السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

البعد السياسي للمصالحة الوطنية في الجزائر ( 2 )

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إضافةً إلى دعم المصالحة الوطنية للاستقرار الاجتماعي والسلم العام في المجتمع الجزائري، كما تناولها مقالنا السابق، والذي أكدنا فيه أن المصالحة الجزائرية تمت بشروط الدولة وليس بشروط الإرهابيين. نتطرق في هذه السطور إلى البعد السياسي للمصالحة الوطنية في الجزائر، باعتبارها الحدث الأهم، والذي لا ينساه الأشقاء الجزائريون.
فقد كشفت تلك المصالحة عن حدود التفاعل بين النظام السياسي للرئيس بوتفليقة والحركات الإسلامية بعد الانتهاء من فترة تطبيق ميثاق السلم والمصالحة الوطنية. وفي هذا الصدد، سعى النظام السياسي الجزائري إلى أن يدفع بالائتلاف الحكومي الذي كان داعمًا لبوتفليقة في انتخاباته الأولى- 1999-، والذي تشكل من جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي ( حزبي الرئيس )، وحركة مجتمع السلم (الجزء الأكبر من الإخوان المسلمين في الجزائر) وحركة النهضة الإسلامية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ( يسار )- إلى تحالف سياسي بدافع بناء القوى الوطنية الداعمة للاستقرار الداخلي، حيث رأت هذه القوى المتحالفة أن الديمقراطية تحتاج إلى أمن سياسي يعترف فيه المتنافسون بعضهم ببعض.
وعلى هذا الأساس، شهدت الجزائر ميلاد هذا التحالف السياسي وليد نجاحات المصالحة الوطنية، الذي كان يستهدف ترقية العمل المشترك من أجل تعزيز استقرار الجزائر، ومكافحة الإرهاب وعدم الخلط بينه وبين الإسلام وبينه.
لقد جسد التحالف الرئاسي في الانتخابات الرئاسية ( الثانية للرئيس بوتفليقة ) التي أجريت في فبراير 2004، شكل الحراك السياسي بعد توقف عمليات العنف وتطبيق ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، الذي اعتمد على فك الاشتباك بين القوى المختلفة في الجزائر، وتكاتف الجميع حول برنامج رئاسي واحد، هو برنامج الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.
فقد التقت الأحزاب السياسية حول مسعى الوئام والمصالحة الوطنية على نقطة محورية تعتبر المصالحة الوطنية مطلبًا شعبيًّا، وأن الجهات التي تعترض على هذا الهدف قليلة، وهي لا تمثل شيئًا أمام قوة صلاحيات الرئيس الدستورية؛ فمن جهتها، رأت حركة مجتمع السلم ( إخوان الجزائر ) في مسعى المصالحة الوطنية مطلبًا جماهيريًّا صوَّت له الشعب الجزائري، وقال الناطق الرسمي للحركة ( وقت ذلك ) عبد المجيد مناصرة، الذي انقلبت عليه الحركة بعد 2011 بسبب علاقته بالنظام: "إن الحزب لا يركز كثيرًا على من يعارض المسعى بقدر ما يضع الرئيس في مقام المسئول عن تطبيق المصالحة؛ وذلك لأن له كامل الصلاحيات لإنجاز ذلك ما دام منتخبًا ومختارًا من قبل الشعب".
وبجانب مؤيدي المصالحة الوطنية من أحزاب الإسلام السياسي، كانت هناك أطراف أخرى منها، ممثلة في بعض الأحزاب السياسية وبعض الشخصيات الوطنية ذات الوزن السياسي، تحفظت على مشروع المصالحة.
فقد جاء حينذاك على لسان "الشيخ عباس مدني" زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ ( المتسببة في العشرية الحمراء في الجزائر ) أن "المصالحة الوطنية هي مصالحة مشروعة عندما تنطلق من منطلقات واقعية تخدم الشعب الجزائري وتبدأ بتحرير أبنائه المتابعين في قضايا سياسية كانت تعالج بالطرق الأمنية"، "والمصالحة أولًا أن نضع حدًّا للخطأ. وأعتقد أن أول خطوة هي تحرير المساجين، وإلغاء كل المظالم بعفو شامل، بمفهومه القانوني والسياسي، وأؤكد: بالمفهوم القانوني والسياسي والأخلاقي". وهذه الرؤية كانت سببا كبيرا في الخلاف بين هؤلاء والنظام وقتها، بل أن ذلك أدى إلى تعثر في إنجاز الأزمة.
بعد صدور قانون السلم والمصالحة الوطنية، تناقضت مواقف الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فأرسل السيد علي بلحاج نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ، رسالة بعث بها وقتها إلى السيد عبدالعزيز بوتفليقة، يرفع من خلالها تظلمه بشأن منع الهيئة التنفيذية مزاولة مناضلي الجبهة الإسلامية من حقوقهم السياسية والمدنية. ويقول بلحاج: "إن تلك الإرادة السياسية الظالمة أصبحت مقننة في ميثاق الغش والمماكرة، وإن المادة 26 من ميثاق المصالحة والسلم فاقدة للشرعية، فهي مصادرة للحريات العامة، ومصادرة لحق المشاركة السياسية، ومخالفة لمواد الدستور، ومصادمة لليمين الدستوري، ومصادمة لبعض مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا بد من المسارعة إلى إيجاد حلول سياسية حقيقية تقتلع جذور الأزمة من أصولها".
كما قامت قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ وقيادات ذراعها المسلحة الجيش الإسلامي في الخارج، بتوقيع بيان يرفض مراسم المصالحة الوطنية، على أساس أنه أُفرغت من محتواها، وصدر البيان الذي تم التوقيع عليه كل من السيد أنور هدام وأحمد الزاوي ومزروق خنشالي ورشيد الشريف. وفي مقابل هذا التيار المتشدد من قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ من المصالحة الوطنية باعتبارها استراتيجية غير مكتملة، اعتبر مدني مزراق قائد الجيش الإسلامي، الذي عُرف أيضًا بقائد التيار الإصلاحي داخل المجموعات المتوقفة عن العنف، أن قانون المصالحة الوطنية شمل الأزمة بكل أبعادها الأمنية والسياسية، وأن الجزائر في ظل المصالحة تعرف تحسنًا كبيرًا حتى في مجالات حرية التعبير والمشاركة السياسية، وأن مشروع المجتمع القائم على المبادئ التي قررها الأجداد هو الذي يجب التصالح معه.
اختلف مواقف قيادات التيارات التي واجهت الدولة الجزائرية بالسلاح من مضمون المصالحة، وآليات تنفيذها، فمنهم من حاول إفشالها، لأنهم كانوا حريصين على استمرار العنف وضرب الاستقرار، ومنهم من قبلوا بشروط الدولة وسلموا سلاحهم وتركوا الجبال، ووافقوا على العقوبات المقررة في قانون المصالحة. بالتالي يمكن القول أنه، رغم الأحجار التي رميت في سبيل إفشال المصالحة ( بعض قيادات جبهة الإنقاذ، والجماعات التي حملت السلاح في وجه الدولة لمساندتهم)، إلا أن صلابة الدولة الجزائرية، واصرارها على اتمام المصالحة، ودعم الاستقرار بشروطها كان هو الغالب.
يبقى أن نشير، وما سنكرره في كتاباتنا، هو أن ظروف الجزائر، والسياق الإقليمي والدولي، وكذلك الدول الداعمة للإرهاب، يختلف تماما عن الواقع الراهن، وفي كل شيء، وهو يشير إلى استحالة تطبيق مثل هذه المصالحات مع أى من حمل السلاح في وجه أي دولة، وتلقي تمويلا من دول أخرى، وتراهن تلك الدول على تنشيط عنفه مرة ثانية، في سبيل ضرب استقرار الشعوب. ما بعد تلك المصالحة وتطوراتها، وآليات الدمج في النظام السياسي حتى 2011 تناولها في مقالات تالية.