السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حواديت عيال كبرت 117.. حصى عبد المتعال وبذور النور

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وكان عبد المتعال كلما جار عليه الزمان، جلس بجوار الساقية وأحضر حصى كان يطلق عليها الكلاب، ورصها بجوار بعضها البعض دائريا تارة وفي خط مستقيم تارة، ثم باعد بخفة إصبعيه بين اتنين منهما وصاح: "خط الفرج ظهر يا عبد المتعال". 
كانت العيال تردد صياحه استبشارا فكل دار كان بها أزمتها.
قضى عبد المتعال سنوات عمره يحرك حصاه ويتكئ على عصاه، وما عصاه يوما حظه البائس وغير يوما اتجاهه، بل كان أوفى مما يتخيل فابنه سقط في البئر ومات وزوجته أصابها العمى من طيلة البكاء، ومازال الابتسام يخرج من بين ثنياه متبوعا بعبارته المعهودة: "أدي الله وأدي حكمته".
حينما أخبروه أن النيل غضب وفاض وأغرق الأراضي والديار، جلس على رأس أرضه ينتظر الخلاص، فانحسر الماء تحت قدمه وأتاه الفيضان يلهث يزهق أنفاسه الأخيرة بين أصابع قدمه، ابتسم له عبد المتعال وقال: "وفى الحصى بوعده في موضع لم أطلب منه فيه الوفاء".
سنوات عجاف طالت قلبه وجسده فبات كخيال المآتة في أرضه يخيف الطير والناس، البعض يتخذه قدم شؤوم والبعض فأل خير وهو لا يعرف سببا واحدا من جدوى بقائه في الحياة.
رث مهلهل يجر سنوات من الحزن والانكسار خلفه حتى أنه لم يعد يحسب خطاه من أين جاء وإلى أين يذهب!؛ فتات من طعام التهمه الزمن، بقي في صحنه يأكل منه ولا ينقص شيئا.
يطل من مكانه على أنوار القرية ونطاح منازلها المرتفعة، فيضحك ضحكة حكيم أدرك ضيقها رغم اتساعها، كلما أحس بالنعاس حرك حصاه خوفا أن يأخذه النعاس إلى مالا يحمد عقباه، يقاوم ثم يستكين ويتمدد كعود من الحطب في أرض قاحلة لم يعد له حزمة ونس ولا نار خلاص.
يزرع الأرض غير منتظر لموسم حصاد، يتظاهر بالنعاس ليسرقه المارة ويبتسم لأن اللصوص يضعونه في خانة المغفلين، فيزداد سارقوه يوما بعد الآخر.. والعجب أنه هو من يحدد موعد السرقة!.
في يوم من الأيام مر عليه بائع بذور، استوقفته لعبة الحصى فعرض على عبد المتعال أن يعطيه نوعا فريدا من البذور شريطة أنا يعلمه لعبة الحصى.. تبسم عبد المتعال وقال له: "تتعلم إيه؟"، فكرر الرجل طلبه.
علمه عبد المتعال رص الحصى وقال له الباقي عليك في فتح طريق لك بين الكلاب..
نثر عبد المتعال البذور في أرضه ولم يلق لها بالا، بعد شهور امتدت عيدانها وخرجت زهورها ولأن الزرعة غريبة عن اللصوص لم يقربوها، ظنوها زرع زينة بلا جدوى وفائدة.
وفي صبيحة يوم كمثل أيام "كورونا" التي نعيشها انطفأت مصابيح القرية ليلا وعم الظلام فتلألأ زرع عبد المتعال، باتت زهوره كمصابيح معلقة على عيدان، جذب ضوءها العيون من النوافذ، ليلة وراء أخرى والظلام يفرض سطوته على منازل القرية كلها وزرع عبد المتعال يزداد وهجا.
وفي ليلة ظلامها دامس خرج أهل القرية جميعا خلف شعاع النور القادم، فوصلت بهم أقدامهم إلى حيث يجلس عبد المتعال وحصاه حيث يفتح بين حجرين خطا ويقول: "خط الفرج ظهر يا عبد المتعال". جلس أهل القرية من حوله يرددون حديثه مستأنسين بضوء زرعه وبحركة ذراعه.
وكأن عبد المتعال رغم عثرة حظه بذر الأمل ولم يلق له بالا، وكأن حياته رغم كدرها كانت لأجل ذلك، وكأن عتمة لياليها كانت قدرا لأن يكون النور لمن حوله، تلك كانت حكمة الحصى وحكمة الحياة فالغرقى تنقذهم ثمامة.. والضعف مبعث القوة واليأس مبثق الأمل، واللاشئ هو بداية كل شيء، لو كان بائع البذر مر على غير عبد المتعال لأحتكره.. لكن الحكمة في أن يمنح الرجل البذور لمن هيأته الحياة للاستغناء لتنمو بعيدا عن أعين اللصوص والناس.