رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

القيم.. حقائق دينية أم حاجات اجتماعية؟ "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أول خلاف يثار حول مفهوم «القيمة» هو الخلاف المتعلق بمركز «القيم» فى العالم، أى الخلاف المتعلق بطبيعة القيم بصفة عامة. فقد تساءل الفلاسفة: هل للقيم وجود موضوعى مطلق؟ وهل هناك «قيم» بالمعنى العام، أم هى دائمًا نسبية تبعًا لرضا فرد معين أو تفضيله؟ هل هناك أحكام تقويمية شاملة تسرى على كل البشر فى كل مكان؟ وهل هناك شيء ينعقد إجماع الناس على وصفه ب«القيم» بغض النظر عن زمانهم أو مكانهم أو جنسهم أو حضارتهم؟ أم أن لكل شخص– فى نهاية الأمر– نظامًا فرديًا من القيم؟ بعبارة أخرى، هل القيم خاصية تنتمى إلى الأشياء ذاتها؟ أم أننا نحن الذين نضفى هذه القيم على الأشياء؟ أي، هل هى موضوعية أم ذاتية؟ مطلقة أم نسبية؟ 
يرى أنصار النظرية الموضوعية للقيمة أن «القيم» كامنة فى طبيعة الأشياء ذاتها، لا تختلف من فرد لآخر، ولا من عصر إلى عصر، ولا من مكان إلى مكان؛ لكن الذى يختلف فحسب هم الأفراد والجماعات. فقد تمنعهم البيئة أو التربية أو الظروف المحيطة بهم عن إدراك هذه الخصائص التى نسميها بالقيم، بحيث تجد مجتمعًا من المجتمعات أو فردًا من الأفراد لا يرى السلوك الأمين أو الصادق «خيرًا» فى ذاته؛ وتلك الحالات إن وُجدت فهى لا تدحض الحقيقة التى تقول، إن «الخيرية» كامنة فى طبيعة السلوك الأخلاقى نفسه. وهكذا يكون الحكم التقويمى فى أساسه وصفًا لطبيعة الأشياء، أى للواقع ذاته. ويمكن أن نجد نموذجًا للتصور الموضوعى للقيم لدى الفيلسوف الأمريكى «جوزيا رويس» Royce (١٨٥٥ – ١٩١٦) فى فلسفته عن «الولاء» Philosophy of Loyalty، حيث أعطى لكل مظهر من مظاهر الولاء وجودًا موضوعيًا قيميًا، وقد رأى أن الولاء فى ذاته «قيمة عليا»، بل خيرًا أسمى، بغض النظر عن القضية التى تتخذها موضعًا لولائك؛ فينبغى أن نحدد ما يكون جديرًا بولاء الإنسان، والشيء الذى يستحق من الإنسان ولاءه ينبغى أن يكون شيئًا يحتفظ له بذاتيته المستقلة. يقول: «إذا وجدتُ قضية معينة، وحازت إعجابي، وجذبتنى إليها، فوهبتُ لها نفسى وخدمتها، فإنى بذلك أكون قد حققت لنفسى– إذا ما اكتمل ولائى– الخير الأقصى.... ولا يعنى ولائى خيرى فقط؛ وإنما خير الآخرين أيضًا، فأنا لا أحصل على الخير، وإنما أمنحه للآخرين.. وهكذا لا يقتصر الخير على الفرد فحسب، وإنما يشمل الآخرين طالما يوجد نوع الولاء للولاء، أى يوجد نوع من التدعيم لولاء الآخرين، إذن لا تُعد القضية خيرة، إلا إذا كانت أساسًا عبارة عن ولاء للولاء، وتُوصف بأنها قضية شريرة طالما أنها تحطم ولاء الآخرين».
وقد أكد أنصار النظرية الذاتية فى القيمة، وجود تباين فى الأحكام التقويمية، وأن هذا التباين يزداد عمقًا وفقًا لاختلاف الأشخاص والعصور؛ ذلك لأن كل قيمة تبدو صادرة– من وجهة النظر النفسية– عن الشعور بالرضا أو الإشباع Satisfaction، فنحن نصف أى شيء يُرضى أو يُشبع حاجة من حاجاتنا أو يساعد على تحقيق مصلحة لنا، بأنه «خير» أو «قّيم» أو «مرغوب» فيه. وأعلى الأشياء قيمة هى تلك التى تشبع حاجاتنا على أفضل نحو، أو تُرضى حاجة من أقوى حاجاتنا، من هذا المنطلق، فإن ميولنا ورغباتنا تشبه لوحة حساسة تكشف لنا عن القيم التى لا وجود لها مطلقًا خارج هذه اللوحة؛ ويترتب على ذلك، أنه كلما فقد الشيء أو الموقف قدرته على إرضائنا، انعدمت قيمته أيضًا. كل هذه الأمور يتخذ منها صاحب النظرة الذاتية شواهد على أن القيمة لا توجد إلا فى أذهاننا، فالحكم التقويمى ليس إيضاحًا لصفات كامنة فى الأشياء– تجعلها خيرة أو مرغوبًا فيها لذاتها– وإنما هو مجرد تعبير عن تفضيل. وهذا التفضيل هو دائمًا تفضيل شخصي، هو إعلان عما أحبه أنا ذاتى وأجده خيرًا، وعما يُرضى رغبتى أو مصلحتى الخاصة؛ بل إن أحكامنا تتغير دائمًا حتى فى مجال التفضيل الشخصى هذا. فلا حاجة– مثلًا- بالمرء إلى أن يكون متشائمًا ساخرًا لكى يقول إن كل أحكامنا التقويمية لا تعبر فقط عن تفضيل شخصي، وإنما تمثل تفضيلًا مرهونًا باللحظة وحدها، ومعرضًا للتغير دون سابق إنذار. ومن هنا، فإن أى خير هو بالضرورة تجربة لفرد ما، وعندما تتفق مجموعة من الأشخاص على قيمة أية تجربة، فلن تكون لدينا إلا مجموعة من التجارب الفردية التى يُحكم عليها بأنها «خير». وهكذا، فإن صاحب النظرة الذاتية لا يُعرِّف القيمة بأنها كامنة فى الأشياء أو المواقف، وإنما يُعرِّفها بأنها «كل ما يشبع رغبة أو حاجة أو مصلحة». ويعبر «جون ستيوارت مل» J.S.Mill (١٨٠٦ – ١٨٧٣) عن هذا الرأى بتأكيده أن السؤال عن «الخير» هو سؤال بخصوص الأشياء المرغوبة، ويضيف أن الدليل الوحيد الممكن على أن الشيء خير هو أن الناس بالفعل ترغب فيه، والسعادة هى الشيء الوحيد المرغوب فيه لذاته بصرف النظر عما يُحتمل أن ينجم عنه من نتائج وآثار. 
وقد رأى بعض الفلاسفة قصور الرأيين السابقين حول أحكام القيمة، ذلك لأنهم وضعوا المشكلة وضعًا خاطئًا حين تساءلوا: هل القيم موضوعية أم ذاتية؟ ثم افترضوا أنها لابد أن تكون إما ذاتية خالصة أو موضوعية خالصة. إذ إن هناك وجهة نظر أوسع وأرحب تضم الرأيين معًا، فلا تقتصر خيرية الأفعال مثلاُ على الأفعال وحدها، ولا تجعلها قاصرة على الإنسان وحده؛ فلا شك أنها تحمل الخاصيتين معًا. فالجوهرة لا تكمن قيمتها فى ذاتها، إذ لابد أن تكون الجوهرة قيمة بالنسبة لشخص ما، غير أن خصائصها من ناحية أخرى هى خصائص طبيعية فيها، فنحن لم نخلقها، أعنى أننا لسنا نحن الذين جعلناها لامعة ذات بريق. وقل مثل ذلك بالنسبة للسلوك البشرى، فنحن نختار سلوكًا معينًا يتصف بصفات خاصة ونصفه ب«الأمانة» أو «الصدق» أو «الوفاء»، أو بأنه «خير» بصفة عامة. لكن هذه الخصائص ذاتها هى التى تتحكم فى عملية الاختيار، فإذا كان الاختيار يمثل العامل الذاتي، فإن خصائص العقل نفسه تمثل العامل الموضوعى ومنهما معًا يكون السلوك الأخلاقي.