الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

"بول سيزان".. صاحب الفرشاة المسطحة

بول سيزان
"بول سيزان"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تحتفى الأوساط التشكيلية فى العالم، اليوم الإثنين، بذكرى رحيل الفنان الفرنسى الأشهر بول سيزان، وهو واحد ممن سطروا أسماءهم ضمن الأعلام المجددين فى الاتجاهات المعاصرة فى الفن التشكيلى خلال القرن التاسع عشر؛ وقد وصفه البعض بأنه الرسّام الذى بدأ حياته الفنية بالمدرسة الانطباعية، لكنه حطّم الشكل الطبيعى ثم أعاد صياغته، فمهّد بذلك للفن التجريدي، والذى ظهر بقوة فى النصف الأول من القرن العشرين بعد رحيله.
شهدت مدينة آكس آن بروفانس، القريبة من سواحل مارسيليا فى الجنوب الفرنسي، أولى صرخات الطفل بول سيزان فى ١٣ يناير عام ١٨٣٩، والذى نشأ ليجد نفسه ابنًا لرجل ثرى استطاع إلحاقه بمعهد البلدة، كانت الطبيعة الريفية المُحيطة بالشاب الذى عشق الألوان جعلته يستقى مواضيع أعماله الشهيرة من الطبيعة التى كان يخرج إليها ويصورها، هذا الأمر فى البداية جعله مثارًا للسخرية من قِبل الكثير من الفنانين، فوصفه بعضهم بأنه لا يُجيد الرسم، ولكنه بقى هادئًا ومقتنعًا بما يريد التعبير عنه فنيًا.
هذا الإصرار النادر الممزوج بنضال مرير قاده فى النهاية إلى النجاح، فبعد سنوات طويلة من رحيله هو نفسه، اعتبره محبو الفن التشكيلى مطورًا كبيرًا للفن الحديث، بل ورآه آخرون بأنه من قام بإطلاق بعض الاتجاهات الجديدة فى الفن.
تُمثّل أعمال سيزان، الذى وُصِف كذلك بأنه «أبو الفن الحديث فى أوروبا» نقلة نوعية أسلوبية بين المدرسة الانطباعية والمدارس الحديثة فى الفن التشكيلي؛ وتمثل أعماله ومدرسته واتجاهه الفنى نقلة كبيرة من الانطباعية للتكعيبية، حيث نظر للطبيعة بمنظور البناء الهندسى للأشكال ما بين الدائرة والمربع والمثلث، حيث اعتمد فى العمل على رؤية بصرية أكثر منها موضوعية، كما أنه أسس للاتجاه الحديث؛ ورغم ذلك فإن كل الاتجاهات الفنية السابقة على مدرسته لم تغب عن أعماله، فكانت حاضرة بشكل أو بآخر بنسب متفاوتة فى لوحات صارت فيما بعد تُحقق ملايين الدولارات فى المزادات العالمية، وقد حقق هذا وفق رؤية ذات طابع هندسي، الأمر الذى أفاد كل من سار على نهجه من التكعيبيين بعد ذلك.
كان الفرنسى ابن الجنوب يستخدم فى بعض أعماله بضع تفاحات وحبات برتقال وغطاء طاولة لا أكثر، والحقيقة أن هذا القول الذى يبدو للوهلة الأولى مفعمًا بالتهكم، ينطبق بصدق على الأقل على مرحلة وسطى من مراحل تطور أعمال سيزان، وهى المرحلة التى اهتم فيها أكثر ما اهتم برسم ما سُمّيَ بـ«الطبيعة الميتة»، علمًا بأن ما صوّر فى لوحاته هذه لا هو طبيعة خالصة، ولا هو موات أبدًا. فقط هو فى أغلب الأحيان جاء بفواكه وأوانى وقام بترتيبها فوق طاولة مسطحة، ثم نظر إليها مليًا، ربما ليس لساعات فقط كما يفعل بعض الفنانين المُعاصرين، يقول البعض إن هذه الجلسات التأملية قد استمرت لأيام وأسابيع، ولأكثر من هذا فى أحيانٍ كثيرة؛ ثم بعد ذلك أخذ بعد ذلك يرسم محولًا ذلك كله إلى مُسطحات لونية ستكون هى- فيما بعد- أهم مفاتيح تغيير صورة الفن وأشكاله، إن لم تكن وظائفه فى العالم الحديث.
الزائر للمنطقة الواقع فيها جبل مون سانت فيكتوار، القريب من مسقط رأس سيزان، سيُدرك على الفور مدى تأثر الرسام الفرنسى باختلاف زوايا رؤية المشهد ذاته وتأثيره على المشهد النهائي، ومدى تأثره بالألوان والفراغ واللحظة. هذه الرؤية تكشف دومًا عن روح متوثبة دؤوبة لا تعرف الكلل ولا الملل لرجل يندر وجود مثيل لصبره وتصميمه على مواصلة الرسم، فقد أمضى أكثر من نصف عمره يرسم دون أن يجد أحدا يعترف به، وأفنى زهرة شبابه فى تلك المحاولات، معتمدًا فى تغطية نفقات معيشته على ثروة والده، ومعزيًا نفسه بتأييد صديقه الروائى الشهير إميل زولا، وأصدقائه الرسامين ماميل بيسارو، ومانيه، وكلود مونيه، ورينوار؛ لكن الحقيقة القاسية هى أن الرسامين لا يشترون فى العادة اللوحات ولا يوفرون للرسّام مصدر عيش من بيع لوحاته.
قضى سيزان حياته فى رحلة لا تنتهى بحثًا عن الشيء الأمثل للتعبير عن الحقيقة من خلال الرسم، كان يقول «هناك دقيقة معينة تعبر عالمنا هذا، أريد أن أرسمها على حقيقتها كما هي، وأنسى خلال ذلك أى شيء آخر فى الوجود»؛ وكان رافضًا بإصرار تصنيفه فى المدرسة الانطباعية، ومتجاهلًا الرفض الجماهيرى لفنه ومُصممًا على الرسم حتى آخر لحظة فى عمره؛ لذا فقد بدأ فى تطوير مدرسته الفنية الجديدة وأسلوبها مع بلوغ القرن التاسع عشر حقبة السبعينيات مُستخدمًا الفُرشاة المُسطّحة فى ضربات متوازية على اللوحة، واضعًا الألوان جنبًا إلى جنب؛ وقد ألهم هذا الأسلوب الفراغى فى الرسم جيلًا شابًا جديدًا بالكامل، كان من بين أشهر ممثليه «براك» و«بيكاسو»، واللذان قادا موجة الفن التكعيبي، كما أثّر أسلوبه فى استعمال الألوان على رسامين فرنسيين مشهورين آخرين هما «لو فوف» و«ماتيس».
عندما بدأت الأمور تتغير لصالحه، وراحت الاعترافات بتفرد فنه تنهال عليه من كل حدب وصوب، لم يتأثر سيزان بها وواصل الرسم ساعيًا إلى ترسيخ نهجه الجديد فى الرسم على الساحة الفنية؛ فى الوقت نفسه قام ببناء مرسمه الخاص فى مسقط رأسه، ليطل منه على المدينة العزيزة على قلبه- على الرغم من رفض متحفها عرض لوحاته- وتحول المرسم اليوم إلى متحف صغير يحمل اسم «آتيليه سيزان» ويقع فى الشارع الذى يحمل اسمه أيضًا، وذلك بعد قيام الحكومة الفرنسية بإعادة ترميمه وتأهيله ليستعيد الرونق الذى كان عليه حين كان الفنان الكبير يرسم لوحاته فيه.
كان سيزان وفيًا لأمنياته، فحين كان يُكرر باستمرار أنه يُريد الموت وهو يرسم، فإن هذا ما حدث بالفعل فى يوم ٢٢ أكتوبر من عام ١٩٠٦، حيث توفى وهو يرسم فى العراء، بعد أن قدّم لوحات متعددة لا حصر لها.