الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

استراحة العذاب والأمل.. مع أم الشهيد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مدت يدها المجهدة إلى حقيبة صغيرة فأخرجت منها كيس الدواء، ومن الكيس أخرجت (سرنجة)، وبأطراف أصابعها شمرت عن ساعدها الأيسر لتحقنه بالأنسولين، ثم بادلتنى ألم الفرجة بابتسامة، وعلى استحياء.. وضعت فى فمها قطعة من البسكويت، ظلت تلوكها يمينًا ويسارًا، وكأن معدتها تأبى استقبالها، وكأننى مصر على الوجع بمتابعتها.
أفسحت مكانًا بجوارها، ونادتنى بعينيها للجلوس، شممت رائحة الصبر فى ملابسها، وفى قسمات وجهها رأيت التحدي، أمسكت بهاتفها وأنارت شاشته، فملأت الابتسامة وجهها حتى ظهرت نواجزها، شاركتها النظر بطرف عيني، فتفهمت فضولي، اقتربت بالهاتف مني، ثم سألتني: «شايف؟ كان راجل بجد، الجميع كان يحبه، يوم زفافه كان آلاف الناس موجودين. سألتها: ومتى كان زفافه؟ من ثلاث سنوات، يوم ٦ يناير، قبلته كثيرًا وهو مبتسم، ثم أخذوه منى ليزفوه إلى الجنة مثل زملائه الشهداء، والله يا ابنى كان معايا امبارح، ورغم إن القنبلة انفجرت فيه أثناء تفكيكه لها فبترت يديه، إلا أنه زارنى أمس ولم ألحظ بترًا ولا غضبًا ولا قلقًا، كان فى غاية السعادة، وسألته: أنت عايش يا ضياء؟ فقال طبعًا يا أمي، أنا جنبك وحواليكِ. عارف يا ابنى ضياء زارنى امبارح ليه؟ لأنى كنت زعلانة من أنه زار ناس كتير وطلب منهم يطمنونى عليه وإنه كويس، فقلت فى نفسي: كده يا ضياء.. تزور الناس كلها وتستخسر فيا الزيارة؟ والله يا ابنى لقيت الباب بينفتح وضياء داخل وجرى عليا وأخدنى بالحضن، ما شاء الله.. وشه مليان نور، ولما سألت عن تفسير الرؤيا.. قالولى ابنك فى الجنة. ما هى الجنة للشهداء، وابنى ضحى بحياته علشان ناس كتير تعيش، قنبلة كانت فى شارع الهرم، لو انفجرت كانت هتكون مأساة، بس كان فيه راجل واقف زى الأسد اسمه الرائد ضياء فتحي، قال أموت أنا فداء للناس، والله يا ابنى ضياء كان حاسس إنه شهيد، تخيل.. كلمنى قبل ما يموت بدقايق، وأول مرة قلبى يحس بالخوف عليه.
طيب.. سيبك من ضياء شوية وشوف دي، عارف دى صورة مين؟ بنت ضياء، كان بيحبها زى عينيه، بقى عندها أربع سنين، كبرت، كانت معايا من يومين، أخدتها فى حضني، بحس أنها حتة من ابني، شايف: وأنا بتصور معاها بصيت لقيتها عاملة بصوابعها علامة النصر، فيها شبه كبير من أبوها، صح؟
أنا شايلة بعض ملابسه معايا، شوف مثلًا.. ده كيس المخدة اللى كان بينام عليها، زمايله ربنا يحميهم جابوها لحد عندي، كان عرقان وهو نايم عليها، رفضت أغسلها، علشان ريحة عرقه تفضل فيها، بحب أشمها لما بحس بالتعب، وكمان الجاكيت اللى كان بيلبسه، رفضت أغسله. من كام يوم دخلت غرفة نومه وعشت مع حاجاته، لبست الجاكيت بتاعه، والله يا ابنى حسيت بإيديه وهو بيحضنى لدرجة إنى خفت من نفسي، أنا بفضل أتكلم معاه بالساعات، تخيل.. إنى بحس إنه بيرد عليا، أنا عارفة أنه فى مكان أفضل، بس الفراق صعب، ربنا ما يكتبه على أى أم».
هذا حوار تقاسمته مع الحاجة (نجاة) والدة الشهيد (ضياء فتحي)، هى بالكلام المفعم بالشوق والوجد والتحدي، وأنا بالصمت الواجب التزامه فى حرم عشق الشهادة من أجل الوطن، حوار جرنى إليه زملائى فى برنامج (نهاية الأسبوع) بقناة «دريم»، حيث سبقت فقرتى عن إنجازات الرئيس السيسى فى السنوات الأربع الماضية فقرة أم الشهيد، ولما انتهت الفقرة دعيت لتناول فنجان قهوة فى استراحة القناة مع الحاجة (نجاة)، ولم تكن الإستراحة سوى عذاب عشته مع من تتعذب بألم الفراق، ولم تكن القهوة سوى جرعة من وطنية أتمنى أن يتذوقها من جعلوا من الوطن استراحة، ومن هروبهم بأموالهم وأبنائهم وقت الشدائد ضرورة مباحة.