الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الخوف والأمل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تتوه أشياء عظيمة فى الزحام، منذ ما يقرب من 30 عاما والزحام يعصف بالوجدان المصرى، كأن اتفاقا أبرم بين أعداء هذه الأمة لكى تسرق روحها، منذ غزو العراق للكويت وأنت هكذا، تخرج من فتنة وتدخل أخرى، أصحاب الصوت العالى حجتهم واهية ولكنهم مدعومون بجبروت السلطة التى يتغلب منطقها دائما على الجميع، الذين احتجوا على مجىء القوات الأمريكية إلى المنطقة صاروا أعداء، رغم أنهم لم يأكلوا على موائد صدام حسين الذى وقع فى الفخ، وليسوا على عداء مع بلد عزيز مثل الكويت، الذين ركبوا الموجة كانوا يعبرون عن وجهة النظر الأمريكية ببلاغة منقطعة النظير، حقوق إنسان ودكتاتورية وحريات وما إلى ذلك من الوصفات الجاهزة لتدمير أى بلد، كان معظم هؤلاء من اليساريين المتقاعدين الذين لم يعد بمقدورهم الرهان على الاتحاد السوفييتى الذى يترنح، أو من الناصريين الذين تقدموا فى العمر ويفكرون فى الترقى الوظيفى بعد أن أشاد مبارك بالزعيم الخالد ورفضه قبلها بشهور المساس بنسبة العمال والفلاحين فى البرلمان!، ما حدث فى عامى ١٩٩٠ و١٩٩١، هو الذى أحدث الشرخ الذى يتسع بين الناس، ولا أحد يسعى لعلاجه، «غار» صدام، واحتل العراق، وجلس الأمريكان بدباباتهم ورؤساء تحريرهم وكتاب رأيهم فى الصحف ووزرائهم الذين تعلموا عندهم ويحملون جواز سفرهم، بعد قليل ظهر مبارك الابن وصحبته الحلوة وأجهزوا على الوجدان، فى بلد فقير كبلدنا، تنشط الأفكار المتطرفة، وزارة ثقافة لا تشتغل فى الثقافة ووزارة أوقاف تركت الدعوة للسلفيين وذهبت إلى المصيف، وزارة إعلام تبرر وتبرر وتبرر، وزارة تربية وتعليم تحتاج «رباية» إلخ إلخ، وبعد هذه السنوات تجد من يتحسر على الماضى القريب الجميل، ويشتكى من غياب الرموز فى الثقافة والأدب، ويكتب مقالات عن زمن وردى عاشه هو شخصيا فى زمن مبارك، الآلية التى أنتجت الذين سمح لهم بمخاطبة وتشكيل الرأى العام، لا تعنيهم الثقافة، بل تخيفهم، هم هنا الآن لأنهم يروجون لحمايتك من مؤامرة ما تهددك وأنت تفكر كيف تدبر مصاريف مدرسة أولادك، تشعر بأن العالم كله يخطط فى غرفة ما للتخلص منك ومن تاريخك ومن حدودك!، ورغم هذا ولأنك فى مصر، توجد نهضة ثقافية غير مسبوقة شكلها الخوف والأمل والإحساس بقيمة هذا البلد تجتاح كل المجالات، فى الماضى كنت تشير إلى صوت أو صوتين من كل جيل فى الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلى، الآن تستطيع وأنت «ضميرك مستريح» أن تشير إلى عشرات يبدعون فى كل مجال، يختلفون عن الذين يلتقيهم عمرو أديب لإظهار البعد الثقافى فى نفسيته، ولن تحتفى بهم بالطبع قنوات رجال الأعمال وصحفهم، ولكن هؤلاء هم الذين يصنعون لمصر فى هذه اللحظة الفارغة من أى معنى ذاكرة وروحا، المبدعون المصريون فى هذه اللحظة يخوضون معارك الأمة بعيدا عن أجهزة الدولة، هم ضد الإرهاب لا شك، هم ضد التطبيع مع العدو الإسرائيلى، هم ضد الاستبداد، هم ضد الرأسمالية المتوحشة التى عصفت وتعصف بالدول الوطنية، وكلنا يذكر البدايات أيام تاتشر وريجان، أيام كانت شركة الأزياء الإيطالية بينتون رائدة فى التعبير عن العالم الجديد، وضعت إعلانات عملاقة فى كل مكان ـ حتى على كوبرى ٦ أكتوبرـ عليها صورة طفل أسود جائع فى لحظة احتضاره من مرض الإيدز، وزى عسكرى بوسنى ملطخ بالدم، ومساجين ينتظرون الإعدام، صدم إعلان قتلة بينتون ـ على حد تعبير نورينا هيرتس مؤلفة كتاب السيطرة الصامتة ـ الجميع، لم تبحث هذه الإعلانات فى أخلاقيات الحرب ولم تحاول أن تخفف من الفقر أو من تفشى الإيدز، كانت الغاية الوحيدة هى زيادة المبيعات، أصبحنا نعيش فى فقاعة بينتون، لأن الحكومات التى حاربت فى الماضى من أجل الأرض صارت تناضل الآن بشكل عام من أجل مؤشرات السوق، وغدت إحدى وظائفها إيجاد بيئة يمكن أن تزدهر فيها الشركات وتجتذبها، وأصبح دور الشعب توفير البنى التحتية التى تحتاج اليها هذه الشركات وبأقل تكلفة وحماية نظام حرية التجارة العالمية، رجال السياسة أصبحوا فى منزلة أدنى من رجال الأعمال، ودولة السياسة أصبحت دولة الشركات، وأصبحت الدولة تهتم بالمستهلك لا المواطن، لقد صارت الحكومة «حكومة شركات تديرها الشركات من أجل الشركات» كما قال الرئيس الأمريكى واد فورد هايس فى القرن التاسع عشر، تجاوزت رسائل الإعلانات فى الإعلام المصرى، رسالة بينتون ودخلت على المستهلك (المواطن سابقا) فى بيته، وامتهنت أناشيده الوطنية وأغنياته وأساطيره.