الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإرهاب وتلوث الهوية المصرية "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وإذا ما تأنينا في تحليل ما سبق سوف نهتدي إلى عبقرية الشيخ "حسن العطار" (1766-1835)م وتلميذه "رفاعة الطهطاوي" (1801-1873)م ثم الأستاذ الإمام "محمد عبده" (1849-1905)م ومدرسته وتلاميذه، أولئك الذين حافظوا على الهوية المصرية وجددوا مشخصاتها وأزالوا التلوث والعطب الذي أصاب متغيراتها بسبب الجمود والجهل والفقر والاستبداد والغزو الخارجي، وبدأوا برد الدين إلى سذاجته الأولى وذلك لإبراز وسطية العقيدة وصلاحية الأصول الشرعية للتجديد والاجتهاد دومًا، ورغبوا عن كل مواطن الجمود والتشدد والتعصب والجموح والعنف في تطبيق قاعدة الإصلاح (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وتسامحوا مع الجاهلين والمندفعين والمتشيعين للغرب بل والملحدين أيضا، وجادلوهم بالتي هي أحسن أي الحجة والبرهان. ذلك فضلا عن وعيهم بطبائع الناس وعوائدهم المولدة من الموروث والتقاليد الاجتماعية العتيقة: فغربلوها برفق ونقوها من الخرافة والشعوذة والتمسوا فيها قوة الحس الديني لدى الجمهور فأبقوا على التصوف العملي وما فيه من حب وعشق لله وتقرب من أهل البيت وحاسة خلقية تنقي السرائر وتقوم السلوك وتوحد بين الإلزام والالتزام، وخلصوه من كل مظاهر البدع والجهالة والدجل –ولا نكاد نجد أحد من شيوخ الأزهر إلا وفي نهاية اسمه لقب يعبر عن الطريقة الصوفية التي ينتمي إليها (الوفائية أو الخلوتية)-، كما رغبوا عن الجامدين والمتعصبين والمتشددين في الدين. فقد حال الأزهر بفهمه الصحيح للمقاصد الشرعية وفقه المألات وعقيدته الأشعرية -التي لا ترى أي غضاضة أو كراهة في جمعها بين التوحيد والتصوف- بين الثقافة المصرية وانتشار الدعوة الوهابية، بل قام بنقدها وتبيان ما فيها من تعصب وتنطع في الدين. 
وكذا حارب الأزهريون المستنيرون كل الاتجاهات الهدامة والجانحة عن الأصول الشرعية مثل البابية والبهائية والماسونية والمهدية وغلاة الشيعة الباطنية والجمعيات التغريبية والإلحادية، وقد اتخذوا من المنقول والمعقول أسلحتهم للزود عن هوية مصر الوسطية، وانتصروا كذلك لحق اليهود والمسيحيين في المواطنة الكاملة مادام حب مصر هو ديدنهم والعمل من أجل صلاحها هو واجبهم المقدس. أضف إلى ذلك كله إنصافهم للمرأة وتأكيدهم على أن دورها في المجتمع لا ينبغي حصره في امتاع الرجل وإنجاب الأولاد بل إن تعليمها وتثقيفها وتحطيم أسوار العزلة التي حجبتها عن العمل ما هو إلا حق كفله الشرع لها ولا يحرمها منه عادات وتقاليد بائدة، وبينوا أن عفاف المرأة والتزامها الخلقي لن يتحقق بارتداء البرقع أو النقاب فالتحشم في المظهر لا يغني أبدًا عن سلامة الجوهر والمخبر وأن في العزلة مذلة وأن علاج الاختلاط في معترك الحياة هو الحياء والانضباط. 
وقد عكفت هذه الصفوة على تقويم صحافة الرأي وتهذيب صحافة الخبر وترشيد الآداب والفنون واتخاذ منها آليات لتربية الرأي العام وتوعيته وحثه على النهوض والعمل واكتساب الخبرات من الأغيار. 
ولا غرو في أن غيبة أمراء المنابر من المصلحين والمجتهدين –ولاسيما بعد وفاة الإمام محمد عبده- قد فتح الباب على مصرعيه للمتعالمين وأفسح الطريق لظهور بعض الجماعات التي اتخذت من الدعوى وإصلاح المجتمع ستارًا ورداءً، وذلك بعون من اتجاهين متضادين لا تنسيق بينهما في الظاهر، أولهما الشيخ محمد رشيد رضا، الذي جلس على كرسي التجديد والزود عن صحيح الدين خلفًا لأستاذه الإمام محمد عبده –غير أنه مال إلى اعتناق الفكر الوهابي وراح يروج له على صفحات المنار ليسد عوذه والإنفاق على مجلته-، ومحب الدين الخطيب الذي رفع شعار السير على سنة السلف سبيلا لتقويم الفوضى الأخلاقية –مؤسسًا أولى خلايا الجمعيات السلفية- وكانت هذه الخطوة الأعراض الأولى لتلوث الخطاب الديني المصري؛ وثانيهما دوائر الاستشراق السياسي ونفر من رجالات المخابرات الإنجليزية والأمريكية الذين دأبوا على وضع الخطط لتزييف الهوية المصرية وإضعافها (إضعاف شيوخ الأزهر وإهمال الكتاتيب والمعاهد الدينية من جهة، ومد يد العون والدعم الكامل للجمعيات الأهلية التي تلعب في الشارع السياسي في الظاهر، وتكيد للإسلام في الباطن بترويجها لثقافة الإلحاد والعلمانية والفلسفات الوضعية والنظريات العلمية ونشر العقيدة الكاثوليكية والبروتستانتية لإضعاف الكنيسة الأرثوذكسية –تلك التي لم يفلحوا في تحريضها على المسلمين-، وتشجيع الشباب على تقليد الغرب وانتحال عوائده عوضًا عن لغته الفصحى وآدابه وتقاليده التليدة من جهة أخرى). وقد لعبت هذه الإجراءات الدور الرئيس في تشتت ولاءات قادة الرأي وانصراف عدد غير قليل منهم عن الرسالة الحقيقية، أعني الحفاظ على الهوية المصرية ومشخصاتها.
وقد سجلت صحافة الرأي في الربع الأول من القرن العشرين -ولاسيما عقب ظهور الصحف الحزبية- عشرات المساجلات بين المثقفين، حول ثوابت الثقافة المصرية وثوابتها المستمدة من موروثاتها الحضرية وعقائدها الدينية وكيفية تجديدها، وتحديث متغيراتها عن طريق استيعابها للفكر الوافد من الأغيار، وقد تعرضت بطبيعة الحال لقضية الهوية المصرية (ولاية عثمانية إحدى دول الرابطة الإسلامية، أم وحدة اللسان العربي). وقد رفع معظم الليبراليين شعار "مصر للمصريين" باعتباره حجر الأساس للهوية المصرية، وتأثر به شبيبة المثقفين في المدن ونقلوه للشارع والمقاهي في القاهرة والإسكندرية وطنطا ومدن القناة، وعدد غير قليل من طلبة الأزهر الذين نقلوا بدورهم جانبا من المساجلات حول هذه القضية إلى الريف الذي كان يأن من استبداد الباشوات الأتراك والبكوات الخواجات أصحاب الأبعديات.