الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"المقاهي" مواقيت للبهجة بين الساحرة المستديرة والأدب

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"الساحرة المستديرة تحب الصحبة" ولا تحلو مشاهدة العرس الكروى الإفريقي الحالي والذي يستمر على أرض الكنانة حتى التاسع عشر من شهر يوليو المقبل إلا وسط أصدقاء وخلان ، وهنا تتجلى بعض معاني "المقهى وخصوصيته في الثقافة الشعبية المصرية كفضاء جامع لمتع متعددة من بينها كرة القدم وحتى المسامرات الأدبية".
ومن الدال حقا أن المقاهي المصرية التي تتحول بامتياز إلى "مقاهي كروية ومواقيت للبهجة" في بطولات مهمة كالبطولة الحالية لكأس أمم إفريقيا تزيد من بهجة الساحرة المستديرة ، وتقترن في الأذهان بالمتعة البريئة للعبة الجميلة ، وتشكل جزءا جوهريا من هذه الحالة المبهجة وتبقى في ذاكرة الزائرين من السائحين.
وحسب أرقام وتقديرات غير رسمية نشرتها صحف ووسائل إعلام ، فإن عدد المقاهي والكافيهات في مصر يصل الى نحو مليون ونصف المليون ويتجاوز في محافظة القاهرة وحدها الـ 150 ألف مقهى وكافيه.
والمقاهي تشكل جزءا لا يتجزأ من التاريخ الاجتماعي والثقافي لأي مدينة وكثيرا ما تمتزج الثقافة بالحياة داخل المقهى ، كما يرى الكثير من الكتاب والشعراء وها هو الكاتب والشاعر والصحفي المكسيكي خوان فيلورو يذهب في دراسة صدرت بعنوان "تاريخ المدينة هو تاريخ مقاهيها :كتابة الحياة في المكسيك" إلى أن ايقاع الحياة داخل المقهى قد يؤثر على طريقة الكتابة سواء كانت سردا أو شعرا لهؤلاء الذين يحلو لهم الكتابة في المقاهي. 
وفي هذه الدراسة ، يرصد المؤلف خوان فيلورو التغيرات في مقاهي المكسيك بفعل متغيرات الحداثة كما يعود لذكريات أيام الصبا والشباب ويعيد للأذهان أن نسبة معتبرة من المقاهي في مكسيكو سيتي دشنها كوبيون واسبان كما يتناول ظواهر عدة تتعلق بالمقاهي في عاصمة بلاده ومن بينها مايسميه "بظاهرة غزو المقاهي ذات المقاعد البلاستيكية" مقابل تراجع المقاهي الوقورة والتي تمنح روادها قدرا أكبر من الخصوصية. 
ومنذ إطلالة العرس الكروي الإفريقي على ارض مصر يوم الجمعة الماضية ،أخذت المقاهي زينتها في القاهرة وعلى امتداد الخارطة المصرية وتصافح العين الكثير من الصور و"البوسترات" لنجوم المستطيل الأخضر المصري والإفريقي في كثير من المقاهي.
وفيما تبدو وكأنها أعلنت "حالة الاستنفار" بمناسبة العرس الكروي الافريقي وهو "موسم" لأصحاب هذه المقاهى والعاملين فيها يعنى الكثير من الزبائن وفرص للربح فقد جرت العادة في ان تفرض المقاهى "تعريفة إضافية" على روادها الذين يشاهدون مباريات البطولة الثانية والثلاثين لكأس أمم افريقيا على شاشات التلفزيون الكبيرة.
وقد يسعى بعض اصحاب المقاهى لتبرير هذه الزيادة فى الأسعار بالحديث عن تكاليف تكبدوها استعدادا للعرس الكروي الإفريقي من زيادة عدد الطاولات وتجديد مقاهيهم ولم يجد بعض اصحاب المقاهى القاهرية حرجا فى الاقرار بزيادة اسعار المشروبات للزبائن أثناء مباريات البطولة الحالية لكأس أمم افريقيا متفقين فى الرأى على أن "هذه الزيادة طبيعية ومنطقية فى ضوء التكلفة".
وإن تجاذبت أطراف الحديث في "مواقيت البهجة" مع هؤلاء الذين يحرصون على مشاهدة مباريات العرس الكروي الافريقي فى المقهى ستجد الإجابة تتجه غالبا نحو الرغبة في المشاهدة الجماعية وخاصة مع الأصدقاء لأن متعة مشاهدة مباريات كرة القدم تتعاظم تتضاعف مع "الصحبة".
ومن نافلة القول ان تتردد أسماء اللاعبين المصريين والأفارقة في المقاهي أثناء هذا العرس الكروي الإفريقي وأن تسمع الأذن أسماء "محمد صلاح ورياض محرز والشناوي وتريزجيه وجيرالدو وساسي وساديو مانيه".
ووسط أحاديث مفعمة "بالأنس والونس والألفة" يمكنك أيضا ان تسمع توقعات حول نتائج مباريات مقبلة في لعبة ليس بمقدور احد في الواقع ان يتنبأ بنتائجها الا بعد انتهاء كل مباراة فيما كانت المقاهي حاضرة في دراسات ثقافية وابحاث لمحللين لرصد مجموعة القيم التى ترسخها كرة القدم معشوقة الجماهير فى السلوكيات ومن بينها دراسة للباحث والمحلل النفسى السيد عبد الفتاح.
ومع ذلك فإن التوقعات المبكرة سواء في المقاهي أو وسائل النقل العام والشوارع والمنازل جزء من المشهد الكروي في أي بطولة كبرى وهو مايحدث في "المونديال" عندما تتردد عادة احاديث وتوقعات مبكرة بشأن الفريق الذى سيتوج بطلا للعالم فى كرة القدم.
ولئن كانت الكاتبة السورية المقيمة في فرنسا هدى الزين قد اصدرت كتابا بعنوان :"المقاهي الأدبية في باريس.. حكايات وتاريخ" فقد يعيد ذلك للأذهان أن المقهى كان ركيزة اساسية من ركائز الحياة الثقافية والرياضية والاجتماعية على امتداد مصر المحروسة وقد يومئ كل ذلك لأهمية توثيق الأدوار الثقافية والأدبية للمقاهي في ارض الكنانة استكمالا لجهود ثقافية واصدارت على هذا المضمار مثل كتاب "القهوة والأدب" لعبد المعطي المسيري. 
فهناك مقاه مصرية لها ايضا حكايات وتاريخ وصفحات ثقافية مضيئة واغلبها "مقاهي ثقافية وادبية" على غرار ظاهرة المقاهي الأدبية التي عرفتها باريس وغيرها من العواصم وكبريات المدن الأوروبية منذ القرن الثامن عشر فيما امست هذه المقاهي اماكن مفضلة لبعض المفكرين والأدباء والفنانين.
ولبعض المقاهى منزلة خاصة فى القلوب فمن الذي ينسى أسماء مقاه مصرية نهضت بأدوار ثقافية وادبية مثل "متاتيا و"الفيشاوي" و"ايزافيتش" و" وريش" و"علي بابا" و"عبدالله" و"بترو" و"المسيري" و"زهرة البستان" ؟! . 
وكما اشتهرت بعض المقاهي الباريسية وذاع صيتها بفضل اسماء روادها من كبار المثقفين ونجوم الابداع مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وجيوم ابولينير الذي ارتبط بمقهى فلوار في منطقة سان جيرمان فان مقاهي قاهرية اشتهرت وذاع صيتها بفضل مثقفين ومبدعين في قامة النوبلي نجيب محفوظ والمفكر العملاق عباس محمود العقاد والكاتب الفنان توفيق الحكيم وسيد القصة القصيرة يوسف ادريس والساخر النبيل محمود السعدني.
بل إن هناك من المقاهي المصرية ما كان ساحة ومنتدى لرواد مؤسسين وآباء ثقافيين مثل جمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم ومحمد عبده ومحمود سامي البارودي واحمد شوقي وحافظ ابراهيم وعبد العزيز البشري وبما يبرهن على صحة مقولة إن المقاهي من أكثر الأماكن ودا وتعاطفا مع المثقفين كما أنها طرف اصيل في بهجة الساحرة المستديرة مثلما يتجلى الآن مع مباريات العرس الكروي الافريقي.
ونظرة لبعض المقاهي في سياق العرس الكروي الافريقي تومئ لما يسمى "بالمقاهي المفتوحة على نهر الطريق" في الهواء الطلق وهي ظاهرة تتجلى بشدة في ليالي الصيف القاهري وان اختلف المثقفون بشأنها مابين مؤيد ومعارض.
لكن الأمر الذي لايختلف عليه أحد وتؤكدها تعليقات في المقاهي اثناء المباريات الحالية لبطولة كأس أمم افريقيا ان تلك المقاهي شاهد على روح الفكاهة كعنصر متأصل في المصريين منذ القدم وبما يعيد للأذهان ماسبق وان رصده أحد كبار المثقفين المصريين والرئيس السابق لمجمع اللغة العربية بالقاهرة وهو الدكتور شوقي ضيف في كتابه "الفكاهة في مصر".
وفي هذا الكتاب رافق الدكتور شوقي ضيف الذي قضى في الثالث عشر من مارس عام 2005 هذه الروح المصرية الفكهة حتى العصر الحديث وظهور مقاه للمضحكين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مثل مقهى "المضحكخانة" في حي الخليفة القاهري وظهور جيل ادبي لاينسى من ظرفاء المقاهي والمجالس والمنتديات الثقافية مثل محمد البابلي وعبد العزيز البشري والدكتور محجوب ثابت والشاعر الشهير حافظ ابراهيم الذي كان يحلو له التشنيع أحيانا على بعض أصدقائه من الشعراء.
وإذا كانت الكاتبة البريطانية الشهيرة جوان رولينج التي عانت كثيرا في بدايات مسيرتها الأدبية من قسوة حياتها وافتقارها للمال في أدنبرة عاصمة اسكتلندا كانت "تكتب في مقاه محلية وتحب الكتابة في المقاهي التي تجعل ابنتها تنام بعد جولة من التنزه" فلا يكاد يوجد كاتب عاش في باريس او اقام فيها ردحا من الزمن لم يكتب عملا ادبيا من أعماله في المقهى.
والمقاهي المصرية عرفت تلك الظاهرة ايضا على نحو أو آخر كما يتجلى مثلا في حالتي الكاتبين الراحلين سليمان فياض وخيري شلبي اللذين كتبا الكثير من أعمالهما الإبداعية في المقاهي.
وإذا كانت ايقاعات الساحرة المستديرة تتجلى الآن في العرس الكروي الافريقي ، وتكاد تشكل وحدها ايقاعات المقاهي المصرية فإن المقاهي في العالم ككل مصدر عناوين ملهمة لكتب مهمة مثل كتاب "في المقهى الوجودي" لساره باكويل.
وحظى هذا الكتاب باهتمام ملحوظ ولافت في الصحافة الثقافية الغربية لتتسابق كبريات الصحف في عرض ونقد هذا الكتاب عن عصر انتشرت فيه الفلسفة الوجودية وتوهجت أسماء أعلام هذه الفلسفة وفي طليعتهم جان بول سارتر ورفيقته في مسيرة الحياة سيمون دي بوفوار .
وقد اختارت المؤلفة عنوانا فرعيا لكتابها الجديد هو :"الحرية،الوجود، كوكتيل عصير المشمش" او كما نسميه في الشرق "قمر الدين" فالحقيقة ان اختيار ساره باكويل لهذا العنوان الفرعي جاء ليعيد للأذهان انه كان المشروب المفضل لجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وريمون ارون في حوارات المقاهي حول الفلسفة الوجودية. 
وهذا الكتاب لساره باكويل بمثابة "بورتريه مشترك يجمع مابين أهم أعلام الفلسفة والفكر الوجودي في الغرب خلال القرن العشرين فيما توهج خيال المؤلفة لتتصور أن هؤلاء الأعلام قد اجتمعوا معا في مقهى واحد تمنت ان يكون احد المقاهي الباريسية التي اشتهرت في زمن توهج الفلسفة الوجودية وذيوع شهرة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.
وهكذا تتردد في هذا الكتاب الهام أسماء لفلاسفة ومفكرين كبار في الغرب مثل مارتن هيدجر وموريس ميرلو-بونتي وكارل يسبرس وحنة اردنت والبرت كاموس فيما تتناول المؤلفة معاني وظلال الفلسفة الوجودية التي تعني في احد جوانبها "حرية ابتكار النفس مع تحمل المسؤولية الشخصية لكل انسان عن خياراته و افعاله وتصرفاته" وهذا هو المفهوم الذي تبناه الثنائي الوجودي الأشهر سارتر-سيمون دي بوفوار.
ومع أن ساره باكويل سعت لابتكار "مقهى وجودي" بعين الخيال ليجمع بين اقطاب واعلام هذه الفلسفة ، فانها لم تغفل الواقع الذي يقول إن مقاهي باريس شهدت بالفعل مولد اعظم افكار الفلسفة الوجودية منذ عام 1932 عندما كان يرتادها جان بول سارتر ليدخل في حوارات مع مفكرين ومثقفين من بينهم صديقه ريمون ارون غير أنها لم تبد رأيها في ظاهرة أمريكية لافتة وهي ماتسمى "بحانات كرة القدم".
ورغم ان كرة القدم لم تكن حتى عهد قريب باللعبة ذات الشعبية الكبيرة بين الأمريكيين فان هذه الحانات الكروية التى انتشرت فى بلاد "العم سام" تبث أغان ذات صلة بالساحرة المستديرة اثناء المباريات بين فرق الاندية فى الولايات المتحدة بينما يصل الأمر ذروته اثناء مباريات المنتخب الأمريكى فى البطولات الكروية القارية والعالمية..
ومن الطريف حقا أن هذه الحانات الكروية أثارت دهشة وفضول حتى السائحين والزوار الأوروبيين وخاصة من الانجليز الذين يفخرون بأنهم هم الذين قدموا للعالم كرة القدم بمعناها المعاصر وقواعدها الحالية فبات بعضهم يتردد عليها باعتبارها "تقليعة مثيرة من تقاليع بلاد العم سام". 
وفى هذه الحانات الأمريكية يتحدث عشاق الساحرة المستديرة عن آخر أخبار أساطير كروية كليونيل ميسى وكريستيانو رونالدو آملين ان يحظى منتخب الولايات المتحدة بمكانة عالية على الخارطة الكروية العالمية ويبدد المفهوم القديم والتصور التقليدى عن الأمريكيين كشعب لايجيد التعامل مع الساحرة المستديرة.
وفى حانات الكرة بشيكاغو ستجد الكثير من الرواد والزبائن وقد ارتدوا أزياء رياضية للاعبى فرق أندية أوروبية تحظى باعجابهم مثل برشلونة وريال مدريد وانتر ميلان وبايرن ميونيخ ، أما فى مصر فان كثيرا من المقاهى تتزين الآن بصور وايقونات للكرة المصرية والافريقية لتجسد في هذا العرس الكروي الإفريقي معنى المتعة البريئة للساحرة المستديرة وفرحة الطيبين في دروب مصر المحروسة.