الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من الانتماء إلى الاغتراب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الانتماء حالة أو إحساس طبيعى يرتبط بالإنسان منذ ولادته حتى آخر العمر. فالبداية لهذا الانتماء تبدأ مع والدته؛ حيث تكون آلام محور الانتماء والحياة ومصدر الأمان، فيحدث نوع من التلاحم الإنسانى والعاطفى بين الأم ووليدها، وعلى ذلك كان موقع الأم منذ الأزل وإلى الأبد موقعًا، خاصةً وعلاقة مميزة تتجاوز كل العلاقات، ثم تتولد علاقة يتبعها الانتماء لأفراد الأسرة بدايةً من الأب الراعى إلى الإخوة المحيطين والمشاركين. هذه العلاقة الأسرية التى يتولد من خلالها هذا الانتماء الأسرى، ثم العائلي، وبعد مرحلة من العمر يزيد فيها الإدراك ودرجة الوعى فيكون الانتماء للحى وللبلد الذى يعيش فيه الإنسان، ثم تتابع حالات الانتماء إلى المدرسة أو الجامعة أو الأصدقاء وشركاء العمل، حتى نصل إلى الانتماء للوطن.
طبيعة الانتماء هنا تبدأ بالحاجة المادية ومدى القدرة على تحقيقها للفرد المنتمي، مثل علاقة الأب والأم بالأسرة، ثم تتطور حالة الانتماء إلى الجانب المعنوى الذى يُشبع حاجات مادية بطريق غير مباشر، فصحبة الأصدقاء والزملاء تحدث نوعًا من السعادة، وهذه السعادة هى المقابل لهذا الانتماء، وصولًا إلى الانتماء للوطن الذى يكون الانتماء إليه حالة خاصة تمزج بين الاحتياج المادى، الذى يُقدم للفرد فى مجالات التعليم والعلاج والثقافة والسكن.. إلخ، وبين الاحتياج المعنوى الذى يتمثل فى توفير الوطن احتياجات المواطن من أمن وأمان والأهم توفير حالة التعايش السلمى الجماعى والانتماء للجماعة، هذه الانتماءات التى تجعل الفرد يدافع عن الوطن وعن أبنائه بازلًا الروح والدم بنفس راضية خوفًا على الوطن والجماعة التى هو جزء منها، أى أنه فى المحصلة النهائية هو يدافع عن نفسه الذاتية والعائلية.
هذا هو الانتماء الموضوعى والطبيعى النابع من قناعة ذاتية، وهذا غير الانتماء المصنوع والمصطنع، الذى لا نراه إلا فى الأغانى والشعارات الفارغة وحالة المجاملة «التطبيل» طوال الوقت لهدف شخصى وذاتي، حتى لو تعارض هذا الهدف مع المصلحة العامة للوطن والمواطن، فانتماء الأغانى والشعارات انتماء وقتى ومرحلى ينتهى عند تحقيق الهدف دون أن يحقق إنتاجًا ولا يصنع تقدمًا ولا يدفع ثمنًا لهذا الانتماء الذى لا يصح نعته بالانتماء الحقيقى والصحيح، وعلى عكس ذلك على طول الخط، ذلك الانتماء الحقيقى الموضوعى النابع من قناعة ذاتية تدور حول ثنائية مصلحة الوطن والمصلحة الذاتية، كما أن هذا الانتماء الموضوعى والصادق لا يقتصر تحقيقه نتيجة لما يقدمه الوطن للفرد من خدمات فقط، لكن هناك مع هذه الخدمات العينية المنظورة ما هو أهم، وهو تحقيق ذلك الإحساس بالكرامة الإنسانية التى تحفظ كرامة المواطن والثقة فى المساواة والعدل وعدم التفرقة بين مواطن وآخر لأى سبب كان، وتحقيق المواطنة فى إطار القانون الذى يطبق على الجميع بلا استثناء، الشيء الذى يحقق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز، نعم الدستور والقانون لا يميز بين مواطن وآخر، ولكن على أرض الواقع، يوجد ذلك الواقع الذى هو نتاج لعصور وبصور متراكمة من الثقافات والعادات والتقاليد والممارسات الطائفية والقبلية والجهوية والنوعية، ذلك الذى خلق ممارسات جمعية وصلت إلى درجة الدسترة والتقنين العرفى الذى لا يساوى بين المواطنين، والذى ترك الفرصة سانحة للفساد أن يتوسع ويتكرس فى كل مناحى الحياة، حتى وصلنا إلى درجة خطيرة من التعود على هذا الفساد، وكأنه أصبح طبيعة الحياة!!
إذا كان الانتماء عمليًا يتلخص فى الأخذ والعطاء بين الحقوق والواجبات، فإن المواطن العادى الذى يمثل الغالبية الغالبة من هذا الشعب العظيم الصابر والمنتمى بالطبيعة والسليقة، يؤدى عمله الذى رزق به ويحب وطنه الذى لا يملك سواه ويخاف عليه من الفوضى، لأنه لا يمتلك طائرة خاصة تأخذه بعيدًا عند الخطر، هذا المواطن يرضى بالقليل، ولكن فى المقابل لا يجب أن يشعر طوال الوقت بذلك التمييز الذى يخصم من كرامته، فعندما يسقط القانون ولا ينفذ إلا على غير القادرين، ولا ينفذ على أصحاب مقولة «أنت مش عارف أنا ابن مين؟!»، عندما يرى المواطن من لا يلتزم بالقانون من جانب حماة القانون، عندما لا يملك المواطن أن يحقق خدمة قانونية بغير الدفع علنيًا وبعيدًا عن الأدراج!! عندما لا يستطيع فرد غير مؤهل أو من الحاصلين على شهادة الدبلوم أن يلحق ابنه بكلية من الكليات المرموقة أو حتى يدخله مدرسة من المدارس ذات المستوى التى تشترط حصول الوالدين على مؤهل عال، ناهيك عن حصول الابن على هذا المؤهل إلا أنه لم يرزقه الله بوالدين متعلمين، فإنهم مناضلون ومكافحون فى هذه الحياة حتى علموا ابنهم ودفعوا دم قلوبهم حتى يحصل هذا الابن على أعلى الدرجات العلمية بكفاءة تؤهله للحصول على موقع فى وزارة الخارجية أو ما يماثلها من الوزارات، مثل وزارة العدل الذى قال أحد وزرائها، «إن العدل لا يصلح لغير أبناء القضاة!!».
عندما يجد العامل والفلاح والفراش وعامل النظافة، وهى كلها مهن شريفة مثل أى مهنة أخرى يشار لها بالبنان، فالعبرة بالعمل والإخلاص فيه وعدم استغناء الجميع عنه، أى فرصة للترقى الاجتماعى الذى سيحصل عليه بعمله ومجهوده وقدرته، فى الوقت الذى يشاهد فيه من هم غير مؤهلين، إلا أنهم ابن كذا وكذا يحصلون على حقه المهدور. عندما يفقد المواطن الأمل فى أى ترقى اجتماعي، فابن الضابط ضابط، وابن أستاذ الجامعة أستاذ فى الجامعة، وابن المستشار مستشار... وهكذا، ويصبح أيضًا ابن العامل عامل، وابن الفراش فراش. هنا وبكل وضوح لا ننتظر انتماءً حقيقيًا ولا حتى صوريًا، فما نشاهده من سلوكيات منحدرة وقيم هابطة وعدم التزام بالقانون نتيجة ليس لعدم الانتماء، بل نتيجة للاغتراب بعينه، هذا الاغتراب الذى يجعل المواطن لا يشعر بوطنه وكأنه غريب فيبحث عن وطن آخر أو يسقط الوطن من ذاته، بل يصبح هذا الوطن عدوًا له، فنكون قد مهدنا التربة لإنبات بشر يتم التقاطهم من جماعات العنف والإرهاب الذين لا يريدون خيرًا للوطن. فلتكن مصر لكل المصريين وليطبق القانون على الجميع ولنعطى الفرصة للكل بلا تمييز، حتى نقضى على الفساد، ونبنى مصر المستقبل بأيدى أولادها المنتمين لها بحب حقيقى وليس شعاراتي.