الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

انتصارات المهزوم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ها هو يحط الرحال، بعد غربة، «مزمزت» عمره على مهل.
عاد إلى الوطن، بعد ثورة، مفعمًا بحلم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية للجميع، نعم للجميع، إن قلبه منازل شعبية.
أين الرفاق؟... أصحاب العمر، شركاء الأحلام الغرة، والخطايا المبكرة البريئة.
لقد انفضوا من حوله، فابتعد عنهم، مبتلعًا خيباته، ومنكفئًا على وحدته، كيف يستعمر الجفاء قلوب الذين اقتسموا الرغيف الواحد، من دون «غِموس» فى كثير من الأحيان؟
الليل يبلعه كحوت أسود الشفتين، يكاد يشتاق إلى صوته، لقد نسى الكلام، وما عادت لديه إلا لوحة مفاتيح الحاسوب، تنقر أصابعه المرتعشة عليها، يحتسى قهوته السوداء، فنجانًا بعد فنجان، ويذبح قلبه بالتدخين.
كقشة تحت المطر، أهله جميعهم خارج البلاد، أما اللواتى كتبهن شعرًا، أو نزفهن شعرًا، فلم يفهمن طفولته، ولم يضمدن جراحاته، عندئذٍ ظهرت الحسناء، صحفيةً متدربةً، فى السنة الأخيرة بقسم الإعلام فى جامعة الإسكندرية، ذات خدين كلثوميين متوردين، وعينين عسليتين أموميتين طيبتين، قدها ميّاس فى امتلاء طفيف، بشرتها بيضاء من غير سوء، شعرها كستنائى «يهرهر» على كتفيها، أصابع يديها جداول حنان، شفتاها دسمتان، أنفها رومانى مستقيم، نهداها تحت قميصها الساتان، شامخان، كمسلة رومانية... لكنها كانت فى الواحدة والعشرين.
هل تسمح لى بالحصول على رقم هاتفك؟ سألته، فإذا بنيران الأربعين تشب: «سيكون من دواعى السعادة، من دون شك».
وسجل رقمها على هاتفه: «الحُلوة» بـ«أل» التعريف، يحب المفردة، وينطقها بضم الحاء!
شرعت «الحُلوة» تتصل به فى اليوم أكثر من مرة: «لا تدخن على معدة خاوية»... حاضر، «لا تفرط فى احتساء القهوة»... حاضر، «هل تناولت العشاء»... «اتصلت لأقول تصبح على خير».
إن اهتمامها كسكين «مشرشر» يخرق جدران القلب بكل نعومة، وهو سجين فى وحدة حالكة، لكن عشرين عامًا بينهما، تقيم سورًا فولاذيًا.
لم يعد له غيرها، هى أمومية الشعور، إن الأمومة نقطة ضعفه، رغم وصوله الأربعين، إن الرجال جميعهم أطفال.
الرابعة فجرًا، وهو على سريره، يحدق فى السقف، قرأ كثيرًا، وكتب كثيرًا، ومزق كل ما كتب، لم يرضَ عن حرف واحد، هكذا دأبه، يمارس النقد الذاتى بقسوة، قبل النشر يمزّق، وبعد النشر يؤنب نفسه!
الهاتف يهتز: «الحُلوة»، ردّ بصوت مفعم شوقًا: «أهلًا»، ردت بنبرة أنثوية: «اشتقتُ إليك»، جفَّ حلقه، بادرته كجلاد رماه بضربة من كرباج الحنين، لم يفق منها، فإذا به يرميه بالثانية: «هل تقابلنى الآن؟.. الشمس ستشرق بعد ساعة، لماذا لا نفطر معًا من عربة فول فى بحري؟.. أخالُك متشوقًا للأمر بعد الغربة الطويلة».
نطّ من سريره، حلق لحيته، ارتدى ملابسه بتأنق، أشبعها برذاذ عطر فرنسي، رنا إلى المرآة، راق له هندامه، وسرعان ما اتجه إلى شاطئ البحر، استقل تاكسى من كليوباترا إلى بحري.
تقف إزاء مقهى «فاروق»، إن منطقة بحري، مخزن ذكرياته، فيها كانت له أيام، وفيها مارس طقوس التصعلك، بما يناسب «شعبويته» الفطرية، رغم جذوره الأرستقراطية نسبيًا.
المكان يثير الشجن الشفيف، ومظهرها يبعثر الجمر فى الأعصاب، ترتدى قميصًا بُنيًا داكنًا، خصلاتها الكستنائية تشهق أمام نسمات بحرية متبخترة، فى بدايات مايو؛ حيث لا حر ولا برد، تلف حول جيدها المرمري، شالًا برتقاليًا، وتضع القليل من أحمر الشفتين، وشيئًا من الكحل العربي.
صافحها بحرارة، فكّر لوهلة أن يبوسها، إنه فى العادة، لا يحسب حساب الناس، تراجع فى اللحظة الأخيرة، أحس وخزة غائرة فى ضميره: «لا لن أفعل»، استبد به الضيق، والتوتر، تناول إفطاره واجمًا.
سألته أن يتمشيا معًا، أومأ موافقًا، باغتته بأن شبكت أصابعها بأصابعه، صهلت الرغبة فى قلبه، إنها حرائق الأربعين، مالت عليه: «أحبُّك»، دارت الدنيا، واصلت: «لقد مات أبى وأنا دون الخامسة، أرى فى عينيك الخضراوين ظلالًا منه».
لم ينبس ببنت شفة، رمقها صامتًا، فارتد طرفه إليه وهو حسير، أصابعها لا زالت تلتف على أصابعه، ذاك عناق عذري، وهو ليس حسيًا على العموم.
ودعها آفلًا إلى بيته مشيًا، يدندن: «عيناها سبحان المعبود»، يحب هذه الشطرة من «قارئة الفنجان»، خطواته مكسّرة، كجفون عجوز، يحادث نفسه: ليس ممكنًا، إنها أرق من أن أشتهيها لنفسي، مشدود إليها بالطبع، ألا أيها الحزن الثقيل، ألا انجلي.
دلف غرفته، ازدرد حبة النوم، يريد هدنة من سهام عينيها، خلع ملابسه ونام كما ولدته أمه، هذه حرية يمارسها الوحيدون.
لم ينعس إلا قليلًا، استيقظ على اهتزاز هاتفه المحمول، الحُلوة مجددًا، لم يرد، كبح رغبة متوهجة فى أعماقه: سأضع حدًا للجنون.
لم يكف هاتفه عن حمل اسمها: الحلوة، استجمع شجاعته: لا أستطيع، سأكون سافلًا إذا قطفت وردة مثلك، إن الرجل يا صغيرتي، هو ضميره.
بكت على ذراعه، ارتمت فى حضنه، تشبث بموقفه، آهٍ أيتها الشهية لو تعرفين ما يعتريني، ولم يكن إقناعها سهلا.
مضت سبع سنوات، وصار متى زار الإسكندرية، بعدما قذفته المنافى إلى القاهرة، ليؤدى دوره الهزلى فى ملحمة وحدته القدرية، يلتقيها فتتأبط ذراعه، وقد تروى عن شاب تقدم للزواج بها، فتسأله: ما رأيك يا بابا؟ يفرح بالنداء، فرحة من انتصر، على نفسه، رغم هزيمة نفسه.