رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فرح أنطون.. يعلمنا كيف يكون الثوري رومانسيًا «6»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ونمضى مع فرح أنطون فى كتاباته الشبيهة بكتابات رينان، لولا أنها أكثر تحديدًا وأكثر التزامًا بمنهج الاشتراكية وأكثر ثورية، فمثلًا هو لا ينفى أن فى كل فلسفة وكل فكر بعضًا من الحقيقة، لكنه يقول «لو كان أحد الأنظمة أو الفلسفات أو حتى الديانات يمتلك حقيقة كاملة ساطعة ومطلقة لكان تغلب وعاش وحده فى عصرنا الراهن، وبهذا فإن أحدًا لا يملك حقيقة مطلقة، وحتى الذين يخطئون الماضى بشكل كامل هل يضمنون ألا يحكم المستقبل عليهم مثلما حكموا هم على من أتوا قبلهم». ويمضى قائلًا «إذا كان ثمة شيء واحد يمتلك الحقيقة الكاملة فإنه الشعب، فلا دموع حقيقية إلا دموع الشعب»، وعندما خاض فرح حواره الصارخ مع الإمام محمد عبده تصور البعض أنه حوار شيخ مسلم مع مفكر مسيحى متشدد، لكننى اكتشفت أقوالًا لفرح تدحض ذلك فهو يقول «إننى أدعو كل الأمم إلى أن تقول المجد لله فى الأعالى، لأن الله خالقنا العظيم»، وبهذا نفى عن نفسه اتهامات وجهها له البعض خلال حواره مع محمد عبده، ويمتاز فرح أنطون بدعوة دائمة للتسامح الدينى، وفى كثير من كتاباته يستشهد بأقوال محيى الدين بن عربى، خاصة قصيدته التى قال فيها:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبى / إذا لم يكن دينى إلى دينه داني
وقد صار قلبى قابلًا لكل صوره / فمرعى لغزلان ودير لرهبان
أدين بدين الحب أنى توجهت / ركائبه فالدين دينى وإيماني
وحتى إيمان فرح أنطون بالمسيحية يعبر عنه بصورة مثيرة للدهشة، ففى كتابه «أوراق منثورة» يقول «إن نفسى ستسكن بعد وفاتى فى خرائب كنيسة القديس ميخائيل بشكل طائر البحر الأبيض وسيبقى الطائر حائمًا فى الليل حول أبواب الكنيسة ونوافذها تائها عن المدخل، شاكيًا متألمًا، وهكذا تبقى نفسى المسكينة حائمة متألمة حول هذه الأكمنة إلى الأبد». وهو يلح على فصل الدين عن الدولة وعن التعليم فى المدارس، ويقول «إن اتخاذ الأمور الدينية سبيلا إلى الأمور السياسية يوجب على الدولة الاهتمام بإقامة العدل بين الجميع على السواء، ومعاملتهم سرًا وجهرًا معاملة الإخوة الحقيقيين، وفى مدارس الدولة التى يدرس فيها مسلمون ومسيحيون فيتلقنان فيها مبادئ متشابهة كالمدارس الفرنساوية المعزولة عن الدين تمامًا، أما الدروس الدينية والمبادئ الدينية فتدرس فى المعابد والمنازل. ونأتى إلى المحاورة الشهيرة مع الإمام محمد عبده. وكان فرح معجبًا بالإمام وكتب «نحن نطالع بإمعان لا مزيد عليه دروس فضيلة الأستاذ محمد عبده، مفتى الديار المصرية، فى الجامع الأزهر تفسيرا للقرآن فنجد فيها روحًا جديدة إذا تم انتشارها كانت بمنزله إصلاح عظيم فى العالم الإسلامى». ويرى الكثيرون أن سبب الوقيعة بين محمد عبده وفرح كان رشيد رضا الذى كان خصما لدودا لفرح للمنافسة بين «الجامعة» و«المنار» وكانت «الجامعة» أكثر تفوقا.. ورغم المحبة المتبادلة دخل محمد عبده وفرح أنطون فى مشاحنة ضارية، وكان السبب هو موقف فرح المادح لفلسفة ابن رشد وقوله إن المسلمين اضطهدوه. ويقول فرح «فانصرفت ثلاثة أشهر وعصبت رأسى لأدرس هذا الموضوع حتى فقدت النوم والقابلية والتهب الصراع وخاض كل طرف المجادلة حتى مداها الدامى». وقد أثارت شجاعة فرح إعجاب الكثيرين لكنها أثارت ضده الكثيرين الذين اعتبروه مسيحيًا يجادل مفتى المسلمين فى حوار عن الإسلام والمسيحية، حتى إن شاعرًا مثل حافظ إبراهيم أعرب هو أيضا عن امتعاضه من ثبات وقوة حجة فرح فى مواجهة عملاق دينى، ومفتى الديار المصرية، ودارس عميق الفهم وصاحب نظرية راسخة بأن «الإسلام دين العلم والمدنية» وأعرب حافظ عن امتعاضه ببيت من الشعر نشره على الملأ مخاطبًا الإمام محمد عبده فقال:
«وأنت لها أن قام فى الغرب مرجف/ وأنت لها أن قام فى الشرق مرجف». وعرف الجميع أن «المرجف» هو فرح فكتب فرح لحافظ معاتبًا «حافظ يا حافظ، فأنت لم تحاسب نفسك لما نظمت هذا البيت.
لكن الحقيقة هى أن تأمل الحوار يوضح أنه كان حوارًا راقيًا بقدر ما كان حادًا وأن كل طرف احترم الآخر. وعندما انتقل الحوار من مناقشات فكرية راقية إلى أداة صراع دينى فى يد العامة، وتبدى الأمر وكأن فتنة طائفية قد تنشب، توقف الطرفان عن الكتابة، فوحدة المصريين، مسلمين ومسيحيين، أهم عند كل منهما من أن يثبت أى طرف أنه أقوى حجة من الآخر.
وانتهى الحوار وعادت الصداقة بين الطرفين كما كانت.
ونواصل.