلحات العسكرية فى لغتها الأصلية بجانب ترجمتها وكذلك أسماء الأشخاص وبعض الأماكن غير المألوفة فى اللغة العربية، وذلك لإتاحة الفرصة للباحثين والمؤرخين لمزيد من البحث والتنقيب عن هذه الشخصيات.

• جدير بالذكر أن هناك مراسلات لم يوقعها بونابرت فى مصر، وإنما فى باريس عند عودته، واخترنا أن نضيفها إلى المراسلات لأن موضوعاتها تمس مصر بشكل مباشر، ولعلها من أخطر هذه المراسلات لأنها دلت على مدى الاهتمام الذى أولاه بونابرت عند عودته لفرنسا، وقد أصبح قنصلًا عامًا وعليها تكشف عن خططه لإرسال أسطول جديد لنجدة الجيش الذى كان قد تركه فى مصر.


وأخيرًا

إننى لا يمكننى أن أترك القارئ فى هذه الرحلة الطويلة والعجيبة مع بونابرت فى مصر دون أنوه إلى الجهد الكبير الذى بذله العلامة الدكتور محمد الشرنوبى الأمين العام للمجمع العلمى المصرى على مراجعته الوافية لهذا المتن الكبير، وأشكره كل الشكر على دماثة أخلاق العلماء التى تحلى بها وحلى بها مرارة ومشقة هذا العمل.

كما أشكر معهد الآداب والمخطوطات فى باريس برئاسة مسيو جيرار لاريتيه الذى لولا الجائزة التى منحها للمجمع لتمويل هذه الترجمة لما أمكن القيام بها، وكذلك أشكر كل الشكر الصديق كريستيان جيرو مدير معرض الكتاب بمدينة نيس الذى كان حلقة الوصل بين المجمع العلمى المصرى والمعهد الفرنسى للآداب والمخطوطات.

وفى النهاية أشكر ابنى محمد صبحى على الجهد الكبير الذى بذله فى كتابة الترجمة رغم صعوبة المكان والزمان والمثابرة على المتاعب التى قد سببتها له خلال هذه الترجمة الطويلة بإيقاظه ليلًا والبحث عنه نهارًا كلما كان الوقت مناسبًا لى من أجل الشروع فى الترجمة.

وأخيرًا أريد أن أقول إن هذه الترجمة لن تكون كاملة إلا إذا قام المجمع العلمى بترجمة ثانية لمذكرات الجنرالات كليبر الذى توفى فى القاهرة مقتولًا على يد سليمان الحلبى بعد عدة أشهر من توليه الحكم عقب مغادرة بونابرت مصر. وكذلك البحث عن مذكرات الجنرال مينو آخر جنرالات الجيش الفرنسى فى مصر، وذلك حتى تكتمل الحلقة، وتكون المذكرات الثلاث للجنرالات الذين حكموا مصر متاحة باللغة العربية.

يذكر أيضًا أن هناك مشروعا آخر يقوم به المجمع العلمى المصرى بالتعاون مع المركز القومى للترجمة من أجل ترجمة كتاب وصف مصر القديم الذى قام به القنصل رييه Ryer فى القرن السابع عشر وسمى هذا الكتاب «وصف مصر». وكانت هذه التسمية هى التسمية التى استخدمها بونابرت عندما طلب من علمائه أن ينشروا مجمل أبحاثه العلمية عن مصر أثناء إقامته بها.

إننى أرجو القارئ المصرى والباحث المصرى والعربى فى كل مكان أن يفيد من هذه الترجمة، وأن تفتح له الباب واسعًا من أجل فهم حلقة معروفة وغير معروفة من تاريخنا المصرى والعربى الحديث. وأخيرًا أختم بهذه العبارة للكاتب الفرنسى الكبير ستاندال وهو يعتبر من أوائل الذين كتبوا حياة نابليون بعد وفاته حيث يقول «Vivant Il a mangé le monde mort il l'obsède»

أى أن العالم الذى أكله نابليون حيًا أصبح مهووسًا به ميتًا.