الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

دراسة.. مستقبل الدين في المجتمع المعاصر

عالم اجتماع: «الإسكندنافيون» سعداء ومجتمعاتهم آمنة رغم عدم اهتمامهم بالدين

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
باحثون: الدين لن ينقرض.. والمراهنة على اختفائه عالميًا بدأت تتآكل
الخطاب الدينى يستطيع نقل المجتمع للأمام حال تلبيته للقيم المساهمة في تقدم الشعوب
قيم «البروتستانت» وراء نشأة الرأسمالية.. وتطور الصين جاء بتأثير «الكونفوشيوسية»

دراسات المركز العربي
استمرارا لسياسة التعاون بين جريدة «البوابة» والمركز العربي للبحوث والدراسات ننشر اليوم دراسة للدكتور محمود عبدالله حول مستقبل الدين فى المجتمع المعاصر.

يثير النقاش بشأن الدين ومستقبله العديد من الإشكاليات المهمة التى ينبغى النظر فيها، وفحصها ودراستها. ولعل أولى هذه الإشكاليات وأهمها علاقة الدين بالتنمية. حيث يوجد جدل نظرى بشأن دور التدين فى رفاهية المجتمعات وتقدمها، ودوره فى تخلفها وتأخرها. فهناك فريق من الباحثين يرون أن هناك تراجعًا للدين من ساحـة الحياة الاجتماعية فى المجتمعات التى شهـدت نقلـة كبيرة فى مجال الصناعة. ورجح البعض ذلك وفسره فى ضوء هزيمة الكنيسة الغربيـة أمـام عقلانيـة عصر التنوير، وهيمنة المعرفة العلمية على ظواهر عالم الطبيعة، والاعتمـاد على الشاهد والدليل الإمبيريقي، وغير ذلك من العوامل التى ساهمت فى تغير نمط حياة الفرد والمجتمـع من نمط حياة يكـرس نفسـه للدين ويعتمد عليه بالكلية، إلى آخر تضيق فيه مساحة حضور الدين فى الحيـاة العامـة والشخصيـة.
كذلك عاشت المجتمعات التقليدية زمنًا طويلًا تعتمد فيه على الأعمال والخدمات التى تقدمها المؤسسات الدينية وما يقوم به رجال الدين من أدوار تتجاوز دورهم الدينى. واستطاعت المؤسسات الحديثة أن تنتزع وظائـف كانت تؤديها هذه المـؤسسات الدينية، مثل التعليـم والصحة. فلم يعد ممكنًا بحال الذهاب لرجال الديـن للتعلم أو للتطبيب من مرض أصاب الجسد أو الروح. وبمقتضى ذلك تراجع دور المؤسسـات الدينية وذوى تأثيرها.
ويعتمد هؤلاء الباحثون فى هذا النوع من الدراسات على عدد من المؤشرات لتقييم درجة التدين من قبيل درجة المشاركة فى الأنشطة والممارسات والفاعليات الدينية، كالذهاب لدور العبادة، ودرجة التشبع بالقيم الدينية، وتبنى الدين مرجعية فى اتخاذ القرارات الحياتية المهمة. علاوة على قياس مدى إيمان الناس ببعض المعتقدات الدينية، مثل الإيمان بالجنة والنار، الحياة الآخرة، والملائكة والشياطين، وغيرها من المعتقدات الدينية.
ومن بين هذه الأعمال التى اهتمت بدراسة كيف أن التدين غير ذي صلة بالرفاهية والرخاء، الدراسة التى قدمها فيل زوكرمان، تحت عنوان «مجتمع بلا دين»، وقام فيها المؤلف بتفكيك التصورات القبلية التى يحملها المتدينون عن وظائف الدين. فإذا كان الدين يحمل السعادة للمؤمنين به، ويعيش من لا يدركونه الشقاء، فإن أهل البلدان الإسكندنافية يحيون فى سعادة وهناءة عيش، ولا يهتمون بفكرة الحياة الآخرة أو المصير، ولا تنتشر فى مجتمعاتهم الجريمة، بل هو مجتمع آمن وهادئ.
وفى المقابل يرى فريق آخر أنه على الرغم من دقة فرضية تراجع التدين فى البلاد الأوروبية، وبالذات البلاد الإسكندنافية، إلا أننا ما نعيشه اليوم هو صعود وعودة للدين فى بلاد شهدت هى الأخرى تقدمًا وتطورًا اقتصاديًا، كالولايات المتحدة الأمريكية. حيث ينزع علماء اجتماع الدين الأمريكيون إلى حصر مصطلح العلمنة فى معناه الضيق، وقصره على انحدار المعتقدات والممارسات الدينية بين الأفراد، فلا يتصورون أن المجتمع الأمريكى يعيش علمنة. فالولايات المتحدة كما يرون لا تتوفر بها المؤشرات المعتادة للعلمنة. كذلك فإن الصراع بين الكنيسة والعلم لم يكن قائمًا.
ولقد أفاد باحثون من هذا الاتجاه الجديد فى تصور هذه العلاقة بين التدين والتنمية والتأكيد على أهمية الدين، وتخفيف حدة العلمنة، ومن هؤلاء عالم الاجتماع الألمانى يورجن هابرماس. لقد استفاد الرجل تحديدا من جون رولز، ومن مفهومه عن العقل العام، وأكد أن المراهنة على اختفاء الدين تدريجيا، أو أن الدين سينقرض فى كل أنحاء العالم فى خضم التحديث المتسارع، كل ذلك قد بدأ يتآكل.

ويرى أن «ثلاثة ظواهر متطابقة تجتمع لخلق الانطباع عن ظهور عالمى جديد للدين، وهى الامتداد التبشيري، والراديكالية الأصولية، والتوظيف السياسى للعنف المتأصل فى الكثير من ديانات العالم. وهو يرى أن علينا أن نعمل فى مقابل ذلك على استنطاق الأبعاد العقلانية فى الدين ومضامينه الإنسانية التى يمكن أن تحد من الظواهر العنيفة والامتداد الأصولي. وفى مقابل ذلك تقع على الدين مهمة كبيرة، فعليه أن يكون صنوًا للحداثة لا عدوا لها.
والواقع أننا أمام تضارب حقيقى بين هذين الاتجاهين. وإزاء هذا التضارب المشهود فى تصور طبيعة التدين ودوره فى الرخاء والرفاهية، يمكن القول بأن القضية الأساسية لأى مشروع تنموى حقيقى تكمن فى مجموعة القيم التى يدعو لها الدين. فلو كان الخطاب الدينى ملبيًا لمنظومة القيم التى ساهمت فى تقدم الشعوب ورفاهيتها، سواء اتصل ذلك بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وترسيخ قيمة العمل، وما يتصل بها بالثقة والمصداقية والأمانة، والاحتكام للعقل والعلم، ولو كان هذا الخطاب الدينى على اتصال رشيد بالعلم الحديث، ومقيمًا أواصره بالعلوم الاجتماعية والإنسانية وما تفرزه من تطورات، لاستطاع أن ينقل المجتمع نقلة نوعية. لكنه إن أصر على البقاء جامدًا دون تغيير، غير عاكف على بث الأمن والطمأنينة، وغير قادر على مراجعة ذاته بالدرس والتعديل، فليس ثمة أمل ممكن.
إن ما قام به المصلحون من غير العرب بوجه خاص هو ما يدعو للنظر. وأضرب لحضراتكم مثلًا قديمًا، أبرزته التجربة الأمريكية بوجه خاص، حسبما يبين الباحث الألمانى الكلاسيكى ماكس فيبر. إذ أوضح فيبر أن القيم التى بثها المذهب البروتستانتى فى أصحابه قد أسست لقيام النظام الرأسمالي، حيث شجعت على قيم الزهد والتقشف، والعمل المتواصل، والنجاح فى الحياة الدنيا. كذلك الحال ساهم باحثون آخرون فى إثبات قوة تأثير الكونفوشيوسية والطاوية فى المجتمع الصينى الحديث. فالنقلة النوعية التى شهدتها الصين المعاصرة هى نتاج حقيقى لاستلهام قيم الكونفوشيوسية والطاوية.
على أنه فى ضوء ما سبق، يمكن الحديث عن ثلاث مقاربات للتعاطى مع الخطاب الديني. أولي المقاربات هى الدمج بين الدين والدولة. هذا المسار مسار احتكاري، حيث يتضمن احتكار هيئة أو جماعة أو فئة من العلماء، تدعى حق امتلاك المعرفة الدينية، ولها وظائف تتجاوز حدود الحقل الديني. إذ لها الحق فى الرأى فى جميع شئون المجتمع. هنا يصبح الشأن الدينى موضوع عقل عام لكنه عقل منشأ سلفًا، مقيد بشروط السلطة ومصالحها.
والمقاربة الثانية هى الفصل المطلق دون تقييد بين الدين والسياسة، فصلًا يقيد رجال الدين عن المجال العام، ويستبعد اعتبارهم فاعلين لهم حق المشاركة. وفى هذا النحو يتحول رجال الدين إلى وعاظ أخلاق، يكتفون بالحديث فى شئون العيش، دون العمل فى السياسة.
أما المقاربة الثالثة فهى الفصل النسبى الذى يعطى للمتدينين حق المشاركة فى المجال العام مقيدين بشرط الاعتراف بالفصل بين الدين والدولة، بين الدين والسياسة. إنها نوع من المشاركة الخلاقة بين المتدينين وغير المتدينين فى بناء المجتمع والحفاظ على استقراره.
والواقع أن بناء خطاب دينى فى المستقبل يتطلب العمل المتدرج من الفصل المطلق إلى الفصل النسبي. الفصل المطلق هو ضرورة منطقية يفرضها الواقع الحالى الذى يعيشه العالم العربي. فهذا القتل الحاصل على الهوية والمذهب، ربما ينتهى مستقبلًا إلى ضرورة الفصل. وهو وضع مؤقت يؤسس لإنضاج العلاقة بين الدينى والدنيوي، ويخلق شروط إصلاح دينى معقلن.
كذلك يمكن القول بأن تبنى القيم الحديثة لا يأتى بإرادة ذاتية، برغبة زعيم إنما هى بالأصل رغبة عامة فى التغيير. هذه الرغبة تتأصل عبر تضافر بنيوى لعدد من الشروط الموضوعية. أولها حرية المناخ الثقافى. فالمجال العام المنفتح قادر على بناء خطاب دينى أقوى، بينما يضعف هذا الخطاب ويصبح هشًا فى المناخ الثقافى المتحفظ والمتكتم. ربما لو نظرنا مليًا لحالة الشيخ الإمام محمد عبده، ولغيره من المصلحين، لتبين لنا قوة هذه الفرضية. فالإصلاح الذى سار فيه الشيخ ليس نابعًا فقط من رغبة ذاتية طالت شغف فؤاده، ولا هى بالنتاج الطبيعى لعبقرية خصته وحده، لكن الإصلاح استجابة لضغوط المجال العام المنفتح، المجال الذى يدفعه لمناظرة فرح أنطون المدافع عن التسامح. فإجادة المصلح للغة أجنبية أو أكثر، واطلاعه على التراث الوافد والمحلي، وكثرة المنافسين فى الحقل الثقافى، تدفع حتما إلى الإنجاز والتجويد والبناء، دون ذلك تذهب جهود الإصلاح المزعومة سدى.

وثانى الشروط الموضوعية هو ضرورة تحرير المؤسسات الدينية العربية من ارتباطها بالنظام السياسى الحاكم، تحريرًا مشروطًا بقيود المواطنة وحقوقها. وفى الواقع أن هناك معوقات وعقبات تحول دون القيام بهذه المهمة الشاقة. أولها شيوع تصور رديء عن فصل الدين عن الدولة، يلبى تصورات ذهنية غير دقيقة قارة لدى المتدينين. وثانيها أن النظم السياسية العربية تتخذ من الدين وسيلة لفرض الشرعية، وتؤسس لوجودها أمام المنافسين السياسيين، أو بالأدق تؤبد لوجودها. إن ذلك يترجم عجز هذه النظم عن اكتساب الشرعية بقوة الإقناع والمحاججة. وفى الظن أنه لا نظام سلطويًا دون سلطة دينية تدعمه وتقويه.
ثالث هذه العقبات أن هذه النظم السياسية العربية تخشى أن تتحول المؤسسات الدينية إلى قوى يصعب السيطرة عليها، مع أنه بمجرد أن يتم الفصل عمليًا ستنهار الهالة المصاحبة لها. ومع كل هذه الصعوبات ينبغى القول بأن أى عملية إصلاح محتملة لن ينظر لها بعين التقدير من جانب المجتمع العام نفسه. فالتصورات الذهنية التى يحملها قطاع عريض من المجتمع عن شيوخ المؤسسات الرسمية تحول دون القدرة على التمييز بين الإصلاح الحقيقى والرغبة فى نفاق السلطة، أيًا كانت.
وثالث الشروط الموضوعية لبناء خطاب دينى حديث فى المستقبل هو بناء أخلاق للتواصل، تعتمد على ما طرأ على الواقع المعاصر من ثورة رقمية طالت إمكانية التخاطب. فلم يعد ممكنا توجيه الخطاب الدينى لجماعة مخصوصة، فلا يوجد خطاب محصن من هذه الخصيصة. كل الخطابات مفتوحة على المشاع إلى حد يصعب معه هذا الفصل الذى يقيمه هابرماس بين المواطن ابن المجتمع العلمانى والمواطن ابن الجماعة الدينية. الأمر الذى يفرض على عاتق منتجى الخطابات الوعى بتنوع المخاطبين، واحترام التنوع الثقافى للجمهور العام. فمن غير المقبول أن يوجه الخطاب لجماعة بعينها دون أن يدرك حالة المشاعية التى يحياها، مشاعية ليست محتملة، بل حالة وقائمة ومترسخة، ما يستوجب من منتجى الخطاب إذا أرادوا التشارك معًا فى مجتمع واحد، أن يحترموا حقوق المواطنة، بداية من الحقوق الشخصية، حتى الحقوق السياسية العامة.
كذلك من الملاحظ على الخطاب الدينى المعاصر هو الابتعاد عن أخلاقيات الإنشاء الحديثة، فالمؤلف الضمنى لهذا الخطاب معنى بمخاطب بعينه دون سواه حال توجهه للجمهور العام، وهو المخاطب المسلم دون غيره، بينما لو غير بوصلة الخطاب باتجاه المخاطبين المتعددين، ستتغير بالضرورة اللغة التى يستعملها، لتصبح لغة هجينة، لأنها فى هذه الحالة، ستحمل بصمات المخاطبين المحتملين، بل وسيتغير المحتوى. إذ يفترض فى الخطاب الدينى أن يسعى لنيل إجماع محتمل، وهو فى سعيه ذلك، سوف يدرك خصوصيات المخاطبين، وسوف يدرك أيضا أن نيل هذا الإجماع هو أمر مرجأ، حتى وإن بدا مستحيلا، وأن المخاطب هو مخاطب عاقل ورشيد وقادر على الفهم والتفهم، بل والمناقشة المبدعة والمهددة لبنية الخطاب الدينى ذاته.
إن انطلاق أخلاق الخطاب الدينى من القارئ واحترامه وتقديره أيا كان، سيجعل من هذا الخطاب خطابًا مسئولًا، خطابًا لا يدعى القدرة المطلقة، ولا يصبح أمريًا، إنما يتوجه إلى جمهوره فى تواضع.
ورابع هذه الشروط الموضوعية هو تغيير ذهنية الداعية. إن تغيير الذهنية هذا يعنى التفاعل الخلّاق مع المعطيات الجديدة، مع منتجات العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية، من أصولها. إن هذا يتطلب من الداعية أن يدرك أن الدين شأن إنساني، قابل للفهم والتداول، ولأنه كذلك فهو جزء من التراث الحضارى الإنساني، ما يجعله عرضة للنقد، ولا يوجد إنسان أقدر على ادعاء امتلاكه حقيقة الدين. ولعلنا نلحظ أن هذا الشرط مرتبط بسابقيه. فادعاء امتلاك الحقيقة مقترن بالسلطة. كما نلحظ أيضا أننا نشهد اليوم عبارات من قبيل «الدين المخطوف»، وغير ذلك من العبارات التى تعتبر رجال المؤسسة الدينية الرسمية هم ملاك الحقيقة الدينية دون غيرهم. ويمكن أن نضرب مثلًا على هذا بما نجده من صراع شيوخ المؤسسات الرسمية مع كل من المثقفين العموميين ورجال الدين من غير أبناء المؤسسة الرسمية. حيث يرفع دائمًا داعى الكفاءة والأهلية، بينما لا تترك الفرصة للمتلقى ذاته ليقرر أين توجد الأهلية، ولدى من؟.

ولعل من علامات تغيير ذهنية رجل الدين هى قدرته على مغايرة الواقع وقيوده وفهمه. فمن الملاحظ مثلا أن بعض الخطابات الدينية تعول على الاستهلاك على حساب الإنتاج. ونجد هذه الإشكالية أوضح فى الشكل السلفى الريعى للخطاب الديني. فهو شكل يتوافق مع النزعة الليبرالية الجديدة بادعائها أن الاستهلاك يؤدى إلى النمو الاقتصادي. فكلما امتلكت سوقا كبيرة من المستهلكين، استقبلت شركات أكبر تدرك أن استثماراتها ستتجه لهذا الجمهور الواسع بتكلفة أقل. وفى الواقع فإن هذا النمط من الخطاب السلفى بشكله ومحتواه يدعم هذه التصورات المقرة لليبرالية الجديدة. فمن ناحية يؤدى انتشار الأفكار السلفية بشأن العلاقات الزوجية إلى زيادة النسل، زيادة كبيرة، كما يؤدى كذلك إلى زيادة الاستهلاك. ويتم بناء على ذلك بناء التبريرات القادرة على إقناع جمهور المتلقين بضرورة زيادة النسل. فزيادة الذرية ضرورة ليكون المسلمون قوة، وحماية لهم عبر العالم فى وقت الحرب، كما أن الزواج المتعدد مخرج لمواجهة العنوسة، كحل ضمن حزمة من الحلول فى هذا السياق. كذلك يرى رجل الدين السلفى أن الاستهلاك ضرورة وليس الإنتاج. فهؤلاء المنتجون الأصليون أنتجوها لصالح المسلمين ولفائدتهم، ولقد كرسهم الله لهذه المهمة المقدسة. ويمكن عند المعاينة الإثنوجرافية المتأنية للسلوك الذى ينتهجه أبناء هذا الخطاب، يمكن ملاحظة أن النهم هو السمة المميزة، ويغيب عامل الزهد والتقشف.
وخامس هذه الشروط الموضوعية وآخرها هو بناء لغة تواصل جديدة. فجزء من عملية الإصلاح تقع على عاتق المثقف العام ومدى قدرته على التفاعل الخلاق مع القضايا الدينية المعاصرة، وتفهمه لتفاعلات الحقل الدينى والثقافى. فالمثقف العام بقدر ما هو مطالب بمتابعة الجهود المبذولة من قبل رجال الدين، ودراسة خطابهم ومشروعاتهم دراسة معمقة، ومساءلة تفاعلاتهم وممارساتهم، فهو مطالب أيضا بضرورة أن يسعى لترجمة أفكار رجال الدين التى تصعب على رجل الدين ترجمتها إلى لغة الخطاب العام، أو بالأدق أن يسعى جاهدًا لبناء لغة مشتركة، وتذليل عقبات التواصل، والتشوهات الاصطلاحية والبلاغية، والقوالب الذهنية الجامدة، بحيث يمكن بناء لغة خالية من الأحكام المسبقة، والتجهيل، وادعاء الأفضلية والمعرفة. وهذا شرط شاق وعسير. فمن ناحية ينظر رجل الدين بعين الريبة والقلق لطروحات المثقف العام، ويعتبرها أحيانًا زندقة أو شططًا أو تطرفًا، أو عملًا لجاهل، ومن جهة أخرى ينظر المثقف أحيانًا لطروحات رجال الدين على أنها ركام غير صالح للاستعمال الآدمي، وخارج سياق التاريخ.
إن شرط التجديد هو عمل مشترك، ومسئولية مفروضة على صُناع الثقافة، وليس عملًا يقع على عاتق رجال الدين فقط، لأنه دون وجود مثقف ناقد للتفكير الديني، ومدقق لمجمل الجهاز التصورى والمفاهيمى الديني، وواضع لوصف دقيق لخريطة الخطاب الدينى وتجلياته المتنوعة التى يصعب حصرها بالكاد، يظل عمل المصلح الدينى منقوصًا، وسباحة غير مأمونة ضد التيار. إذ يناط بالمثقف ألا يقف عند حدود نقل التجارب المغايرة فى الإصلاح الديني، بل وأن يشارك فيه، وأن يسبر غور المشاريع السابقة للإصلاح والتعرف على أسباب تعافيها ونهوضها، وعلل اختفائها.