الخميس 02 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«عدو المسيح» كثير من التوحش كثير من الإبداع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعترف أن «ضد المسيح» أو «Antichrist» هو أعنف، وأبشع، وأخجل «فيلم» شاهدته على الإطلاق، ورغم اختلافى الحاد مع هذا الكم الفاجع من مشاهد العنف المتوحش الكاسح، والعرى الفاضح الفاحش، الذى لم أحتمله، وأذهلنى، وزلزلنى، إلا أنه أرشدنى، وأبصرنى، ببراعته، وحصافته، ونبوغه فى توظيفها كاملةً، من أجل تعرية أنفسنا تمامًا، بدون أى أغطية، عابرين إلى حقيقتنا، بدون أى قيود. 
يتوغل «الفيلم» فى عمق شرايين الطبقات الباطنية للنفس البشرية، بكل تعقيداتها؛ عجزها، انهياراتها، انحرافاتها؛ من أجل العثور على مفتاح رحيقها الغائب، وتلك رسالته الخطيرة للإنسانية، خاصة النساء؛ لأنهن الأكثر حساسية، وتفصيصًا، وتمحيصًا للأشياء؛ لإنقاذنا من مشانق الحزن، والتعاسة، واليأس، والاعتقاد فى عبثية الوجود.
أدرك تمامًا أن نبلكم لن يحتمله، لكن الفن الحقيقى يبدأ حين يؤمن صانعه «الناضج» بقيمة ما يقوم به، لا ما ينتظره الناس، ويريده النقاد؛ ولأنه لا ابتكار دون مغامرة، ولا إبداع دون حرية، ولا فن دون مخاطرة، ولا اكتشاف دون تحطيم للأصنام، وكسر للدوائر، وهدم للحواجز، ولا اقتحام دون تحرر من الخوف، ولا مستقبل لمن يعتقل «العقل الفاعل».
أراهن على يقظة عقولكم، وصواب تقديركم، ونقاء ضمائركم، رغم قاع المستنقع الراكد، الذى يغمرنى، ويغمركم؛ ولأننى أحبكم، وأحترمكم، وأظن أننى استحوذت على بعض ثقتكم؛ لكننى لست ملاكًا، ولا شيطانًا، بل إنسانًا يهوى المعرفة، ولا يسأم السير فى طرقها الطويلة، الوعرة، المدببة.
حكيت لوالدتى، التى لم تحصل على شهادة «الابتدائية» كل تفاصيل «الفيلم» العارية تمامًا؛ روحًا، وجسدًا، وقبحًا أسود، والمفارقة أنها لم تصدم، بل ردت فى ثقة: كانت جدتى قديمًا، تحكى لى ولشقيقاتى الصغيرات «قصصًا» مشابهة، تُعَرِّى فيها مُتعمِّدة، كل فضائح الرجال، والنساء، والحب، والخيانة، والحياة؛ لأنه لم تكن توجد وسيلة أخرى؛ لنفهم، ونتعلم، ثم سردت لى إحْداهِنَّ، بُهِتُّ لسماعها؛ لأن خيالها الجامح، الجارح، تجاوز فظائع وفضائح الصوت والصورة، فسألتها: هل أكتب؟!، فردت: طبعًا، النساء فى وطنى زهور، مشرقات، مرحات، لا تخفن، ولا تترددن، رغم كل أنفاقهن المعتمة، المغلقة!، وإن صمت يا «قمرى»، فمن إذن سيتكلم ؟!. 
يرسم الفيلم «لوحته الفنية» كثيفة المعانى فى قسوة مروعة، وفضائح طافحة، تشعرنا من أوله لآخره بالذعر، والاشمئزاز، متجاوزًا سرعة الضوء فى تعرية فظاعة وبشاعة الإنسانية فى لوحتى «حذاء الفلاحة» لڤان جوخ، و«جرنيكا» لبابلو بيكاسو، وهى اسم القرية «الإسبانية» المنكوبة، التى ألقى عليها الألمان القنابل عام ١٩٣٦، فدمرت عن آخرها، وقتل ألفان من أبريائها.
يكشف «جوخ» بزوجٍ من الأحذية القاتمة، الممزقة، شقاء الفلاحة، وخطواتها المنهكة، إلا أن غلظته تنطق بخصوبة الأرض، وعطائها المتجدد، ويصرخ «بيكاسو» بأشلاء أجساده المحترقة، العارية؛ ليوقظ الضمير الإنسانى أمام جبروت الحرب، ووحشيتها، إلا أنه يضع «قنديلا» وسط كل هذه التشوهات، داخل مملكة الرعب والموت؛ من أجل السلام، وليس الاستسلام.
ينسج «الفيلم» خيوطه الأقوى تعقيدًا، عبر بداية حوار شاعرى، صامت، تتراقص فيه قطرات المياة على أنغام موسيقى «هاندل» الساحرة، فى تمهيد بليغ لفكرته الرئيسية، وهى عجز «المرأة» التام فى مواجهة بشاعة نهاية أمومتها أمام أعينها، التى تشهد اللحظة الأخيرة لحياة طفلها، وهو يصعد إلى النافذة، ثم يسقط منها، عبر لعبة بصرية بريئة، تشده نحو حبات الثلج، الشفيفة، المتساقطة، وهى فى قمة «خدرها» أثناء ممارسة «الحب» بكامل فصاحته مع أبوية بديعة، متوازنة.
فى تلك اللحظة العبقرية، الفارقة، يولد سرطان الحزن الأسود فى رحم أروع لذة، فتَتَهشَّم الذات الأنثوية تمامًا، وتتحول إلى كتلة من النار الملتهبة، تدفعها بشراسة إلى كراهية الزوج، وهو «معالج نفسى» بارع؛ لتصورها الزائف أنه لا يحبها، وتفزعها من لحظة ممارسة «الحب»؛ لأن تذوقها «نشوته» هى «السفاح» الذى أغواها، فتركت طفلها ينزلق أمامها إلى نهايته، ثم تجرفها إلى الشذوذ، أو اندماج «اللذة الحسية» بالعنف، لتتحول إلى «سكين» حادة، تشْرُخ أعضاء الذكورة، التى تسببت فى ارتكابهما الجريمة، ثم تقودها لذبح وجودهما فى الحياة، وهو منطق ذاتها «المتهتكة» لفكرة «العقاب» أو «الانتقام»؛ لتسكين آلامها المبرحة فى مواجهة شبح الندم- أو عقدة الذنب، أو أفعى الخطيئة- الذى يلاحقها بضراوة. 
البعد «التجديدى» فى الفيلم هو لوحة «المتسولون الثلاثة»، التى يكتشفها الزوج أعلى «الكوخ»، الذى جعله فترة نقاهة وعلاج سيكولوچى لزوجته، وهى تجسد «الأعمدة النفسية» التى تَسوق الإنسان لمصيره البائس؛ «الألم، الحزن، اليأس»، وتُفسِّرها «الحيوانات الثلاثة»؛ «الغزال» رمز «الحزن»، «الثعلب» رمز «الألم»، «الغراب» رمز «اليأس»، الذين جابهته فى الغابة.
لم يكتف «الفيلم» بتعرية تفاهة الجنس البشرى، بل أمعن فى تشريح الأنسجة الخبيثة؛ «الألم، الحزن، اليأس» المستوطنة فى أعماق تكوينه، خاصة النساء؛ لاستئصالها من الجذور. 
يشير «اسمه» إلى قوى الشر الطاغية على الوجود، المناهضة «للسيد المسيح» رمز «المحبة» و«الجمال»، وتقول «رسالته»: لا تخجل أبدًا، مهما بلغت بشاعة سقطاتك المتكررة، فأنت بشر، عليك أن تعرف عمقك الخفى، وتدرك قوة الطبيعة فيك، وتفهم رسائل الكون، ولا تحزن؛ لأنه صناعتك، ولا تندم؛ لأنه خطيئتك، ولا تنكسر؛ لأنه وقاحتك، ولا تنتحر؛ لأنه مأساتك التى تحررها بيدك.
يستحق «الفيلم» عن جدارة، رغم حدة اختلافى معه، أن أصفق له، بكل احترام، وتقدير، وإنصاف؛ لأنه أكد أن «الفن» سيظل دومًا فوق الاقتصاد، والصناعة، والأسواق، وصانع للإرادة الإنسانية، ومنتج تلك الأفكار المستنيرة، التى تنحت الجدوى فى الحياة.