رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حرية الاستواء وحرية الإرادة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ميَّز «ديكارت» تمييزًا واضحًا بين نوعين من الحرية: حرية تقوم على تحديد الإرادة (وهى حرية الاستواء)، أى تلك الحالة التى تجد الإرادة نفسها بإزائها حينما لا يكون لديها من المعرفة الكافية عما هو حق أو ما هو خير، ما يدفعها إلى اختيار هذا أو ذاك. يقول: «لو كنت أعرف دائمًا على وجه الوضوح ما هو حق وما هو خير لما كنت أجد عناء فى تعيين أى رأى ينبغى أن أرى وأى أمر ينبغى أن أختار». أما النوع الثانى من الحرية، فيقوم على تحديد الإرادة «أى الإرادة التى توجه الأفكار فيكون صنيعها حسنًا إذا اهتدت بأفكار واضحة متميزة، ويكون صنيعها سيئًا إذا استرشدت بأفكار غامضة مبهمة».
وهذان النوعان من الحرية يختلفان درجة وقيمة، سواء بالنسبة إلى الإنسان أو بالنسبة إلى الله. فعند الموجود اللانهائى (الله) نجد أن الحرية تقوم على عدم تحديد الإرادة، لأن الله لا يمكن أن يخضع لأية بواعث خارجية، ما دامت الحقائق الأبدية هى نفسها متوقفة عليه. لذلك فالحرية الإلهية هى حرية استواء أو عدم اكتراث، وما يُعَد أدنى درجة من درجات الحرية عند الإنسان هو بعينه جوهر الحرية الإلهية.
على أن «ديكارت» لم يأخذ بنظرية القائلين بـ«حرية الاستواء» أو «عدم الاكتراث»، لأنه أبى أن ينظر إلى الحرية على أنها مجرد اختيار تعسفى بين فعلين مختلفين دون أدنى مبرر. وهذا ما ذهب إليه «ليبنتز» فى نقده لنظرية الاستواء أو القائلين بأن الإرادة مستقلة فى فعلها عن سائر الدوافع أو البواعث. فالإرادة - فى نظر أصحاب هذا الرأى - أقرب ما تكون إلى ميزان ترجح فيه بالضرورة الكفة الثقيلة، والدافع القوى هو ذلك الثقل الكبير الذى لولاه لظلت الكفتان فى تذبذب مستمر دون أن ترجح واحدة منهما. حقًا إن القائلين بحرية الاستواء يتوهمون أن المرء قد يجد نفسه أحيانًا فى موقف «حمار بوريدان» Ass Buridan’s الذى لولا تمتعه بحرية عدم الاكتراث لمات جوعًا دون أن يجد مبررًا لاختيار أحد الحلين (أى الاختيار بين شرب الماء وأكل الشعير) ولكن الواقع أن الإنسان لا يعرف مثل هذه الحالة المطلقة من الاستواء، بل الصحيح أن حرية عدم المبالاة هى تقرير لحرية مطلقة بمقتضاها لن نكون شيئًا ولن نريد شيئًا، ولن نفعل شيئًا.
ومن هنا، فالحرية - فيما يرى «ليبنتز» - لا يمكن أن تنحصر فى انعدام الدوافع، كما أنها لا تعمل فى ظل حالة الاستواء. يقول: «كلما كان الإنسان حكيمًا كان فعله أكثر تحديدًا وأكثر جبرية، إذ إنه يأتى متسقًا مع مجموعة من الدوافع والأسباب، ومن ثمَّ فإن عدم الاكتراث لا ينبع إلا من الجهل بالأسباب والدوافع». إذن، فالإرادة المستقلة ما هى إلا قوة سحرية لا وجود لها، هى أقرب ما تكون إلى قوى محضة أو كيفيات غيبية. أما الحرية الحقيقية فهى تلك التى تعمل فى ظل مجموعة من الدوافع، وهذه الدوافع ليست عائقًا أمام حرية الإرادة.
والترابط الموجود بين الدوافع -على هيئة ارتباط العلة بالمعلول- لا يؤدى، من وجهة نظر «ليبنتز»، إلى نوع من الجبرية المطلقة؛ وإنما هو إطار للحرية يتيح للإنسان معرفة أسباب أفعاله، وهذه الأسباب هى دوافع الإنسان نفسه؛ وعندما يعمل وفقًا لها، فإنما يعمل وفقًا لنفسه ولإرادته الداخلية. إذن، ليست حرية الإرادة إلا توقف الإنسان على ذاته واستناده إلى نفسه، شريطة أن تكون تلك الحرية تلقائية ووليدة تأمل أو تدبر عقلى.