الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

باسكال صوما تكتب: صباح الخير يا سبتمبر

باسكال صوما
باسكال صوما
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مرةً حلمت بأني ذهبت إلى المدرسة حافية القدمين. في مرة أخرى حلمت بأني استيقظت متأخرة، وركضت إلى المدرسة بثياب النوم. في المرة الأخيرة حلمت بأن سبتمبر أتى ولم يشترِ لي أحدٌ كتباً ولا حذاءً أسود جديداً. ينتهي الحلم بشجارٍ دراميتيكي مع أمي.
في مدرسة الراهبات كان مستحيلٌ أن نغيّر "ستيل" الحذاء الأسود والجوربين الأبيضين والبنطال الكحلي القماش (الجينز ممنوع). لا أعرف كيف حصل أن تمّ تنسيق البنطال الكحلي مع الحذاء الأسود. ثمّ أتى القميص الرماديّ في السنوات الثانوية ليكمّل المجموعة. كنت لا أحبّ شكلي في ثياب المدرسة. كنت أبدو سمينة ومربّعة، وتقريباً من دون ملامح. كانت دائماً كبيرة "مبهبطة" عليّ، وكنتُ أقصر من جميع أصدقائي. كان دائماً مكاني في أوّل الصف الطويل. لكنني الحمد لله لم أتعقّد من الأمر. مع الوقت صرت أحبّ صغر جسمي، نحافته، خفّته، طواعيته، سهولة تنقّله... 
خرجت من مدرسة الراهبات بتناقضات كثيرة. حقدت قليلاً ثمّ صرت أحنّ. صار سبتمبر يذبحني. يراودني الحلم اللعين في كل سبتمبر بأن المدرسة انطلقت من دوني، لم يشتروا لي كتباً ولا دفاتر. وحين أصحو، تراني أتفقّد جسمي جيداً. حسناً هذا شعري المصبوغ، هذه أظافري الطويلة، هذا القليل من المكياج الذي بقي على وجهي من سهرة أمس. "حسناً هذا جسد امرأة. وهذا مطمئن. الحمد لله". 
أريد أن أتحدّث عن مدرستي قليلاً. كتبت كثيراً عن أمي والحي والأولاد. لم أكتب ما يكفي وما يشفي عن مدرستي. مدرستي كانت قريبة جداً من بيتنا. لا أعرف إن كان أبي قد اختار هذه البقعة تحديداً خوفاً علينا من طول الطريق. لكن أنا شخصياً كنت أتمنى أن أصعد في "باص" وأنتظره وينتظرني ككل الأولاد. لكن الأولاد بدورهم كانوا يغارون مني، لأني لا أتكبّد عناء المسافات. عدا عن أن بيتنا كان وما زال جميلاً وغريباً. أحسّه يزداد جمالاً مع الوقت. ربما تصبح الأشياء التي نحبّها أحلى. لا أدري.
لم يكن لديّ أصدقاءٌ كثرٌ في المدرسة. حتى القلّة لم يكونوا بمعظمهم أصدقاء عمر. خرجت من المدرسة بلا أصدقاء تقريباً. يمكن أن أستثني قليلين، قليلين جداً. أتذكّر أني حصلت على خيبات كثيرة في سنوات المدرسة، بسبب الأصدقاء. لكنّ الأمر يفيدني الآن بعدما تكدّست سنواتٌ كثيرة على ظهري. يصيبني تلاشي الناس بنوبات مسلية من السخرية، لا أكثر ولا أقل. الخيبات الصغيرة في مكانٍ كالمدرسة، تسهّل الطريق حين الخيبات الأكبر.
مدرستي كانت أحسن مدرسة في الضيعة والجوار. كنا نتكلّم الفرنسية بشكلٍ جيد. وكانت امتحاناتنا شديدة التعقيد. ما أكره الامتحانات على قلبي!
طبعاً ليس سهلاً أن يكبر الإنسان في مدرسة للراهبات. تكون القوانين صارمة، أكثر ممّا ينبغي. حتّى الآن لا أفهم لماذا كانوا يجبروننا على رفع شعرنا طوال الوقت. كان الشعر السارح ممنوعاً. منذ تركت المدرسة وشعري سارحٌ طوال الوقت. مرّةً قلتُ لنفسي إنّ تلك العقدة لم تخرج مني. ثمّ قالت لي نفسي إنّ العقد لا تخرج من تلقاء نفسها.
هناك معلّمات جميلات مررن. هناك معلّمون طيبون. بعضهم ماتوا. مشكلتي مع الموت أصلاً بدأت يوم ماتت معلّمتي. أنا كنتُ أظنّ أن المعلّمات كالله، لا يمُتن. لا أريد أن أكون درامية، لأنني أهرب من الاكتئاب بالقوة. 
معظم الأساتذة أصبحوا أصدقائي في الحياة. وأنا أحبّهم عدا معلّمة واحدة، أكرهها حتى الآن، لا بل إنّ كرهي لها ولتسريحة شعرها يزداد باستمرار. 
حسناً إنه سبتمبر وهذا يثير فيّ مشاعر كثيرة. لا أحد يراوده سبتمبر مثلي. سبتمبر ليس شهراً، سبتمبر شعور كامل من الحيرة والغيرة والنهايات والتساقط والحبّ. سبتمبر شهر الحماقات والحب والرسائل الليلية والكلمات الدافئة، فيما الطقس والعالم يبردان على نارٍ هادئة. 
صباح الخير يا مدرسة الراهبات البعيدة، اشتقنا. صباح الخير يا سبتمبر.