السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هل الإنسان كائن كذَّاب؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن الطبيعة البشرية فريدة تمامًا لأنها تجمع بين صفتين تبدوان متعارضتين فى الظاهر، وهما: الحيوانية والتفكير، لذلك درج أغلب المفكرين منذ قديم الزمان على تعريف الإنسان بأنه حيوان مفكر، فهو حيوان لأنه يشارك بقية جنسه الحيوانى فى النزوع إلى إشباع حاجات الجسد، وتحقيق مطالب الغريزة، فيسعى إلى طلب المأكل والملبس والمأوى والأنيس استمرارًا لحياته وحفظًا لنوعه، ويصدر فى سلوكه عن بعض المنازع الطبيعية مثل الحب والكراهية والتملك، ويسعى بحكم دوافعه الطبيعية إلى الانتماء لجماعة يعيش بينها حفظًا لبقائه وتأمينًا لسلامته. 
غير أن الإنسان - على الرغم مما فيه من هذا الجانب الحيوانى - يمتاز بجانب آخر فريد لا نجد له نظيرًا عند غيره من الحيوانات. فما عسى أن يكون هذا الجانب الإنسانى الفريد الذى يتميز به الإنسان عن الحيوان؟ هنا اختلف المفكرون فى تحديد هذا الجانب، وتباينت بشأنه إجاباتهم. فحاول بعضهم أن يلتمسه فى صفة «الاجتماعية» تلك التى لا تظهر بصورتها الدقيقة إلا فى أفراد الإنسان، فقيل إن الإنسان «حيوان اجتماعي»، وشاء بعضهم أن يصل إليه على أساس تنظيم المجتمعات من الناحية السياسية، فقيل إن الإنسان «حيوان سياسي»، وذهب آخرون إلى أنه «حيوان أخلاقي»... إلخ.
ومن الملاحظ أن هذه التعريفات وما إليها إنما تفترض مقدمًا أن الإنسان - على عكس الحيوان - قادر على أن يتـدبر شـئون حياته، ويعى أمور معيـشته ويزن نتائج عمله، أى أنه - باختصار - يصدر فى سلوكه عن روية وتعقل وتفكير. ومن هنا تأتى قوة التعريف التقليدى للإنسان بأنه «كائن مفكر» أو «حيوان عاقل». لأننا لو سلمنا بأن الإنسان مفكر أو عاقل؛ كان من الطبيعى أن يصبح اجتماعيًا أو سياسيًا أو أخلاقيًا. وبذلك تعود جميع التعريفات السابقة إلى هذا التعريف الأخير.
ونحن هنا لا نجادل فى كون الإنسان يتميز عن سائر الحيوانات بالعقل، ولكننا نتساءل عن «الكذب» بوصفه خاصيةً أو سمة يتميز بها السلوك البشرى عن سائر الكائنات، قد نجد دهاءً لدى بعض الحيوانات ومكرًا، لكن «الكذب» بأنواعه وفنونه الكثيرة المتنوعة، لا يمارسه سوى البشر، ومن هنا نتساءل: هل الكذب فطري؟ هل الإنسان يُولَد من بطن أمه كذَّابا؟ هل الكذب كلون البشرة، وراثي، هناك من يُولَد أسمر البشرة، أو أبيض، أو شديد السمرة، وهل الأمر كذلك فيما يتعلق بالكذب، أى هل هناك من يُولَد قليل الكذب، أوهناك من يُولَد كثير الكذب؟ أم أن الكذب صفة مكتسبة؟ أو هل الإنسان يُولَد - شأنه شأن أى حيوان - ليس مجبولًا على الكذب، وإنما يكتسب أساليب الكذب اكتسابًا من بيئته المحيطة (الأسرة والمدرسة والمجتمع). 
كلنا نلاحظ كيف أن الأم أو الأب يسهمان بشكل أو بآخر، عن قصد - أو دون قصد - فى إكساب الأبناء مهارة الكذب، رغم نهرهما العلنى للأبناء بضرورة تجنب الكذب والامتناع عنه. وقد ينال الأبناء، فى بعض الأحيان، عقابًا بخاصةٍ إذا لحقت عاقبة الكذب الأسرة بأذى. أما عدا ذلك، فغالبًا لا يأبه الآباء بكذب الأبناء!!
علينا أيضًا أن نميز بين الكذب والخطأ، فإذا أخطأ اللاعب فى تسديد الكرة فى المرمى فهو ليس كاذبًا وإنما هو مخطئ، وكذلك الأمر لو أجاب الطالب بطريقة غير صحيحة عن السؤال المطروح عليه. إننا يجب أن نفرق بين الكذب و«عدم الوفاء بالعهد»، فالكذب هو بمعنى من المعانى إخلال بالوعد الذى قدمه الكاذب للآخرين. 
كثيرًا ما نصادف فى حياتنا أفرادًا بارعين فى الكذب، إنهم يكذبون كما يتنفسون، يكذبون دون أن تطرف لهم عين، إيمانًا منهم بأن الكذب ذكاء، وممارسته مهارة!! لقد راجت بضاعة الكذَّابين والمنافقين فى مجتمعاتنا؛ لأننا اعتدنا المداهنة، ولم نعد نملك جسارة أن نقول للأعور: «أنت أعور». بل على العكس، كثيرًا ما يحلو لنا أن نتغزل فى جمال عينيه!! واللافت للنظر أن الناس فى بلادنا تعطى للرذائل المتصلة بأمور الجنس حجمًا هائلًا يكاد يلاشى ما عداها من رذائل، مثل: الكذب والنفاق والتكاسل والإهمال فى أداء الواجب وعدم الوفاء بالعهد. فى حين إن مثل هذه الرذائل الأخيرة لا تقل من حيث نتائجها الضارة عن رذيلة كالزنا. إن الأضرار الناجمة عن ارتكاب الزنا، تحيط بمرتكبى هذه الجريمة وحدهم - وليس فى هذا إقلال من خطر هذه الجريمة - فى حين إن جريمة الكذَّابين والمنافقين من قادة الرأى مثلًا تفسد كثيرًا من الشباب، وتؤدى بهم إلى التخبط والضياع. 
لو اختفى الكذب من الحياة لصارت جنة، فلن يبقى ظالم فى مكانه للحظة واحدة، لأنه لن يجد كذَّابًا أو منافقًا يداهنه، بل سيُوَاجه من قِبَل الجميع ببشاعة ظلمه، وسوف يعمل كل مسئول ألف حساب للحظة المواجهة هذه، ومن ثمَّ يؤدى عمله على أفضل وجه. قس على ذلك كيف يكون الحال فى كل مناحى حياتنا، لو اختفى منها الظلم. سيختفى الغش بكل أنواعه وصنوفه، سينتهى الغدر بين الأصدقاء، وتنعدم الخيانات الزوجية، فمن تعشق غير زوجها ليست فى حاجة لأن تكذب عليه، ستذهب إلى زوجها وتخبره بالحقيقة، وكذلك يفعل الزوج الذى يرتبط بغير زوجته. أليس هذا أفضل وأرقى من الكذب والنفاق والمداهنة ؟! 
أليس هذا أعظم وأجدى من الظلم والغش والتضليل؟!
أليس هذا أنفع وأحب إلى الله من الخداع والغدر والخيانة؟!