الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

الدكتور مفيد شهاب يكتب: «مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول فى ظل ميثاق الأمم المتحدة».. وجود الدول الكبرى وتدخلها فى النزاعات أدى إلى النيل من سيادة واستقلال الدول التي تم التدخل فى شئونها

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

·       وجود الدول الكبرى وتدخلها فى النزاعات أدى إلى النيل من سيادة واستقلال الدول التى تم التدخل فى شئونها

·       وجود قوات عسكرية أجنبية فى أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن سبب الدمار والخراب

·       التدخل العسكرى فى ليبيا عام 2011 خرج عن الهدف المحدد له وهو حماية المدنيين إلى هدف إسقاط نظام

·       فشل مجلس الأمن فى اتخاذ موقف موحد من الجرائم الجماعية التى ارتكبت فى سوريا عام 2011

·       كل الشعوب والدول المحبة للسلام مطالبة بالتصدى بقوة لكل التصرفات غير الشرعية

·       التدخل الإنسانى أداة تخدم المصالح السياسية والاستراتيجية للدول القوية

·       حفظ السلام لا يكون قابلًا للتطبيق فى نهاية المطاف إلا بموافقة الحكومة المضيفة

·       الحكومة التى تلجأ إلى الدول الأجنبية للتدخل ضد شعبها الذى تمرد وثار على سلطتها هى حكومة غير مشروعة

·       أى حكومة تطلب من دولة أجنبية مساعدتها فى القضاء على الاضطرابات الداخلية تفقد الأسس القانونية لقيامها

·       الدولة الأجنبية التى تتدخل فى الشئون الداخلية ضد الاضطرابات الداخلية ترتكب جريمة دولية باستعمال القوة لإخضاع الشعوب للسيطرة الأجنبية

·       الدول القوية عملت على تأويل مبادئ القانون الدولى بما يتماشى وخدمة مصالحها

·       التدخل الأمريكى فى مختلف بقاع العالم.. دليل على محاولات الدول الكبرى تفتيت القانون الدولى

 

من الظواهر الحديثة التى تشهدها الساحة الدولية تزايد حجم تدخل الدول خاصة الكبرى فى الشئون الداخلية للدول الأخرى وذلك لأسباب استراتيجية أو أسباب اقتصادية خاصة فى المناطق التى أظهرت الاكتشافات الحديثة بها وجود غاز أو بترول على نطاق واسع كمنطقة الخليج ومنطقة شرق و غرب البحر المتوسط وتتذرع بعض هذه الدول بأنها لا تخالف المبدأ الدولى المسقر فى العلاقات الدولية وهو مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، والذى تؤكده بوضوح المادة الثانية فقرة ٧ من ميثاق الأمم المتحدة وإنما تتدخل من أجل عودة الاستقرار أو التهدئة أو التدخل الإنسانى لإنقاذ المنشآت المدنية والمدنيين أو استجابة لطلب رسمى من الحكومات القائمة والتى تكون عادة فى صراعات داخلية مع تنظيمات أو أحزاب أخرى أو ذات ولاءات لدول أخري.

ولعل أحدث هذه التدخلات و أخطرها والتى تتنافى كلية مع أحكام الشرعية الدولية هو التدخل التركى فى الشئون الليبية والذى وصل إلى حد إبرام اتفاق بين الحكومة التركية وحكومة فايز السراج تحت عنوان ترسيم الحدود البحرية رغم عدم وجود أى حدود بين البلدين.

وتركيا بهذا الفعل تتجاوز بشكل كامل القانون الدولى ويعتبر هذا تدخلا سافرا فى الشئون الداخلية الليبية، حيث ينص هذا الاتفاق على مد حكومة السراج بالعتاد العسكرى والجنود والضباط والخبراء، وهو ما كان محل إدانة شبه جماعية من المجتمع الدولى لما يمثله من تهديد لأمن البحر المتوسط من ناحية وتعقيد للأزمة الليبية من ناحية أخرى، كما يعتبر تهديدا واضحا لاستغلال الثروات الحية فى البحر المتوسط يتعارض مع القانون الدولى للبحار.

وفى هذا المقال يقدم لنا الدكتور مفيد شهاب، أستاذ القانون الدولى بجامعة القاهرة ووزير التعليم العالى الأسبق رؤية واضحة لمبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى من حيث النظرية والواقع العملي.


مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول فى ظل ميثاق الأمم المتحدة

ازدادت، خلال العشرين عامًا الأخيرة، حالات وصور التدخل بما فيها التدخل العسكرى من جانب عدد من الدول الكبرى، فى نزاعات داخلية فى بعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، بزعم أنها تعمل على إنهاء هذه النزاعات وتحقيق الأمن والاستقرار، أو لتقديم مساعدات إنسانية لشعوب هذه الدول.

وواقع الأمر، أنه فى كل أحوال التدخل التى تمت، لم يؤد تواجد الدول الكبرى وتدخلها فى النزاعات إلا إلى النيل من سيادة واستقلال الدول التى تم التدخل فى شئونها، والمزيد من الضحايا والمصابين، فضلًا عن التخريب والدمار وإضعاف اقتصاديات هذه الدول أو توقفها. يظهر ذلك بوضوح عندما نرى ما لحق بأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن فى السنوات الأخيرة، نتيجة وجود قوات عسكرية أجنبية فى أراضى هذه الدول واشتراكها فى العمليات العسكرية.

ويثور التساؤل: كيف دخلت هذه القوات الأجنبية إلى أراضى دول أخرى؟ وبمقتضى أى قرارات؟ وكيف اشتركت فى المعارك.. الأمر الذى أطال أمدها ووسع نطاقها وعقًد فرص الحلول لها، بل وتحول بعضها ليصل إلى درجة الحروب الأهلية التى قد تؤدى إلى النيل من وحدة أراضى بعض الدول التى تم التدخل فيها!! كذلك ارتفعت تساؤلات: وأين الأمم المتحدة ومجلس الأمن من هذه التدخلات، التى جاءت خارج إطارها وبدون موافقتها؟ وكيف قبلت باقى دول العالم بهذه التدخلات المنافية للشرعية الدولية، والتى تمت بالمخالفة لأهم مبادئ القانون الدولي، وفى مقدمتها مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول؟

فمن المعروف أن المادة 2/7 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أنه ليس فيه «ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل فى الشئون التى تكون من صميم السلطان الداخلى لدولة ما، وليس فيه ما يقتضى الأعضاء أن يعرضوا هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق............».

ويتضح من النص أن هناك قيدًا على اختصاصات وسلطات الأمم المتحدة مقتضاه عدم التدخل فى المسائل الداخلية للدول الأعضاء، وأساس وجود هذا القيد هو أن أى تنظيم دولى أو هيكل فيدرالى أو شبه فيدرالى يتطلب بالضرورة- وعلى حد قول جورج سل (G.Scelle)- تقسيم الاختصاصات بين الدول الأعضاء والسلطة العليا، وإن كان ذلك لا يؤدى- فى رأينا- إلى أن تكون هناك مسائل تدخل بطبيعتها فى الاختصاص الداخلى لدولة ما، ذلك أن المنظمات الدولية قادرة على معالجة أى أمر من الأمور».

وبالرجوع إلى الأعمال التحضيرية للمادة 2/7، يتبين أنها وردت فى مقترحات «دومبرتون أوكس» (أكتوبر 1944)، كمجرد قيد على الأحكام المتعلقة بأساليب حل المنازعات الدولية بالطرق السلمية، إلا أنه تقرر خلال مؤتمر سان فرانسيسكو (يونيو 1945)- بناء على اقتراح من الدول الداعية للمؤتمر- نقلها من الفصل السادس الخاص بوسائل التسوية السلمية للنزاعات إلى المادة الثانية الخاصة بمبادئ الهيئة العالمية، وذلك بهدف التأكيد على أنها تمثل مبدأ عامًا يحكم نشاط الأمم المتحدة فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليس فى مجال النزاعات الدولية وحدها.

ومع ذلك فقد ارتفعت بعض الأصوات خلال المؤتمر، تعارض إدراج الفكرة فى الجزء المتعلق بالمبادئ العامة للمنظمة، باعتبار أن ذلك سيؤدى بالضرورة إلى إضعاف دور المنظمة العالمية، والنظام القانونى الدولى عامة. وقد استند هذا الرأى إلى الحكم المشابه الذى كانت تتضمنه المادة 15/8 من عهد عصبة الأمم، إذ لم يكن يحد من نشاط العصبة إلى هذه الدرجة، وكان قاصرًا على حالة الخلافات المعروضة على مجلس العصبة. فقد كانت المادة المذكورة تنص على أنه «إذا ادعى أحد طرفى النزاع، وثبت للمجلس أن النزاع يتعلق بمسألة تدخل طبقًا للقانون الدولى فى الاختصاص الداخلى البحت لأحد طرفى النزاع، فليس للمجلس أن يقدم أى توصيات بشأن تسوية ذلك النزاع»- وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد حرصت على وضع هذا النص ضمانًا لمنع العصبة من إصدار توصيات فى المنازعات الدولية المتعلقة بموضوعات الهجرة والتعريفة الجمركية.

ويتضح من اختلاف الصياغة بين عبارتى «الشئون التى تكون من صميم السلطان الداخلى»، وعبارة «الاختصاص الداخلى البحت»، أنه بينما يكتفى ميثاق الأمم المتحدة بأن تدخل مسألة ما فى جوهرها، أى فى أساسها، فى الاختصاص الداخلى لدولة ما، ليحرم على المنظمة الدولية أن تبحثها، فإن عهد عصبة الأمم كان يشترط، على العكس، أن تكون كلية فى الاختصاص الداخلي.

ويعتبر مبدأ عدم التدخل من أهم المبادئ المنبثقة عن ميثاق الأمم المتحدة، إلا أنه- للأسف الشديد- أكثرها انتهاكًا، فإذا كانت من أهم خصائص سيادة الدول ألا يتم التدخل فى شئونها الداخلية، سواء كان هذا التدخل من عمل دولة أخرى أو منظمة دولية، إلا أنه- كغيره من المبادئ الدولية- تعتريه عدة إشكالات عند التطبيق، بل إن الدول ما فتئت تخرق هذا المبدأ بشكل مستمر اعتمادا على مبررات وأسباب واهية: ترفع شعارات مثالية، تكمن وراءها- فى الحقيقة- مصالح استراتيجية ذاتية، فعلى الرغم من حرص واضعى ميثاق سان فرانسيسكو على الوضوح والدقة، إلا أن الدول القوية عل الخصوص تفننت فى تأويل مبادئ القانون الدولى وقواعده، بما فيها مبدأ عدم التدخل وفق ما يتماشى وخدمة مصالحها القومية واستراتجياتها الكبرى، والأمثلة على ذلك كثيرة أهمها الصور العديدة للتدخل الأمريكى فى مختلف بقاع العالم، وبمناسبة أى نزاع أو أزمة هنا أو هناك.

فى هذا السياق، تناقش تلك الورقة مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية، فى ضوء المفاهيم النظرية للمبدأ، من ناحية، وعلى مستوى الواقع الدولى الراهن، من ناحية أخرى.


الإطار النظرى لمفهوم المبدأ

تعريف المبدأ:

يمكن تعريف التدخل، بأنه تعرض دولة أو منظمة دولية لشئون دولة أخرى، دون أن يكون لهذا التعرض سند قانوني، ويكون الغرض منه هو إلزام الدولة المتدخل فى أمر من أمورها، باتباع ما تمليه عليها فى شأن من شئونها الخاصة الدولة أو الدول المتدخلة، وبما يمثله ذلك من تقييد لحريتها واعتداء على سيادتها واستقلالها. وقد تم تبنى هذا المبدأ والنص عليه فى العديد من المواثيق الدولية: أهمها ميثاق الأمم المتحدة فى فى النص السابق الإشارة إليه. كما نصت عليه المادة الثامنة من ميثاق جامعة الدول العربية حيث تقرر: «على أن تحترم كل دولة من الدول المشاركة فى الجامعة نظام الحكم القائم فى دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقا من حقوق تلك الدولة وتتعهد بألا تقوم بعمل يرمى إلى تغيير ذلك النظام فيها». أما ميثاق الوحدة الأفريقية فقد جاء صريحا، حين نص فى الفقرة الثانية من المادة الثالثة على «عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأعضاء».

وقد أكد قرار الجمعية العامة رقم 2131 بتاريخ 21/12/1965 المعنون بإعلان عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول وحماية استقلالها وسيادتها، على تحريم كل أشكال التدخل، والامتناع عن السماح أو مساعدة أو تمويل كافة النشاطات المسلحة والإرهابية لتغيير الحكم فى دولة أخرى.

كما جاء فى إعلان مبادئ القانون الدولى المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول بمقتضى قرار الجمعية العامة رقم 2625 الصادر فى 24 أكتوبر 1970: «على أنه ليس لدولة أو مجموعة من الدول الحق فى التدخل المباشر أو غير المباشر ولأى سبب كان فى الشئون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى. ونتيجة لذلك اعتبار ليس فقط التدخل العسكرى بل أيضا كل أنواع التدخل أو التهديد الموجه ضد مكوناتها السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية مخالفا للقانون الدولي».

«ومن هذا المنطلق أيضًا جاء حكم محكمة العدل الدولية فى قضية كورفو عام 1949 بأن: «حق التدخل المزعوم تجسيده لسياسة القوة، سياسة غطت فى الماضى أخطر التجاوزات، ولا يمكن أن تجد لها مكانًا فى القانون الدولى».

ولعل أهم تطور عرفه المبدأ هو ما نصت عليه التوصية 103/36 الصادرة بتاريخ 9 يونيو1981، والتى أكدت على واجب الدول بالامتناع عن استغلال أو تشويه المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان بهدف التدخل فى الشئون الداخلية لدول أخرى.

وهكذا يتضح أن أهمية مبدأ عدم التدخل تتجلى فى كونه يعبر عن وجود نظام قانونى دولى يحكم سلوك الوحدات السياسية ويضمن سبل التعايش بينها، وذلك بمساواتها فى السيادة وحرية اختيار الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تتفق ورغبات شعوبها.

فمبدأ عدم التدخل يضمن للدولة حمايتها من الضغوطات الخارجية، سواء أكانت عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، التى تتعرض لها من طرف دول أخرى، من أجل فرض إرادتها وتصوراتها عليها وإجبارها عن طريق الإكراه بالقيام بعمل ما أو الامتناع عنه.

ويمكن أن نخلص إلى القول بأن التدخل هو عمل تعسفى يهدف إلى التأثير على الاستقلال السياسى وسيادة الدولة باستعمال وسائل الإكراه والضغط عن طريق القوة على نحو يتنافى مع القانون الدولي.

وللتدخل أنواع وصور مختلفة انطلاقا من الزاوية التى ينظر منها إليه:

- فمن حيث طبيعته: يمكن الحديث عن تدخل سياسي، عسكري، اقتصادي، ثقافى أيديولوجي، أو مالي..

- ومن حيث شكله: يمكن التكلم عن تدخل مباشر وتدخل غير مباشر.

- ومن حيث القائمين به: فيمكن التمييز بين تدخل فردى تقوم به دولة واحدة، أو تدخل جماعى ترتكبه مجموعة دول أو تدخل منظمة كمنظمة الأمم المتحدة أو حلف الشمال الأطلنطي.


تحديد المقصود بالاختصاصات الداخلية:

تتباين الآراء حول تحديد الشئون التى تعتبر من الاختصاص الداخلى للدول، ولذا تثور خلافات شديدة بين المنظمات والدول الأعضاء فيها، أو بين الدول الأعضاء نفسها، حول ما يمكن اعتباره من المسائل الداخلية، وبصفة خاصة بالنسبة للموضوعات المتعلقة بحقوق الإنسان والحروب الأهلية، ومن المتعذر، فى الواقع، حصر المسائل التى تدخل فى نطاق هذا الاختصاص، بل إن الأمر يختلف، حتى بالنسبة للمسألة الواحدة، وفق ما ترتبه من آثار دولية فى كل حالة معينة، بمعنى أن هناك مسائل يمكن أن تندرج، فى ظروف سياسية معينة، تحت بند الاختصاص الداخلي، فى حين أنه لا يجوز اعتبارها كذلك فى ظروف سياسية مختلفة.

هذا فضلًا عن اختلاف المواقف التى تتخذها الدول فى المسائل ذات الطبيعة الواحدة، وفقًا لمقتضيات مصالحها فى كل حالة، مما جعل فكرة الاختصاص الداخلي، التى يجب أن تكون فكرة قانونية، تصبح فكرة سياسية، تتوقف بالدرجة الأولى على الاتجاهات السياسية لأغلبية الدول الأعضاء داخل الأمم المتحدة.

ومع ذلك، فهناك مسائل تجمع الآراء على اعتبارها داخلية، لا تخضع إلا للاختصاص الوطنى للدول، مثل المسائل الخاصة بالنظام الدستورى الداخلي، والخدمة العسكرية، وإقامة العلاقات الدبلوماسية، وكذا المسائل المتعلقة بمنح الجنسية، ومعاملة الأجانب، وقيود الهجرة، إلا إذا تناولتها معاهدات دولية بالتنظيم، فتصبح فى هذا الحالة ذات صفة دولية.

وقد حاول بعض فقهاء القانون العام حصر المسائل التى تدخل فى نطاق الاختصاص الداخلي، على ضوء ما جرى عليه العمل فى العلاقات الدولية وأحكام القانون الدولي، كما قام مجمع القانون الدولى ببحث هذا الموضوع فى عدة دورات، وبصفة خاصة دورة أوسلو عام 1932 ودورة (Aix – en – Provence) عام 1954. وقد أعلن المجمع فى هذه الدورة الأخيرة أنه يجب التسليم بفكرة الاختصاص الداخلي، أى وجود أنشطة لا تتقيد سلطات الدولة تجاهها بأحكام القانون الدولي، ويتعذر تحديد هذه الأنشطة نظرًا لعدم وجود معيار واضح لها، وأضاف أن هذه الفكرة متطورة بطبيعتها مع تطور العلاقات الدولية، وأن الاتفاقيات الدولية عامل حاسم فى تحديد نطاقها، وأن تطور القانون الدولى الاتفاقى لا بد أن يؤدى إلى إنقاص عدد المسائل التى تعتبر داخلية. وقد أكدت المادة 3 من قرار المجمع الصادر فى 29 أبريل 1954 أن إبرام اتفاقية دولية فى مسألة متعلقة بالاختصاص الداخلى يخرجها من هذا الإطار، ويحرم على أطراف الاتفاقية الدفع بهذا الاختصاص فى أى موضوع متعلق بتطبيق أو تفسير هذه الاتفاقية.

وتجدر الإشارة إلى أن العمل قد جرى فى الأمم المتحدة، على أن قيد الاختصاص الداخلى لا يحول دون مناقشة الموضوعات المتعلقة بهذا الاختصاص، أو حتى إجراء تحقيق بشأنها، إنما يحول فقط دون إصدار توصيات أو قرارات متعلقة بها.

أما فيما يتعلق بالجهة التى تفصل فى طبيعة المسألة المعروضة: فكانت بعض الوفود قد اقترحت خلال مؤتمر سان فرانسيسكو أن يكون ذلك من اختصاص محكمة العدل الدولية، واقترحت وفود أخرى أن يتم ذلك بواسطة مجلس الأمن على غرار ما كان عليه الوضع فى عصبة الأمم.

ومع ذلك فقد جاء النص دون تحديد جهة معينة للقيام بهذه المهمة، مما يترتب عليه أن يكون لكل فرع من فروع الهيئة، وهو بصدد مباشرة وظائفه، أن يفصل فى هذا الموضوع. هذا وكانت المادة 4 من قرار مجمع القانون الدولى عام 1954 تعتبر أن موضوع الفصل فيما إذا كانت مسألة تعد أو لا تعد من قبيل الاختصاص الداخلي، يجب أن تحسم بواسطة جهاز قضائى دولي.


الاستثناءات الواردة على المبدأ

لما كان مبدأ عدم التدخل على النحو الذى جاء فى ميثاق الأمم المتحدة يحمل بين طياته طابعا سياسيا، فإن تطبيقه تعتريه عدة صعوبات، لأن تحديد شرعية أو عدم شرعية التدخل تتوقف على الإرادة السياسية للدولة. فحين يتم التدخل بناء على رضا الحكومة وبعد موافقتها بشكل صريح، فى هذه الحالة يكون التدخل عملا مشروعًا، أما حينما يتم التدخل ضد الإرادة السياسية للدول، فيكون آنذاك عملا عدوانيا غير مشروع، لأنه يهدف إلى الضغط على الحكومة كوسيلة إكراه وقهر تتنافى مع مبدأ المساواة فى السيادة.

وفى هذا الصدد أورد الفقه عدة استثناءات على المبدأ تجيز للدولة التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، يمكن إيجازها فى التدخل لحفظ الأمن الجماعى للدول، والتدخل بناء على طلب الحكومة، والتدخل للدفاع عن الإنسانية:

 

1- التدخل لحفظ الأمن الجماعي:

نص الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على تدابير الأمن الجماعى التى تقوم بها الأمم المتحدة، والتى قد تتضمن تدابير عسكرية تشكل وحدها إلى جانب الدفاع الشرعى استثناءا قانونيا ومشروعًا لمبدأ عدم التدخل مادامت الغاية منهما هى حفظ السلم والأمن الدوليين. وهنا يجب ملاحظة أن قيد عدم التدخل فى الشئون الداخلية- أيًا كان مدى تفسيره- لا إعمال له على حد ما جاء فى العبارة الأخيرة من المادة 2/7، فى حالة تدابير القمع التى يتخذها مجلس الأمن عند تهديد السلم أو الإخلال به، وفقًا للفصل السابع من الميثاق. وبمعنى آخر فإذا كان الأصل هو ألا تتدخل فروع الأم المتحدة فى حالة نشوب حرب أهلية فى إحدى الدول، باعتبار أن تلك مسألة داخلية، فإن من واجب مجلس الأمن إذا تعدت آثار هذه الحرب حدود الدولة لتهدد السلم والأمن الدوليين، أن يصدر من التوصيات والقرارات كل ما يراه ضروريًا من أجل إعادة السلم، دون تدخل فى النواحى الداخلية لهذه الحرب والمتعلقة بأسبابها ووسائل علاجها.

 

2- التدخل بناءً على طلب الحكومة:

أثارت شرعية التدخل بناء على طلب الحكومة جدلا فقهيا كبيرا، حيث اعتبر البعض أن الدولة تمارس كل سلطاتها فى إطار مبدأ الاختصاص المحفوظ، ومنها اتخاذ كل القرارات التى تهم أوضاعها السياسية والاقتصادية، ومنها طلب تدخل دولة أجنبية لمساعدتها على القضاء على الاضطرابات الداخلية أو النزاعات الأهلية من أجل إعادة الشرعية للنظام السياسى القائم.

والجانب الآخر من الفقه يرى أن التدخل بناءً على طلب الحكومة هو تدخل غير مشروع، لأن الشعب هو الوحيد الذى يحدد اختيار النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى الملائم له وفقًا لمبدأ حق الشعوب فى تقرير المصير، وأن الحكومة التى تلجأ إلى الدول الأجنبية من أجل التدخل ضد شعبها الذى تمرد وثار على سلطتها هى حكومة غير مشروعة لأنها فقدت «شرعية» ممارسة الحكم على شعبها الذى أزال عنها صفة تمثيلها له وأفقدها الثقة فثار وتمرد عليها، واستنادًا لهذا التحليل يكون طلب التدخل الأجنبى ضد الشعب انتهاكا صارخا لمبدأ حق الشعوب فى تقرير المصير، فأى حكومة تطلب من دولة أجنبية مساعدتها فى القضاء على الاضطرابات الداخلية تعبر عن فقدانها الأسس القانونية لقيامها، وأن الدولة الأجنبية التى تتدخل فى الشئون الداخلية فى هذه الحالة تقوم بإجهاض حق الشعب فى التعبير عن اختياراته السياسية وترتكب جريمة دولية باستعمال القوة لإخضاع الشعوب للسيطرة الأجنبية، ويكون تدخلها إنكارًا لحقوق الإنسان الأساسية وانتهاكًا لممارسة حق هذا الشعب فى تقرير المصير، طبقًا لما ورد فى قرار الجمعية العامة رقم 1514 (ديسمبر 1960).

3- التدخل للدفاع عن الإنسانية:

عرفت الحياة السياسية الدولية فى بداية التسعينيات أصواتًا مرتفعة عديدة فى العالم الغربى معبرة عن اهتمامها بما وصفته بالمآسى المترتبة على انتهاكات حقوق الإنسان فى العديد من بؤر التوتر فى العالم. ونتيجة لهذا الاهتمام المتزايد الذى تحكمه اعتبارات سياسية واستراتيجية- أكثر منها اعتبارات إنسانية- أعطت الدول القوية لنفسها حق التدخل فى الشئون الداخلية للدول تحت ذريعة تقديم المساعدات الإنسانية.

وفى خضم حالات تدخل للدول القوية أثير نقاش قانونى حاد حول التدخل الإنسانى ومعرفة من أين يستمد شرعيته القانونية؟ وهل لجوء الدول القوية إلى التدخل فى بعض القضايا الداخلية التى ترى فيها انتهاكات لحقوق الإنسان هو بمثابة ميلاد لمبدأ قانونى جديد فى القانون الدولي؟

فقد سعت نظرية واجب التدخل الإنسانى إلى تغيير مبادئ القانون الدولى الثابتة كالسيادة وعدم التدخل فيما هو من السلطان الداخلي، على أن تجربة الواقع الدولى فى الغالبية العظمى من الحالات أثبتت أن التدخل الإنسانى هو فى الحقيقة أداة تخدم المصالح السياسية والاستراتيجية للدول القوية، التى تعجز تماما عن إخفاء وجود مكانة للاعتبارات السياسية داخل العمليات الإنسانية، محاولة تضليل الرأى العالمى بتقديم المساعدات الإنسانية لتتمكن من خلالها من استخدام القوة والتدخل فى النزاعات الأهلية والصراعات الداخلية، الأمر الذى أوضحه رئيس الجمعية العامة، ميغيل دسكوتو، عام 2009 حين قال إن مبدأ «مسئولية الحماية» وفهم المجتمع الدولى للتدخل لمنع وقوع ارتكاب جرائم ضد الإنسانية قد يهدد من السيادة الوطنية للدول، فإنه بحسب الاتفاق الذى تم عام 2005 بين الدول فإن مسئولية الحماية تعنى أن الدول مسئولة عن حماية مواطنيها من جرائم الحرب والإبادة الجماعية والعرقية والجرائم المتعلقة بالإنسانية، وأن يتدخل المجتمع الدولى إذا لم تلتزم الدول بذلك. الأمر الذى أكده أمين عام الأمم المتحدة «بان كى مون» فى نفس دورة الجمعية العامة حين ذكر أن «مسئولية الحماية التزام عالمى ولا يمكن التراجع عنه، وأنه قد تقرر على أعلى المستويات ودون أى معارضة، وأن مسئولية الأمم المتحدة هى تطبيق هذا الالتزام، كذلك ما ذكره وكيل الأمين العام لعمليات حفظ السلام أمام مجلس الأمن فى جلسة 12 فبراير 2014 من أن «حفظ السلام لا يكون قابلًا للتطبيق فى نهاية المطاف إلا بموافقة الحكومة المضيفة»، وأنه «ينبغى عدم الخلط بين حماية المدنيين وبين التدخل غير التوافقى»، فى إطار المسئولية عن توفير الحماية.

 

والحقيقة أن مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول يعانى فى الوقت الراهن أزمة ثقة. وإذا اقتصرنا- على سبيل المثال- على واقع تطبيقاته الحديثة، فى بعض أجزاء وطننا العربي، سيتضح أن التدخل العسكرى فى ليبيا عام 2011 قد خرج عن الهدف المحدد له، وهو حماية المدنيين، إلى هدف إسقاط نظام وتحكم فى الدولة، الأمر الذى ليس له أى صلة بمفهوم «مسئولية الحماية». كذلك فشل مجلس الأمن فى اتخاذ موقف موحد من الجرائم الجماعية التى ارتكبت فى سوريا عام 2011، والتى ترقى إلى الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، ويتحمل المسئولية المباشرة عنها دول وأطراف عديدة من داخل المنطقة وخارجها. أما أكبر صور فشل هذا المجلس فى ممارسة مسئولية الحماية، فهى بلا شك إخقاقه فى حماية السكان المدنيين فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، حيث تواصل إسرائيل منذ سبعين عامًا انتهاكاتها قرارات الأمم المتحدة دون عقاب، مما يترتب عليه عدم إمكانية حماية هؤلاء السكان من جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من كثرة الدفوع التى تتقدم بها الدول أمام فروع الأمم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، تحت شعار الاختصاص الداخلي، فقد جرى العمل داخل المنظمة الدولية على عدم الأخذ بهذه الدفوع. وإذا كانت هناك حالات قليلة قبلت فيها بعض الفروع حذف موضوع، أثير بشأنه الدفع بالاختصاص الداخلي، من جدول أعمالها، فقد كان ذلك لاعتبارات سياسية أكثر منها قانونية.

 

وأخيرًا، فإن مستقبل الأمم المتحدة يتوقف إلى حد كبير، كما سبق الإشارة فى تلك الورقة، على مدى التوسع فى تفسير ما يعد من المسائل داخلا فى الاختصاص الداخلي. وعلى الممارسات العملية للدول الكبرى والتزامها بأحكام القانون الدولى والمساواة فى السيادة بين الدول، وعلى مدى التعنت والضغوط التى تمارسها هذه الدول- من أجل مصالحها الذاتية- على الدول الصغيرة والتدخل فى صميم شئونها الداخلية. إن الشعوب، كل الشعوب، والدول المحبة للسلام، والمؤسسات الأهلية، على المستويين الداخلى والعالمي، مطالبة بأن تتصدى بقوة لكل التصرفات غير الشرعية، إعلاء أهداف ومبادئ ميثاق الهيئة العالمية للأمم المتحدة.


بقلم: الدكتور مفيد شهاب

أستاذ القانون الدولى بجامعة القاهرة