الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

توماس كون.. بنية الثورات العلمية

 توماس كون
توماس كون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما أحوجنا للعلم وفلسفة العلم في عصر أقل ما نوصف فيه بأننا لم نأت بعد، فالعالم من حولنا في تطور وتقدم مستمر بينما نحن ما زلنا قابعين داخل الخرافة والأساطير ومقاييس ورؤى لا تتناسب بحال مع ما حولنا من تقدم.
نحاول في هذه الإطلالة أن نقدم واحدا من أكثر فلاسفة العلم أهمية في القرن العشرين وما أكثرهم، هو توماس كون الذي يتوافق يوم غد الأربعاء 18 يوليو 1922 مع ذكرى مولده، وهو مفكر أمريكي أنتج بغزارة في تاريخ العلوم وفلسفة العلوم، كما أدخل إضافات وأفكارا مهمة جديدة في فلسفة العلم. 
ولد في سنسناتي، بولاية أوهايو، نال شهادته الجامعية في الفيزياء من جامعة هارفرد عام 1943، ثم الماجستير في 1946، ومن ثم درجة الدكتوراه في 1949.
درس منهج تاريخ العلوم للفترة من 1948 إلى 1956 بناء على رغبة رئيس جامعة هارفرد جيمس كونانت. بعد مغادرته لهارفرد، شغل كون منصبا تدريسيا في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، في قسمي الفلسفة والتاريخ، وحصل على درجة الأستاذية في تاريخ العلوم عام 1961. 
في عام 1964 انتقل إلى جامعة برنستون، وفي عام 1979 التحق بمعهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا MIT، وبقى هناك إلى 1991.
بدأ توماس كون فيزيائيا، وانتهى كفيلسوف. في العام 1962م، نشر كتابه "بنية الثورات العلمية" الذي نصبه بين أهم فلاسفة العلم المعاصرين، وقد أثار الكتاب جدلا واسعا، وأصبح حدثا فارقا في دراسة المعرفة العلمية من نواحيها التاريخية والفلسفية والاجتماعية والنفسية، بما أضافه من رؤية جديدة في موضوعه، حيث ملاحظته أن أمهات الكتب العلمية التي أسست للعلم الحديث غالبا ما تعطينا صورة مغلوطة عن تطور العلم، ذلك أنها قد كتبت بعد أن استقرت المناهج العلمية واكتملت، بينما هي لا تفصح عن الوضع ما قبل هذا الاستقرار. 
إن لجوءنا لهذه الكتب كمراجع لتأريخ العلم يجعلنا نتلقى صورة غير كاملة عن العلم، مفادها أن العلم عملية تطور تراكمية عن طريق تجاوز نقص المعلومات وخلط المفاهيم والخرافات. 
ويبين كون من خلال قراءة مختلفة لتاريخ العلم أن العلم يعمل من خلال ما يسميه النماذج الإرشادية، ويتطور من خلال الثورات على هذه النماذج الحاكمة.
يقول كون في كتابه ص 49: "وإذا لم تكن هذه المجموعة من المعتقدات (النظرية والمنهجية) قائمة بين حصاد الوقائع، يتعين إضافتها من الخارج، ربما عن طريق نظرة ميتافيزيقية سائدة، أو عن طريق علم آخر، أو عن طريق حدث شخصي أو تاريخي. ولا عجب إذن أنه في المراحل المبكرة لتطور أي علم، يكون للأشخاص المختلفين الذي يواجهون نفس المدى من الظواهر – دون أن تكون بالضرورة نفس الظواهر تحديدا – أوصاف وتفسيرات متباينة".
وهنا يلاحظ أن العلوم لا تولد ناضجةً، وإنما يبدأ كل علم بمرحلة من البحث العشوائي، والتي يتوافر فيها كم كبير من المشاهدات أو الوقائع "الخام"، ولكن لا يمكن لتلك الوقائع أن تؤدي لأي معنى ما لم يكن هناك رؤية ما "مجموعة من المعتقدات النظرية والمنهجية المتكاملة" تسمح بالاختيار والتقييم والنقد. في هذه المرحلة يمكننا أن نسمى هذا العلم بأنه علم غير ناضج. 
ومن خلال وجهة نظر كون نجد أن الظواهر نفسها تكون قابلة لأكثر من تفسير وأكثر من رؤية وفقا لنظرة كل تيار، تلك التي يستمدها من عناصر غير موضوعية، وتفرز تلك الرؤى مع تطورها مجموعة من المدارس المتباينة والمتنافسة فيما بينها.
ولأسباب تتعلق بقدرة كل مدرسة على استخدام رؤيتها للتأكيد على شيء مميز في مجموعة الوقائع التي تختارها وتقوم بتقييمها وتفسيرها، تتحول رؤية المدرسة الأكثر إنجازًا إلى أول نموذج إرشادي يهيمن على باقي الرؤى ويطغى عليها! وفي هذه المرحلة يسمى ذلك العلم علما عاديا.
كما قام هو نفسه بتعريف في ص 35 من كتابه "بنية الثورات العلمية"، حيث يقول: "إن العلم العادي هو النشاط الذي يرصد له العلماء جل وقتهم، ويقوم على افتراض أن المجتمع العلمي يعرف صورة العالم، ويتوقف القدر الأكبر من نجاح المشروع على رغبة هذا المجتمع العلمي في الدفاع عن هذا الافتراض، حتى لو كلفه كثيرا عند الضرورة. مثال ذلك أن العلم العادي غالبا ما يقمع الإبداعات الجديدة الأساسية، لأنها تدمر بالضرورة التزاماته واعتقاداته الراسخة!"
ويؤكد توماس كون على ان استمرار الأزمة مع عدم قدرة النموذج الإرشادي المهيمن على التغلب عليها يزعزع الثقة في النموذج الإرشادي نفسه، مما يعني ضرورة التخلي عن تلك النظرة التي نستمدها من النموذج الإرشادي إلى نظرة جديدة. 
وفي تلك الأثناء يصيب الحقل العلمي فوضى وعشوائية تشبه تلك التي كانت قبل ظهور أول نموذج إرشادي، أي أنه يكون لدينا عدة تفسيرات تستمد من نظرات بديلة، تتنافس فيما بينها كبديل للنموذج الإرشادي الفاشل القديم.
وعندما يثبت أحد تلك التفسيرات الجديدة قدرته على توليد رؤية كاملة قادرة على حل المشكلات التي كانت سببا في الأزمة السابقة – ولا يشترط أن تكون تلك الرؤية قادرة على حل كل المشكلات، بل يشترط فقط أن تكون قادرة على التعاطي مع المشكلات التي تسببت في الأزمة – من ثم يكون له الأفضلية على النموذج الإرشادي القديم وعلى كل المحاولات الأخرى لتوليد رؤية جديدة. وهذا ما يسميه (كون) بالتحول في النموذج الإرشادي.
وفي الأخير إن مفهوم الثورة العلمية الذي تبناه توماس كون يتضح معناه عند مقابلته لمفهوم التراكم، فالتحول هنا حصل بشكل ثوري، أي بشكل إحلال التفسير الجديد محل القديم، وبتلك الطريقة وحدها يتطور العلم. 
وليس بشكل تدريجي قطعة قطعة عن طريق رفض المشاهدات الشاذة واحدة واحدة، إذ إن هذا الشكل لو فرضنا حدوثه فلن يقود إلى أي معنى، بل قد يعود بالعلم إلى مرحلة ما قبل النضوج، وهي مرحلة نشوء العلم لا مرحلة عمله.
ومن هنا تقودنا رؤية كون إلى تصور جديد عن العلم، ومن ثم عن العالم، فهو ليس شخصا ينتظر من تجاربه أن تفاجئه بنتائج غير متوقعة ليحقق إنجازا علميا، بل هو يجري التجارب التي يمكنه أن يتنبأ بنتائجها مسبقا. 
والحقيقة أن النتيجة غير المتوقعة هي الأكثر إرباكا للعالم، إذ تعني أن عطبا ما بالطريقة التي يعمل بها، أو بالنظرية التي يعمل على أساسها.