الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة «16»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قطعًا، «التعددية السياسية» تُعد ملمحًا رئيسًا فى بنيان «الدولة المدنية الحديثة»، الأمر الذى من شأنه التأكيد على رشادة الحكم، وتطبيق كافة القواعد الديمقراطية الكفيلة بإرساء منظومة القيم العالمية كثقافة مجتمعية غالبة. وعلى هذا النحو، وفى إطار من سيادة القانون، يمكن تجسيد «الديمقراطية» كأحد أبرز الركائز التى تنهض عليها كل «دولة مدنية حديثة».
وفى سبيل صياغة «تعددية سياسية» حقيقية لا بديل عن وجود أحزاب سياسية حقيقية، تدرك محتوى صحيح مفهومها المتعارف عليه فى كافة المجتمعات الديمقراطية، من كونها «تجمع يضم مجموعة من الأفراد، لديهم رؤى وأفكار مشتركة، ويسعون إلى تحقيق مصلحة وطنية عامة، من خلال تنافسهم، مع غيرهم، على الوصول إلى مقاعد السلطة». ويتسع مفهوم الحزب السياسى إلى ضرورة وجود «هيكل تنظيمى يجمع أعضاءه، وترتيبهم القيادى، إلى جانب جهاز إدارى معاون».
من هنا يمكن قياس موقعنا على طريق «التعددية السياسية» بمعيار علمى، لا يُنكر خصوصية التجربة الوطنية، وما ألحقته من استثناءات على خطواتنا، البعيدة والقريبة، على المسار الحزبى. وفى ذلك أقول:
تعرضت التجربة الحزبية الوطنية لفترات نشاط، وأخرى من الركود، إلى حد التوقف، ثم كانت نشأة جديدة خجولة، لم تكن تشير بصدق إلى أنها تحملنا بجدية على حيازة ثقة كبيرة فى صحة توجهاتنا. فمنذ نشأة حزب الوفد (١٩١٩)، وقد نهض لمجابهة الاحتلال البريطانى، شهدت الحياة السياسية المصرية ليبرالية واضحة انتهت بقيام ثورة ٢٣ يوليو، التى ألغت «التعددية السياسية» وضربت مفهومها فى مقتل، إذ تشوهت بموجبها مفاهيم سياسية بعينها، مفادها أن الأحزاب وسيلة لتحقيق المصالح الشخصية، وتأجيج الفرقة فى المجتمع. ورغم الشعبية الهائلة للزعيم الوطنى سعد زغلول، مؤسس الوفد، إلا أن الشعبية الطاغية للرئيس عبدالناصر، رسخت قناعاته وسُبله إلى الحكم المنفرد فى ثقافتنا الشعبية، حتى بات العمل الحزبى مضادًا لوحدة الشعب، ومرادفًا للانتهازية السياسية. وهى ثقافة أنتجت معاناة شديدة ما زالت آثارها واضحة فى كثير من أوجه حياتنا السياسية المعاصرة.
بعد انتصار حرب أكتوبر، حاول الرئيس السادات إضفاء مسحة من الديمقراطية على البلاد، بهدف سرعة الاندماج فى المعسكر الغربى الأمريكى، كبديل عن المعسكر الشرقى الروسى، فكان التحول إلى الاقتصاد الحر عن طريق سياسة الانفتاح العشوائى، مواكبة محاولاته الفاشلة فى مجال التحول إلى الحكم المحلى بدلًا من الإدارة المحلية، وإلى جانب مساعيه المترددة الخجولة للدفع نحو إعادة «التعددية السياسية» من خلال إعادة العمل الحزبى، فكانت تجربة «المنابر السياسية» أضعف من أن تنهض بحياة ديمقراطية حقيقية، فلم يزد الأمر عن أننا تحولنا من نظام سياسى شمولى «الاتحاد الاشتراكى»، الناصرى، إلى نظام سياسى يسيطر عليه حزب الرئيس الحاكم، الحزب الوطنى، مع تهميش الأحزاب الأخرى والسيطرة عليها، بل وإفسادها من الداخل، وتشويه كل رمز وطنى يمكن أن يلتف حوله الناس، ومن ثم لم تتغير الصورة الذهنية للأحزاب السياسية فى الثقافة المجتمعية عنها إبان ثورة يوليو ١٩٥٢. ولا داعى للإسراف فى سرد ما عشناه جميعًا فى ظل الحزب الوطنى من هيمنة لقيم الواسطة والمحسوبية، وزاوج السلطة بالمال، والفساد السياسى، وجمود الحياة السياسية، فى عصر من سماته التسارع، وتداول السلطة، والتغيير. إلى أن بلغنا حدود ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة عام ٢٠١١.
فى غياب تعددية سياسية حقيقية، انفجرت الملايين ثائرة فى الخامس والعشرين من يناير، غير منتبهة إلى وجود أحزاب يمكن أن تصوغ تطلعاتها وآمالها وآلامها، بل إن الأحزاب الموجودة حينئذ فشلت فى اقتناص الفرصة والالتحام بالشعب، إذ كان موقعها داخل الثقافة الشعبية هزيلًا يعانى جراء استهدافه من الأنظمة الحاكمة على مدى نحو ٦٠ عامًا. وعليه افتقدت ثورة يناير قيادة سياسية يمكن أن تعبر عنها وتثق فيها، ما زاد من صعوبة عملية التحول الديمقراطى التى هى بالقطع جوهر المطالب الثورية التى حملتها الحناجر الثائرة فى كافة شوارع وميادين مصر، إذ ما هى الديمقراطية إن لم تكن حرية وعيش وعدالة اجتماعية!.
طبيعى أن تُحدث ثورة يناير المجيدة انفجارًا سياسيًا من شأنه بدوره أن يتمثل فى اندفاع عشوائى تجاه تشكيل الأحزاب، حتى زاد العدد على المائة. ولم يكن فى ذلك خروجًا على المألوف فى سابق التجارب الدولية. غير أن الأمر اتخذ سبيلًا إلى مزيد من إضعاف الصورة الذهنية للأحزاب داخل الثقافة الشعبية. ولعلى هنا أُشير إلى أن تلك النقطة بالتحديد، تشويه مفهوم الحزب السياسى، هى ما أرهقت مشوارنا الثوري، إذ تزداد الحاجة، فى المجتمعات الثورية، إلى جهود صادقة باتجاه التنمية السياسية، وهى مهمة الأحزاب بالأساس، غير أن ضعف وهشاشة الأحزاب، وتردى مصداقيتها فى الشارع، حال دون قيامها يهذه المسئولية الوطنية الكبيرة. وبالتالى كان الطريق وعرًا إلى أهداف الثورة المصرية.
وفى ظل فورة الأحزاب الجديدة والمتجددة، سارت الأمور فى غير صالح مفهوم الحزب السياسي، ذلك أن التعددية السياسية التى تلت ثورة يناير ٢٠١١ أدت إلى وصول الجماعة الإرهابية إلى مقاعد الحكم، فى الرئاسة والبرلمان على السواء، وسرعان ما تأكد الجميع أن الانتخابات كأداة ديمقراطية، لا تضمن الوصول إلى أفضل النتائج دائمًا، وشاع أن ضعف وفشل الأحزاب هو ما أدى إلى سيطرة الجماعة الإرهابية، فضلًا عن الممارسات الاحتكارية، والبلطجة السياسية، التى مارستها الجماعة من خلال حزبها السياسى. كل ذلك أجهض كل الآمال فى تعديل الصورة الذهنية للأحزاب السياسية. بينما كل التجارب الناجحة فى التحول الديمقراطى تؤكد أهمية الدور الذى تنهض به الأحزاب فى هذا الشأن. ومن هنا بات مشروعًا أن تتراجع الطموحات «المنطقية» فى بناء «دولة مدنية حديثة» بينما تغيب إحدى سماتها، التعددية السياسية والحزبية، ولا يفيد كثيرًا فى ذلك كونها منصوصًا عليها فى الدستور الثورى ٢٠١٤ الذى حظى بتأييد شعبى كاسح. فيما يشير بالتأكيد إلى أن حلقة «الأحزاب السياسية» ربما كانت أضعف ما فى سلسلة خطواتنا صوب «الدولة المدنية الحديثة».
على خلفية ما سبق، لا ينبغى أن تدركنا الدهشة جراء الكثير من المواقف والرؤى غير المتسقة مع ما تحمله من دعوات باتجاه «الدولة المدنية الحديثة»، وأذكر منها الآتى:
١- رغم وفرة الحزبيين فى البرلمان، إلا أن كيانًا مضادًا لمفهوم التعددية الحزبية، نشأ وهيمن كثيرًا على فعاليات البرلمان، حتى أنه بات التكتل الوحيد الذى يحظى بالشرعية فى البرلمان.
٢- أبرز «الكيانات» البرلمانية انحيازًا للثورة المصرية، يناير/يونيو، والمعروف بتكتل ٢٥/٣٠، لا يميل إلى فكرة الحزبية، وإلا لشكل حزبًا، فيما يعبر عن تردى مفهوم الحزب السياسى حتى داخل أوساط نخبوية معتبرة.
٣- أقل القليل من أعضاء البرلمان الحزبيين، هم من الكوادر الأصيلة فى أحزابها، إذ كان قد تم اقتحام السباق الانتخابى البرلمانى بمنهج «احترافى»، حيث سارعت الأحزاب إلى اقتناص الشخصيات القادرة على جذب الناخب فى دوائرها، دون النظر إلى حقيقة انتماءاتها، وشاعت الاتهامات بين الأحزاب بسرقة المرشحين فيما بينهم! وعلا سعر المرشح، فيما أنتج جديدًا على تجربتنا الانتخابية إبان الأنظمة السابقة، فبدلًا من شراء الناخب كعادتنا، بلغنا، ونحن نُجرى تحولًا ديمقراطيًا! حد شراء المرشح. والحال أن الكثير من أعضاء الأحزاب فى البرلمان ليسوا على درجة كبيرة من الانتماء الحزبى. فيما ضرب فكرة الحزب السياسى حتى بين «أبنائه» الذين لم يُلتفت إليهم فى السباق الانتخابى!.
٤- ما زال الأمل يراودنا فى كثير من الاندماجات الحزبية، كسبيل إلى بلورة الاتجاهات السياسية الحقيقية فى كيانات تجمع أصحاب الرؤى والأفكار والاتجاهات المتقاربة. وهو أمر جرت فيه محاولات بالفعل لكنها لا ترقى إلى المستوى المطلوب. غير أن تراكمًا ما زال منتظرًا سيحدث بالقطع إلى أن نصل إلى هذا الأمر، ولكن ليس قبل تغيير حقيقى ينال من مكونات النخبة السياسية الراهنة.
٥- لا حديث جدى عن برامج حزبية حقيقية، ولا عن بدائل جادة تطرحها الأحزاب أمام الناخب من جهة، وأمام النظام الحاكم من جهة أخرى. حتى بات دارجًا أن الأحزاب لا تستهدف السلطة فى الوقت الحالى دعمًا للدولة!!. والحال أننا بذلك نكون قد أفرغنا مفهوم الحزب السياسى من مضمونه السابق الإشارة إليه، باعتباره كيانًا يستهدف الوصول إلى السلطة، ومن ثم نحن إذن نبنى «دولة مدنية حديثة» بمعاول شديدة البأس تفتت أحد معالمها الرئيسة!.
٦- فى ظل المناخ الراهن، على نحو ما أوضحنا، طبيعى أن تتعالى الأصوات، النخبوية للأسف! تنادى بحزب للرئيس! ولا عزاء نقدمه لدستور طالما فاخرنا به، ولا جدوى نقدرها لتعددية حزبية حقيقية، بينما نبنى «الدولة المدنية الحديثة»!!.
وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله، نواصل الحديث عن الأحزاب السياسية، ودورها فى بناء «الدولة المدنية الحديثة»، وموقعها فى ثقافة مجتمعها.