الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

«تغيير العملة».. حيلة طهران للهروب من الانهيار الاقتصادي.. البنك المركزي الإيراني يقترح حذف 4 أصفار من العملة الوطنية.. ومجلس الوزراء يوافق

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وافق مجلس الوزراء الإيرانى فى جلسته المنعقدة يوم الأربعاء ٣١ يوليو الماضي، على مقترح البنك المركزى الإيرانى الذى قدمه فى يناير الماضى، بحذف أربعة أصفار من العملة الوطنية (الريال) وتغيير العملة من الريال إلى التومان، بحيث يصبح التومان الواحد يساوى ١٠ آلاف ريال، بعد أن كان يساوى ١٠ ريالات فقط. وبحسب التصريحات الرسمية، سوف يتم البدء بالتعامل بالتومان بعد عامين وإلغاء التعامل بالريال إلا بين البنوك الإيرانية التى ستستمر بالتعامل بالريال.
وتأتى هذه الخطوة كمحاولة «لتجميل» الواقع الاقتصادى للدولة فى مواجهة الاختناقات الاقتصادية التى أصبحت تتفاقم بعد انسحاب الولايات المتحدة فى مايو ٢٠١٨ من الاتفاق النووى لعام ٢٠١٥، وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية عليها فى سبتمبر ٢٠١٨ شملت العديد من القطاع أهمها قطاع النفط والطاقة.


محاولات سابقة
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى تفكر فيها الحكومة الإيرانية فى حذف بعض الأصفار من عملتها الوطنية، حيث جرى التفكير فى هذه الخطوة عام ١٩٩٤، عندما ارتفع التضخم فى البلاد إلى ما يقارب ٤٩٪ بعد أن كان رقم أحادى (ما دون ١٠٪)، ثم جاء التفكير الثانى فى حذف بعض الأصفار من العملة فى وقت الرئيس الإيرانى السابق «محمود أحمدى نجاد»، عندما أعلن عام ٢٠١٠ عن نية حذف ٣ أصفار من العملة، ولكنها خطوة لم تصل إلى حد التنفيذ.
وفى ديسمبر ٢٠١٦، وافقت حكومة الرئيس «روحاني» على حذف صفر من العملة الوطنية، لكن هذا القرار لم ينفذ، بسبب عدم موافقة البرلمان الذى رأى أنها خطوة ضعيفة ولن تؤثر فى الوضع الاقتصادى للدولة، ولكن يبدو هذه المرة أن البرلمان سوف يوافق على قرار الحكومة بحذف أربعة أصفار من العملة لمحاولة التخفيف من عبء التضخم وتسهيل المعاملات فى الأسواق.


لماذا تلجأ إيران إلى تغيير العملة فى الوقت الراهن؟
تعتمد بعض الدول على الحيل الاقتصادية فى مواجهة انخفاض القيمة الشرائية لعملتها، وذلك إما من خلال حذف بعض الأصفار من قيمة عملتها أو تغيير العملة بصورة كاملة، وهذا ما فعلته إيران فى هذه المرة. ويمكن القول إن طهران لجأت إلى هذه الخطوة لتلافى العديد من المشكلات التى أصبحت سائدة فى السوق اليوم، والتى تتمثل فى استمرار انهيار قيمة العملة أمام الدولار الأمريكي؛ فمنذ انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووى فى مايو ٢٠١٨، وفرض عقوبات اقتصادية على قطاعات النفط والبنوك والنقل الإيرانية، أصبحت العملة الإيرانية تترنح أمام الدولار الأمريكي، حيث فقد الريال الإيرانى فى نهايات عام ٢٠١٨ أكثر من ٦٠٪ من قيمته، ووصل الدولار الأمريكى فى سبتمبر ٢٠١٨ فى السوق الحرة ما يقارب ١٩٠ ألف ريال، ثم انخفض إلى أن أصبح فى الوقت الحالى ما يقارب ١٤٠ ألف ريال (١٤ ألف تومان تقريبًا).
كما تسعى إيران من وراء تلك الخطوة إلى تسهيل عملية المدفوعات وتخفيض تكلفة الطباعة، فيكفى أن نتخيل أن مواطنا ما يحمل آلاف القطع النقدية من الريالات لأجل شراء بعض الخضراوات من المتجر، حيث يصل سعر كيلو اللحم الواحد على سبيل المثال ١٠٠ ألف ريال (مليون ريال)، وهو رقم ضخم للغاية. فضلًا عن أن طهران تتكلف الكثير فى سبيل طباعة العملات، فبحسب التصريحات الرسمية لمحافظ البنك المركزى «عبد الناصر همتي»، تصل تكلفة طباعة العملة الورقية فئة ٥٠٠ تومان إلى ٤٠٠ تومان (أى أن تكلفة طباعة العملة الواحدة تصل تقريبًا إلى ٨٠٪ من قيمتها).
ولعل أهم الدوافع وراء تلك الخطوة هو محاولة السيطرة على شبح التضخم المرتفع، فمع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووى وفرض العقوبات، أصبحت إيران غير قادرة على تصدير النفط كما فى السابق، مما أدى إلى ضغوط كبيرة على الاقتصاد الإيرانى، أدت إلى انخفاض قيمة العملة، وبالتالى زيادة السيولة فى الأسواق وارتفاع التضخم؛ فبحسب البيانات الصادرة من البنك المركزى الإيرانى؛ فإن المعروض النقدى فى الأسواق يزيد بنسبة ٢٠ – ٣٠٪ سنويًا، فقد بلغ المعروض النقدى فى أكتوبر ٢٠١٨ ما يقارب ١٧ كوادريليون ريال (مليون مليار) وهذا رقم ضخم للغاية. كما نلاحظ أن التضخم ارتفع من ١٠٪ تقريبًا عام ٢٠١٧، إلى ١٨٪ بعد الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى فى منتصف ٢٠١٨، وعلى الرغم من أن البنك المركزى الإيرانى توقف عن إعلان معدلات التضخم، إلا أنه يُقدر فى الوقت الحالى بما يقارب ٥٠٪. 
إلى جانب سعى طهران للسيطرة على عمليات تزوير العملة والسوق السوداء، فغالبًا تلجأ الدول التى تعانى مشكلات تزوير العملة بصورة مرتفعة ووجود أكثر من سعر صرف للعملة فى السوق السوداء، إلى تغيير عملتها، لأن تفاقم المشكلة يحتاج دائمًا إلى حلول جذرية، وهذا ما لجأت إليه إيران، بعد أن أخفقت فى محاولة السيطرة على تزوير العملة ووجود أكثر من سعر صرف، فعلى الرغم من أن السعر الرسمى للدولار مقابل الريال يصل إلى (٤٢ ألف ريال للدولار)، إلا أنه فى السوق السوداء يصل إلى (١٤٠ ألف ريال للدولار). هذا فضلًا عن أن تغيير العملة من شأنه أن يؤدى إلى التخفيف من ظاهرة اكتناز الأموال بعيدًا عن المصارف الدولة.
ولا شك أن تغيير العملة يترك أثرًا نفسيًا جيدًا لدى عامة الشعب، فبعد أن كان المواطن يضطر إلى حمل آلاف العملات النقدية فى الذهاب إلى السوق، سوف يضطر إلى حمل مبلغ أقل بكثير، فحذف الأربعة أصفار سوف يجعل سعر كيلو اللحم السابق ذكره من (١٠٠ ألف تومان) إلى (١٠ تومان)، وسوف يصبح سعر الصرف الحر فى السوق (١.٤ تومان مقابل الدولار) بعد أن كان (١٤ ألف تومان)، فضلًا عن أن تغيير العملة من الريال إلى التومان سوف يؤدى إلى توحيد الحسابات الرسمية التى كانت تجرى بالريال فى السابق مع نشاط المستهلكين والمنتجين فى السوق الذى كان يتم بالتومان.

مستقبل العملة الجديدة 
رغم أن الحكومة الإيرانية بقيادة الرئيس حسن روحانى، قد وافقت على تغيير العملة إلى التومان، فإن هذا القرار ما زال يحتاج إلى موافقة البرلمان ومجلس صيانة الدستور، وبالتالى ما زال هناك الكثير من الوقت أمام البدء الفعلى فى تطبيق هذه الخطوة، لا سيما مع إعلان محافظ البنك المركزى الإيرانى، أن تنفيذ هذه الخطوة يحتاج إلى مزيد من الاجتماعات والمشاورات ووضع خطة لسحب العملة القديمة وطباعة العملة الجديدة، مما يعنى أن بدء طرح العملة الجديدة (التومان) يحتاج إلى عامين على الأقل.
ويمكن القول إن طرح عملة جديدة فى أى سوق تعانى تدهور العملة وانخفاض قيمتها، من الصحيح أنه يؤثر فى المعنويات النفسية للمواطنين بصورة جيدة، إلا أن هذا التأثير يكون «محدودًا ووقتيًا»، أى أنه تأثير قصير الأجل، يزول مع الوقت، واكتشاف المواطن أن قيمة العملة الشرائية ما زالت كما هي.
ويكمن الفيصل الرئيسى فى نجاح عملية تغيير العملة أو حذف أصفار من قيمتها فى مدى تحقيق تغيير حقيقى فى الهيكل الاقتصادى للدولة، فإذا لم تكن هناك خطة اقتصادية واضحة متزامنة مع تغيير العملة، فسوف يتدهور الوضع الاقتصادى بصورة أكبر، ومثال على ذلك ما حدث فى الحالة التركية، فقد قامت تركيا عام ٢٠٠٥ بحذف ستة أصفار من عملتها (فبعد أن كانت الـمليون ليرة تركية تعادل دولارًا أمريكيًا واحدًا، أصبحت الليرة التركية الواحدة تعادل دولارًا واحدًا أيضًا)، ومن الصحيح أن هذه الخطوة حققت نجاحًا نسبيًا، حيث انخفضت قيمة العملة مرة أخرى عام ٢٠١٨ وحتى الآن، لا سيما مع عدم وجود إصلاح حقيقى ومؤسسى (سيما أزمة إقالة محافظ البنك المركزى وتدخل الرئيس أردوغان فى السياسة النقدية للبنك).
نرى هذا أيضًا فى فنزويلا، حيث قامت بحذف خمسة أصفار من عملتها الوطنية (البوليفار) فى يوليو ٢٠١٨، كمحاولة لتخفيف أزمة انهيار الاقتصاد مع انخفاض أسعار النفط منذ ٢٠١٤، حيث يمثل الإنتاج النفطى ٩٦٪ من الدخل القومى للدولة، ورغم أن الرئيس الاشتراكى «نيكولاس مادورو» صرح بأن هذه الخطوة ستصلح حال الاقتصاد المتعثر، إلا أننا نرى الآن أن الأحوال أصبحت أكثر سوءًا، حيث يصل التضخم فى الدولة إلى ما يقارب مليون بالمئة، فعلى سبيل المثال، يصل سعر حزمة البقدونس فى فنزويلا ما يقارب مليون بوليفار.
وبالتالى، ففى الحالة الإيرانية من المتوقع أن هذه الخطوة لن تكون إلا «تجميلية» فقط، لا سيما أنه حتى الآن لم يتم الإعلان عن خطة اقتصادية واضحة فى سياق طرح تغيير العملة، الأمر الذى يدعو إلى التوقع بأن الاقتصاد الإيرانى سوف يظل يتعثر فى الخطى لفترة طويلة قادمة، وذلك بفعل ثلاثة أسباب واضحة.
أولًا: استمرار العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران، مما يعنى تضييق الخناق بصورة كبيرة على كل محاولات إيران للتوسع الاقتصادي، فضلًا عن أن الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» لا يسعى فقط لمحاولة «تقليم المخالب»، بل «نزع المخالب» الإيرانية، لهذا من المتوقع أن له أن يتوقف عن فرض مزيد من العقوبات على طهران، فإما أن ترضخ طهران للقرار الأمريكى أو يتم إسقاطها بالكامل، وربما تكون لدى إيران فرصة فى الخلاص من الرئيس «ترامب» مع الانتخابات الرئيسية الأمريكية القادمة فى ٢٠٢٠، لكن يبدو أنها فرصة ضئيلة لأنه حتى الآن لم يظهر منافس قوى من الحزب الديمقراطي، وبالتالى يبدو أن «ترامب» سوف يبقى لأربع سنوات أخرى.
ثانيًا: هو عدم استقلال البنك المركزى الإيراني، بحيث يستطيع القيام بعمله فى تحقيق الاستقرار الاقتصادى للدولة، وإيجاد إصلاحات اقتصادية للقطاع المصرفى المتعثر، فمع توالى الأزمات السياسية على إيران، أصبح البنك المركزى يرضخ للتدخلات السياسية من قبل الحكومة، دون محاولة السير بخطوات «ثابتة ومستقلة» نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادى للدولة باستهداف مؤشرات التضخم وأسعار الفائدة وسعر الصرف.
ثالثًا: السعى الدائم من قبل القيادة الإيرانية لخلق مزيد من الأزمات فى المنطقة والعالم، حيث تتصرف إيران من منطلق «الخاسر الوحيد» أو الخاسر الذى لم يعد لديه شىء آخر يخسره، فهى لا تتوانى عن تصدير الأزمات للمنطقة والعالم، فمن العمليات التخريبية فى الخليج العربى إلى احتجاز ناقلات النفط إلى الإعلان عن رفع سقف تخصيب اليورانيوم، كل هذه الأزمات تصنع مزيدا من الحصار الاقتصادى عليها، هذا فضلًا عن أن هذا يفقدها شركاءها التجاريين.
وبالتالي، فى النهاية، وفى ضوء المؤشرات السابقة، يمكن القول إن الاقتصاد الإيرانى لن يخرج من عنق الزجاجة فى المدى القريب، ويؤكد ذلك ما جاء فى تقرير صندوق النقد الدولى الأخير الصادر فى أبريل الماضى «آفاق الاقتصاد العالمي» بأن الاقتصاد الإيرانى، ونتيجة للعقوبات الأمريكية أصبح ينكمش (ينمو بمعدل سلبي) وصل إلى ٣.٦٪ فى نهايات عام ٢٠١٨، ثم ٤.٥٪ فى بدايات عام ٢٠١٩، ويتوقع الصندوق أن يظل ينمو الاقتصاد الإيرانى بمعدل سلبى يصل إلى ٦٪ بنهايات عام ٢٠١٩.