الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

كيف احتوى "السيسي" المارد السلفي؟

دراسة فرنسية حديثة ترصد القصة الكاملة لحزب النور تحت عنوان «السلفيون البراجماتيون»

الرئيس عيد الفتاح
الرئيس عيد الفتاح السيسي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
النظام لم يمنح «الدعوة السلفية» الحصة التى أرادتها فى الحكومة الانتقالية وأعطاها مقعدًا واحدًا فى لجنة الخمسين لإعداد دستور ٢٠١٤
السلطة اعتمدت على السماح للسلفيين بالوجود الاجتماعى مع شعورهم الدائم بالضغط الشديد للدولة حتى لا تعود «تجربة الإخوان» مرة أخرى
كتب ستيفان لاكروا، أستاذ العلوم السياسية فى معهد الدراسات السياسية بباريس، دراسة يرصد فيها الظاهرة السلفية فى مصر، منذ تأسيسها، ونموها الملحوظ فى الثمانينيات، وفتاواهم التى تحرم المشاركة فى العملية الديمقراطية قبل ثورة 25 يناير، ومواقفهم بعد تلك الثورة التى مثلت انقلابًا حادًا فى الأبجديات السلفية.
من شرعية الفتوى بحرمة التصويت أو الترشح لمجلس النواب، إلى مشروعية ذلك بعد يناير، حينما لاحظت السلفية وجدواها وشعبيتها فى الشارع المصرى، لا سيما فى المساجد والزوايا التى استغلتها للترويج لمرشحيها، بحجة دعم الدين وتطبيق الشرعية.
إلا أن كل ما قاله السلفيون وأسسوا له بعد 25 يناير، جاءوا بنقيضه تماما بعد الـ30 من يونيو، بل وروجوا له وتعايشوا معه، ومن ذلك القبول بنزول بعض المرشحين المسيحيين على القوائم السلفية، والتى وصفها أحد شيوخ السلفيين آنذاك بأنها فى حكم المضطر لأكل لحم الميتة.
هذه الدراسة تثبت بالمواقف والدلائل عن برامجية السلفية، ورفعها شعار مصلحتك أولًا ولو كان المقابل التنازل عن مبادئك الدينية.
اشتهر السلفيون بتزمّتهم العقيدى وإدانتهم الشديدة لأى جماعة أو حركة تخالف آراءهم الدينية، فكان السلفيون قبل الربيع العربى قانعين، مع حفنة استثناءات كما الحال فى الكويت، بقصر عملهم على الحيّز الاجتماعى، ورفضوا الانخراط فى اللعبة السياسية، رغم أن هذا المنحى انقلب رأسًا على عقب غداة الربيع العربى، حين بدأ السلفيون فى تشكيل الأحزاب السياسية فى مختلف الدول العربية، خاصة فى مصر حيث سَجّلوا أكبر النجاحات، ولكن، كيف أثّر هذا التسييس للسلفية على مواقفها الدينية، وعلى علاقتها بالقوى الاجتماعية والسياسية الأخرى؟
الواقع أن كبرى المفاجآت وقعًا فى حقبة ما بعد الثورة فى مصر، لم يكن الفوز الانتخابى لجماعة الإخوان المسلمين، إذ هذا ما توقعه الكثيرون، بل بروز حزب النور السلفى الذى تأسّس فى يونيو ٢٠١١ كمنافس قوى للإخوان، كثانى أكبر حزب فى البرلمان.
ومنذ البداية، أذهل السلوك السياسى لهذا الحزب معظم المراقبين الذين كانوا يتوقعون منه أن يتحوّل إلى حزب إسلامى يتموضع على أقصى يمين جماعة الإخوان، وأن يكون الأكثر تشدّدًا سياسيًا، صحيح أن الشيوخ السلفيين الذين يقفون وراء الحزب ينتمون إلى منظمة دينية تُدعى الدعوة السلفية، وكانوا يتخذون مرارًا وتكرارًا مواقف دينية قاسية ضد الجماعات غير السلفية، على غرار الصوفيين والشيعة أو المسيحيين، وكذلك ضد الأحزاب السياسية المنافسة لهم بما فى ذلك الليبراليون والإخوان، إلا أن الصحيح أيضًا أن الحزب طوَّر موقفًا غاية فى البراجماتية إزاء العمل السياسى، وتحالف مع مجموعات وأحزاب لا تشاطره الأيديولوجيا الدينية، وغداة ثورة الثلاثين من يونيو كالَ الليبراليون المديح لحزب النور الذى دعم التحرك الشعبى ضد الإخوان، ووصفوه بالاعتدال، فيما كانوا ينعتون الإخوان بأنهم غلاة متطرفون لا براء لهم، لكن العديد من الليبراليين أعادوا النظر فى موقفهم، حال أن تبيّن أن البراجماتية السياسية للحزب لا ترقى إلى التخلّى عن وجهات نظره الدينية، على الرغم مما بدا أنه محاولات منه للتراجع عن بعض مواقفه المثيرة للجدل.
يوفِّر حزب النور نموذجًا نادرًا لحزب هو فى آن شديد البراجماتية فى مواقفه السياسية ومتزمّت للغاية فى آرائه الدينية، وقد تأثّر التوازن بين هذين القطبين فى خطاب حزب النور بالتغيرات التى طرأت على قيادته. فى البداية، بذل مؤسّسو الحزب محاولات حثيثة وجدّية لتسوية بعض التناقضات بين مواقفه السياسية والدينية، عبر المجادلة بأن العمل السياسى بطبيعته له فضاء مختلف عن الدين، وينطوى على قواعد منفصلة، لكن فى أواخر العام ٢٠١٢، بسط الشيوخ سيطرتهم على الحزب، ما أسفر فى خاتمة المطاف عن مقاربة مغايرة للسياسة وذرائعية بالكامل، تستند إلى ما جرى اعتباره أولوية مصلحة الدعوة السلفية، وبالتالى، يمكن تفسير مواقف حزب النور الأخيرة عبر تحليله ليس كحزب إسلامى، بل كذراع من أذرع الضغط لصالح منظمة دينية لا يزال هدفها أساسًا تغيير المجتمع من تحت لا من فوق.
جذور حزب النور
تعود أصول هذا الحزب إلى الدعوة السلفية، وهى جماعة دينية قوية أُطلق عليها فى البداية اسم «المدرسة السلفية»، وتأسست فى العام ١٩٧٧ على يد أعضاء سابقين إسكندرانيين فى حركة طلابية تُدعى «الجماعة الإسلامية»، كان هؤلاء الأعضاء قد رفضوا قرار قيادة الجماعة بالانضمام إلى الإخوان المسلمين، فهم تبنّوا السلفية، واعتبروا فهم الإخوان للإسلام غير قويم، علاوةً على ذلك، لم تكن أولوية الدعوة مُنصبّة على العمل من أجل التغيير السياسى، بل على نشر المفاهيم السلفية فى المجتمع، ولهذا الغرض، حوّل أعضاء الدعوة أنفسهم إلى شيوخ، على الرغم من أنهم كانوا كلهم أطباء ومهندسين، وتمحورت نشاطاتهم على الدعوة فى مساجد الإسكندرية.
دعا الشيوخ فى عظاتهم إلى الالتزام بـ«الأصولية السنيّة» فى مواجهة معتقدات وممارسات الصوفية، والشيعة، والمسلمين الليبراليين، وشدّدوا على السلوكيات الاجتماعية المُحافظة للغاية التى قالوا إنهم استقوها من سنّة الرسول، فأصدروا الفتاوى والكتب التى تحظر الاختلاط بين الجنسين، ومصافحة الرجل للمرأة، وتشجيع الذكور المسلمين على إطالة اللحى، لكنهم تجنّبوا مناقشة القضايا السياسية الساخنة، وحين بحثوا بالفعل مسائل الحكومة، التزموا فقط بالبيانات النظرية العامة، فهم، على سبيل المثال، اعتبروا الديمقراطية وكل أنواع الأنظمة السياسية التى تستقى شرعتيها من الشعب لا من الله، مخالفة للعقيدة الإسلامية، وعلى الرغم من ذلك تجنّبوا إدانة النظام المصرى علنا، كما أنهم رفضوا الاشتراك فى الانتخابات، مُجادلين بأن التغيير لا يمكن أن ينبثق سوى من تحت، عبر نشر الدعوة لبلورة الطائفة المؤمنة.
هكذا ظروف مميزة وفريدة، جعلت الدعوة السلفية مختلفة عن الجماعات السلفية السابقة فى مصر، على غرار أنصار السنّة المحمدية التى تأسست العام ١٩٢٦، كان الآباء المؤسّسون للدعوة السلفية من الطلاب الناشطين فى فترة السبعينيات، ولذا قرروا تطبيق مبادئ النشاط المنظّم على السلفية، استند مشروعهم، بمعنى ما، إلى تقليد الهياكل التنظيمية لجماعة الإخوان المسلمين، لكنهم أحلّوا السلفية مكان الرسالة الإخوانية، وعلى الرغم من أن الدعوة السلفية لم ترقَ إلى مستوى التعقيد التنظيمى الذى ميّز الإخوان، إلا أنها مع ذلك بلورت هياكلها التنظيمية الخاصة التى يتربّع على رأسها «القيّم» أو (الرئيس العام) الموازى فى وظائفه للمرشد العام لدى الإخوان، هذا مع العلم أن البيعة الرسمية لم تكن مطلوبة فى حالة القيّم، وقد تم تكوين العديد من القطاعات والفروع، وشُكِّل مجلس الأمناء المكوّن من الشيوخ المؤسّسين للدعوة، وأُنيطت به مسئولية إدارة الجماعة، أما السلفية الحركية للدعوة، فقد جرى تبريرها عبر فتاوى سلفية، خاصة من طرف الشيخ السلفى المصرى المُجنّس كويتيًا عبدالرحمن عبدالخالق، الذى أضفى الشرعية الدينية على مفهوم «العمل الجماعى».
نما نفوذ الدعوة فى الثمانينيات وما بعدها، ليس بسبب هياكلها التنظيمية وما أسفرت عنه من قدرة على التعبئة وحسب، بل أيضًا لبروز ظروف سياسية مواتية، فلأنها لم تهتم ظاهريًا بالشأن السياسى، اعتبرت أجهزة الأمن المصرية عمومًا الدعوة منظمة حميدة أكثر من معظم الجماعات الإسلامية، وهكذا، جرى اعتقال حفنة ضئيلة فقط من أعضاء الدعوة غداة اغتيال الرئيس السابق أنور السادات العام ١٩٨١، فى حين زُجَّ إسلاميون من كل الفصائل فى السجون، بمن فيهم عناصر لا علاقة لها بالحدث، وفى العقود اللاحقة، خضعت الدعوة عمومًا إلى ضغوط أقل من تلك التى تعرّض إليها الإخوان والمجموعات الجهادية، لا بل أطلّت الحكومة فى بعض الأحيان على الدعوة كقوة توازن مُفيدة، وعلى الرغم من أن الدعوة أُجبرت على تفكيك بعض قطاعاتها وجرى اعتقال بعض قادتها مراراً - وهذا يشى بأن أجهزة الأمن كانت تفتقد إلى الثقة بالتزام الدعوة بالأمر الواقع الراهن - إلا أنه كان يطلق سراح أتباعها بشكل أسرع من بقية سرب الإسلاميين، على الرغم من أن الدعوة تمكّنت رغم القيود التى فُرضت عليها، من التوسّع على نحو كبير، ورسخت وجودها فى طول مصر وعرضها (خاصة فى الشمال)، وفى مناطق أبعد بكثير من معقلها الأصلى فى الإسكندرية، وثمة اعتقاد شائع بأن الهبات السخية التى تقدمها مؤسسات وأفراد فى منطقة الخليج، هى التى وفّرت للدعوة الموارد المالية للتوسّع والنمو، لكن من المستحيل إثبات ذلك.
تَسارَعَ نمو السلفية فى مصر، على الأخص فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، فمنذ العام ٢٠٠٦ وصاعدًا، منحت الحكومة تراخيص بث تليفزيونى لشيوخ السلفية، بدءًا من قناة الناس ولاحقًا قناة الرحمة، ويبدو أن الحكومة اكتشفت فيهم، مجددًا، فوائد سياسية، لأنها افترضت أنهم يسوقون المتدنيين المحافظين بعيدًا عن الخطاب المسيَّس لجماعة الإخوان والجماعات الجهادية، وفى نهاية ذلك العقد، اجتذب هؤلاء الشيوخ أكبر جمهور فى مصر، وكان معظم الشيوخ الذين يُطلّون على شاشاتها غير منتسبين إلى الدعوة، بل هم «شيوخ مستقلون» كالشيخ محمد حسين يعقوب، وأبو إسحق الحوينى ومحمد حسان، لكن، بما أن الدعوة باتت أكبر جماعة سلفية نشطة فى مصر، فقد ساعدت جاذبيتها المتزايدة على جذب آلاف الأعضاء الجدد إليها وزادت من توسُّع نفوذها وتمدّده.
دخول المعترك السياسي
أخذت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ ضد الرئيس السابق حسنى مبارك الدعوة السلفية على حين غرّة، فالشيوخ لم يعتقدوا البتة بأن التغيير يمكن أن يولد من رَحَمِ السياسة، ولذا نددوا بالحدث فى البداية بوصفه فتنة، وحثّوا أتباعهم على عدم الانخراط فى الاحتجاجات، والحال أن الدعوة لم تلتحق بمطالب التغيير إلا قبل أيام قليلة من سقوط مبارك، وكما حدث مع جماعة الإخوان، التى تعرّضت قيادتها إلى انتقادات داخلية بسبب عدم اقتناعها بالثورة فى أول أيامها، شهدت الدعوة انتقادات داخلية مماثلة، عماد عبدالغفور، وهو طبيب لعب دورًا حاسمًا فى تأسيس الدعوة فى أواخر سبعينيات القرن الماضى، كان أحد هذه الأصوات الناقدة، وعلى الرغم من أن روابطه مع الجماعة تراجعت مع الوقت، خاصة خلال تواجده فى الخارج (بما فى ذلك تركيا التى أمضى فيها معظم العقد الأول من هذا القرن)، إلا أنه كان لا يزال يحظى بثقل وازن بين الشيوخ، وبعد أيام قليلة من استقالة مبارك فى ١١ فبراير، قرر عبدالغفور، الذى ادعى بأنه كان من أوائل الداعمين للثورة، أن ثمة فى الأفق حقبة ثورية جديدة، ما يحتم على السلفيين أن يكون لديهم حزبهم السياسى الخاص كى يكون لهم قول وشأن فى عملية الانتقال، وعلى إثرها، دأب على مقابلة الشيوخ الواحد تلو الآخر، وأقنعهم فى نهاية المطاف بالسماح بتشكيل حزب النور الذى سيكون بقيادته.
شاب التوتر الحاد، منذ البداية، العلاقة بين الحزب والدعوة، وفى مقابلة فى إبريل ٢٠١١، اعترف ياسر برهامى، الذى أصبح رسميًا الشخصية الثانية بعد «القيّم» أبوإدريس لكنه فى الواقع الرجل الأقوى فى الجماعة، بوجود علاقة بين الدعوة وحزب النور، لكنه رفض وصف هذا الأخير بأنه الذراع السياسية للدعوة. فالشيوخ لم يعتقدوا بأن مشروع عبدالغفور يمكن أن يقطف ثمرة النجاح، أو هم ربما كانوا خائفين من أن مواقف الحزب يمكن أن تُلحق الضرر بالدعوة. 
تواصل تدهور العلاقة بين عبدالغفور وبرهامى، إنما متباينة. وبحلول خريف العام ٢٠١١، أمسى واضحًا أن حزب النور بات يشكّل تجربة ناجحة، فقد تضاعف عدد أعضائه، وطَرَحَ مرشحين للانتخابات التشريعية فى الدوائر الانتخابية كلها، وغَزَتْ ملصقاته الانتخابية كل المناطق، وحظى بدعم عدد كبير من أبرز الشيوخ السلفيين المستقلين، وهكذا، فاز حزب النور، فى إطار «ائتلاف إسلامى» كان الشريك الأساسى فيه، بنحو ٢٥ فى المائة من الأصوات فى الانتخابات البرلمانية، ليصبح بذلك ثانى أكبر حزب سياسى فى مصر، بعد حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين.
أصاب عبدالغفور هذا النجاح، بعد أن نأى بالحزب عن النقاشات الدينية الخلافية التى كانت طاغية فى أوساط الدعوة السلفية، وهو أرسى خطابًا سياسيًا غير متوقَّع، من نواحٍ كثيرة، ما دفع بالحزب إلى التعهّد باحترام الأصول والقواعد الديمقراطية، وتعيين شباب فى منصب ناطقين باسم الحزب، لتقديم نفسه فى صورة الحزب الذى يلبّى تطلعات الجيل الجديد، وللتشديد على أن قادته لاعبون جدد (أو نظيفو الكف)، وإظهار نفسه بأنه مؤيّد للثورة ومنفتح على الفرقاء السياسيين الآخرين فى الداخل والخارج على حدٍّ سواء، بل اتّسم خطابه بلمسات شبه يسارية، لا سيما عندما حاول السلفيون أن يصوّروا أنفسهم على أنهم الممثلون الحقيقيون للفقراء، متّهمين الإخوان المسلمين ضمنًا بأنهم مرشّحو البُرجوازية المحافظة، احتفظ الحزب باعتزازٍ بهويته الإسلامية، وواظب على الدعوة إلى تطبيق الشريعة، لكنه أصرّ على اتّباع مسار تدريجى وحميد، وصبّ عبدالغفور تركيزه على السياسة، لا على الفقه الدينى، حتى أنه رفض توصيف الحزب بـ«السلفى»، معتبرًا أنه «حزب جميع المصريين».
النقاش حول أهداف حزب النور
أثارت المكاسب الانتخابية الضخمة التى حصدها الحزب، اهتمام ياسر برهامى الذى لم يؤمن فى البداية بالمشروع، لكنه بات الآن مقتنعًا بأن حزب النور يمكن أن يشكّل أداة فعّالة فى أيدى الدعوة، جُلّ ما كان يحتاجه هو السيطرة على الحزب، وهو رأى فى ذلك عين العدل، لأنه اعتبر أن الفضل الوحيد فى الإنجازات التى حققها حزب النور يُعزى إلى النفوذ الذى تتمتع به شبكات الدعوة السلفية، لا إلى جاذبية الخطاب السياسى للحزب، كما ادّعى عبدالغفور، وهكذا، انقسم الحزب، فى العام ٢٠١٢، إلى فصيلَين: أتباع رئيسه عبدالغفور وأتباع برهامى، رجل الدعوة القوى.
لم يتمحور الانقسام حول الصراع على السلطة بين عبدالغفور وبرهامى وحسب، بل كانت ثمة مسألة أعمق على المحك، أراد عبدالغفور ومعاونوه أن يكون حزب النور حزبًا سياسيًا، شأنه فى ذلك شأن جميع الأحزاب الأخرى، ما يعنى تبنّيه بالكامل لقواعد اللعبة السياسية، كان الحزب لا يزال يعتبر نفسه حزبًا دينيًا، لكنه كان منفتحًا على كوكبة من التحالفات من أجل تحقيق أهدافه والانضواء تحت لواء الحكومة مع برنامج سياسى قابل للتطبيق، بل عَمَدَ عبدالغفور إلى تشكيل فريق من الأكاديميين غير السلفيين بمعظمهم لوضع البرنامج، واعتبر أن من غير الممكن تحقيق الهدف الذى يصبو إليه إلا عبر جعل الحزب منفصلًا بالكامل عن الدعوة، قال أحد المعاونين المقرّبين منه: «قد نستشير شيوخ الدعوة الذين نجلّهم كثيرًا إذا كنا نحتاج إلى فتوى منهم حول مسألة محددة، لكننا لا نريدهم أن يتدخّلوا فى الشئون اليومية للحزب لأنها شأن سياسى، والسياسة ليست من اختصاصهم». شاطَرَ عدد كبير من الأشخاص الذين تجمعهم علاقة بالحزب منذ بدايته، عبدالغفور فى مواقفه وآرائه، أحد أسباب ذلك هو أن العديد منهم لم يكونوا على ارتباط وثيق بالدعوة السلفية - نتيجة امتعاضها فى البداية من حزب النور - لا بل إن عدد الشيوخ فى صفوفهم كان قليلًا جدًا. وبعدما أصبح حزب النور ناشطًا فى اللعبة السياسية، بات عدد كبير من أعضائه ينظرون إلى أنفسهم أكثر فأكثر كسياسيين، وأدركوا مدى اختلاف ذلك عن تركيبة ودور الشيخ.
كانت لدى «برهامى» خطة أخرى للحزب، فهو اعتبر أن مكاسب الحزب يجب أن تعود بالفائدة على الدعوة السلفية، وأن على مواقف الحزب أن تضع مصلحتها فوق كل اعتبار. بالطبع، كان برهامى سعيدًا بفكرة أن حزب النور يضغط، حيثما تمكّن، لاعتماد تشريعات مستندة إلى الشريعة، لكنه اعتبر أن ذلك لا ينبغى أن يتم على حساب الدعوة. وهكذا، لم يكن برهامى مستعدًا ليُطلّ على حزب النور كحزب سياسى عادي، بل اعتبره، قبل كل شيء، ذراع الدعوة الضاغِط، أو ما يُسمّى باللوبى فى المضمار السياسى، ويمكن القول إن موقف برهامى لم يشهد أى تغيير فعلى منذ مرحلة ما قبل العام ٢٠١١، فقد حافظ على نظرته التى لا ترى السياسة إلا أنها أداة للتغيير بحد ذاتها، على الأقل ليس قبل أن يصبح المجتمع جاهزًا على الصعيد الدينى، وقد ردّدت الدعوة مرارًا وتكرارًا أن الإصلاح لن يتحقق إلا من خلال نشر الإسلام السلفى فى المجتمع، وأن حماية الكيان الذى ينشر الدعوة السلفية هو الهدف الوحيد الذى يستحق العناء.
على الرغم من التباين الشاسع بين الدعوة السلفية والإخوان المسلمين، شكّل هذا النزال بطريقة من الطرق انعكاسًا للنقاش القائم منذ منتصف التسعينيات بين «إصلاحيى» الإخوان من جهة - الذين كانوا مستعدّين للانخراط الكامل فى السياسة وتقديم التنازلات اللازمة، بما فى ذلك الفصل بين الجماعة وأنشطتها السياسية - و«المحافظين» الذين يُعرَفون أيضًا بالتنظيميين من جهة ثانية، والذين اعتبروا أن التغيير الحقيقى لا يمكن أن يحدث إلا من خلال الجماعة، كان هذا نقاشًا فكريًا وتنظيميًا، تمامًا كما النقاش داخل حزب النور، فى خاتمة المطاف، سيطر التنظيميون بقيادة خيرت الشاطر على الإخوان اعتبارًا من العام ٢٠٠٩، ما أطلق فى وجههم موجة جديدة من الانتقادات ذات النزعة الإصلاحية غداة الثورة، أومأ يسرى حماد، الناطق السابق باسم حزب النور والمنشق عنه، إلى المقارنة بين الدعوة والإخوان، قائلاً: «أراد برهامى أن نرتكب الأخطاء نفسها التى انتُقِد الإخوان المسلمون عليها!».
استهدف برهامى، فى خضم مساعيه الرامية إلى تحدّى عبدالغفور والتشكيك فى استقلاليته، براجماتيةَ الحزب «المُفرطة»، عبر تذكير جمهوره بالخطوط الحمر الدينية التى لا يجوز للسلفيين تجاوزها، وذلك من خلال سلسلة من الفتاوى التى بُثّت على موقعه الإلكترونى منذ يناير ٢٠١٢. انتقد برهامى، فى إحدى الفتاوى عبدالغفور على خلفية تصريحه فى برنامج حوارى بأن حزب النور منفتح على أشخاص من مختلف الخلفيات الدينية، وبأنه يأمل أن يترشّح مسيحيون على قوائم الحزب مُستقبَلًا، مما اعتبره برهامى من المحظورات، لأنه لا يجوز السماح للمسيحيين بدخول مجلس النواب كى لا يحصلوا على ولاية على المسلمين، كما أنه انتقد تصريح عبدالغفور بأن حزب النور منفتح على التحالفات مع جميع الفرقاء السياسيين، وليس الإسلاميين فقط، بما فى ذلك حزب المصريين الأحرار الذى أسّسه رجل الأعمال المسيحى نجيب ساويرس، وشدّد على أن «أى تحالف مع مجموعات تعارض شريعة الله، ممنوع منعًا باتاً». ولاحقًا، فى العام ٢٠١٢، جرى مؤقتًا تعليق عضوية محمد نور، الناطق باسم الحزب وأحد معاونى عبدالغفور، بعدما انتقد شيوخ الدعوة فى العلن حضوره حفلًا فى السفارة الإيرانية، كذلك، شنّ برهامى هجومًا على عبدالغفور لأنه شارك فى فعاليات العيد الوطنى فى السفارة التركية، مشيرًا إلى أن المناسبة لم تكن سوى «احتفال بانتهاء الخلافة العثمانية». وفقًا لأحد معاونى برهامى، كان سلوك عبدالغفور البراجماتى يشى بأنه يحاول تطبيق «النموذج التركى» للإسلام السياسى داخل حزب النور، وهذا أمرٌ مرفوض.
المرة الأخيرة التى تقاطع فيها الفصيلان (اللذان يتألف منهما حزب النور) حول قواسم مشتركة، كانت خلال الانتخابات الرئاسية، عندما اتّخذا معًا القرار بعدم تقديم مرشح للانتخابات ودعم عبدالمنعم أبوالفتوح، الإصلاحى المنشق عن الإخوان المسلمين الذى عرّف عن نفسه بأنه إسلامى ليبرالى، وحاول تشكيل ائتلاف واسع يضم أحزابًا وأفرادًا من طرفى الطيف السياسى، لكن كان لكل فصيل منطق مختلف، فقد رأى أنصار عبدالغفور فى أبوالفتوح خيارًا مقبولًا لأنه إسلامى توافقى، وكان انتخابه ليوفّر الحظوظ الأفضل لضمان استمرارية العملية السياسية والحؤول دون العودة إلى الدولة الأمنية، لكن مرشح الإخوان المسلمين، محمد مرسى، كان يتمتع أيضًا بشعبية فى أوساط هذه المجموعة.
أما برهامى وحلفاؤه فكانوا ينظرون إلى الأمور بطريقة مختلفة تمامًا، كان هدفهم الأساسى منع انتخاب مرسى، بسبب الخصومة المديدة بين التنظيمَين والاعتقاد بأن منح السلطة إلى الإخوان قد يلحق الضرر بالدعوة السلفية.كانت الهيمنة السياسية للإخوان، فى نظر هؤلاء، ستُفضى فى نهاية المطاف إلى فرض هيمنتهم على المستوى الدينى، لذلك كان من الضرورى منع مرسى من الوصول إلى السلطة، بغية حماية حضورهم الدينى، على الرغم من أن برهامى وحلفاءه كانوا مضطرّين لدعم مرشح إسلامى (ولاسيما بعد الفتوى الصادرة عن برهامى، والتى انتقد فيها انفتاح عبدالغفور على الليبراليين)، وهكذا بقيت أمامهم ثلاثة خيارات: حازم صلاح أبواسماعيل الذى يصف نفسه بالسلفى الثورى، والذى لم تكن تربطه أى علاقة بالدعوة السلفية وكان يُعتبَر عصيًا للغاية على الإخضاع سياسيّاً، ومحمد سليم العوا الذى كانت حظوظه بالفوز شبه معدومة، ويُقال إن لديه علاقات جيدة مع إيران (الأمر الذى كان موضع استهجان من السلفيين)، وأبوالفتوح الذى كان برهامى وحلفاؤه يمقتونه على المستوى الدينى، لكنهم اعتبروه أهون الشرور.
منذ خسارة أبوالفتوح فى الجولة الأولى (أحد أسباب ذلك أن القواعد الشعبية السلفية لم تكن متحمّسة لدعم مرشّح يعتبرونه ليبراليًا)، واجه قياديو حزب النور معضلة أخرى فى الجولة الثانية: محمد مرسى أم أحمد شفيق، آخر رؤساء الحكومة فى عهد مبارك، وقد قرّروا على مضض تأييد «المرشح الإسلامى» مرسى، مع أنهم لم يدعموا فعلًا حملته، لكن قُبيل الإعلان عن النتائج، قام برهامى بزيارة ودّية إلى شفيق للتفاوض على شروط مؤاتيه فى حال فوزه بالرئاسة.
خلال النصف الثانى من العام ٢٠١٢، باتت الانقسامات فى صفوف حزب النور أكثر وضوحًا للعيان، فقدvv بدأ أتباع عبدالغفور يتهمون برهامى بالتدخّل فى شؤون الحزب، عبر الضغط لتعيين أنصار الدعوة السلفية فى مناصب إدارية رفيعة، وبما أن حزب النور كان يتجه إلى إجراء انتخابات داخلية فى خريف ذلك العام، كان الهدف على ما يبدو إقصاء عبدالغفور وأعضاء فريقه واستبدالهم بأشخاص موالين للدعوة. وللتعبير عن احتجاجهم، شكّل أتباع عبدالغفور «جبهة إصلاحية» داخل الحزب، طالبوا عبرها بالفصل بينه وبين الدعوة السلفية، وهذا ما كانوا يصرّون عليه طوال عام، إنما ليس فى العلن، وتصاعدت وتيرة التشنجات بشكلٍ مطّرد، مع قيام شخصيات موالية لبرهامى بالإعلان عن إقالة عبدالغفور من الحزب فى سبتمبر ٢٠١٢، فردّ هذا الأخير وحلفاؤه فى ديسمبر ٢٠١٢ أنهم بصدد مغادرة حزب النور لإنشاء حزبهم السياسى الخاص المسمّى حزب الوطن، الذى يحمل شعارَى «فصل السياسة عن الدعوة» و«تفضيل الكفاءة على الولاء للشيوخ».
انتصرت الدعوة السلفية بزعامة برهامى فى نهاية المطاف، ففى التاسع من يناير ٢٠١٣، انتُخِب يونس مخيون، أحد معاونى برهامى المقرّبين، رئيسًا للحزب بالتزكية، ومُنى خط عبدالغفور بالهزيمة، وبعد نحو عامَين من الالتباسات، غدا حزب النور الذراع السياسية للدعوة السلفية.
البراجماتية السلفية
مع ذلك، لم تؤدِّ سيطرة برهامى والدعوة السلفية على حزب النور إلى وضع حدٍّ لبراجماتية الحزب، إلا أن المنطق وراءها قد تغيّر، بفعل جملةٍ من الاعتبارات، هذا فضلًا عن أن الدعم الفاتر الذى منحه حزب النور لمرسى خلال الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، لم يفعل الكثير لرأب الصدع فى العلاقة بين الدعوة والإخوان. ويبدو أن الحزب أمل بأن يُشركه مرسى فى حكومة الوحدة الوطنية التى كان قد قطع وعدًا لأنصاره بتشكيلها بين الجولتَين الانتخابيتين. لكن على غرار معظم الفرقاء السياسيين الآخرين الذين راهنوا على مرسى، شعر حزب النور بخيبة أمل شديدة، فعلى الرغم من أنه ثانى أكبر قوة سياسية فى البلاد، كما أنه حزب إسلامى على غرار الإخوان، لم يُعيَّن سوى ثلاثة من أعضائه فى فريق مرسى الرئاسى، هما خالد علم الدين وبسام الزرقا (عُيِّنا فى هيئة استشارية رئاسية واسعة ومحض رمزية)، فيما عُرِض على عبدالغفور، رئيس حزب النور آنذاك، منصب معاون رئاسى لشئون الحوار الاجتماعى، وأدّى منح المنصب الأرفع بين المناصب الثلاثة إلى عبدالغفور لتفاقم الأمور مع الدعوة السلفية، التى رأت فى الخطوة محاولةً من الإخوان للضرب على وتر الانقسامات فى صفوف حزب النور.
على الرغم من ذلك، حاول حزب النور فى البداية التأقلم مع الواقع السياسى الجديد، وتجنُّبَ انتقاد مرسى، وكان الدستور هو القضية التى لمّت شمل الإخوان المسلمين وحزب النور، فالبرلمان كان عيّن جمعيةً دستوريةً أوائل يونيو ٢٠١٢، أى قبل أن تحلّه المحكمة الدستورية بأسابيع قليلة، ضمّت فى صفوفها أعضاء متعاطفين مع كلّ من الإخوان المسلمين والسلفيين، بلغوا النسبة نفسها تقريبًا كما فى البرلمان (أى حوالى الثلثيْن). وهكذا تشاطر الفصيلان المصلحة نفسها القاضية بتعزيز نفوذ الإسلام فى الدستور، الأمر الذى واجه معارضةً شديدةً من أعضاء الجمعية الآخرين (ولاسيما الليبراليون والمسيحيون)، والذى أنتج تحالف الطرفين الموضوعى هذا فى نهاية المطاف دستور ديسمبر ٢٠١٢، الذى أبقى على المادة الثانية من دستور العام ١٩٨٠ («مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع»)، لكنه أضاف المادة ٢١٩ التى تنصّ على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، فى مذاهب أهل السنّة والجماعة»، وذلك للحرص على أن تكون المادة الثانية الآن مُلزِمةً قانونًا.
غيّر حزب النور بشكل ملحوظ موقفه العلنى من مرسى فى يناير ٢٠١٣، ووجّه الناطق باسمه بيانات انتقادية أكثر فأكثر، هذا التغيير فى الموقف يُعزى إلى أسباب ثلاثة، يتلخّص أوّلها بأن السلفيين والإخوان المسلمين فقدوا بعد اعتماد الدستور (من جانب الجمعية الدستورية، وبموجب استفتاء حصل فيه على ٦٣ فى المائة من الأصوات)، المصلحة المشتركة الأخيرة التى كانت تجمعهما، والسبب الثانى أن الرياح السياسية بدأت تنقلب على مرسى غداة الإعلان الدستورى الذى أصدره فى أواخر نوفمبر ٢٠١٢، وأغدق بموجبه حصانةً قضائية على القرارات الرئاسية، فكان أن أثارت هذه الخطوة تظاهرات وصدامات دموية أمام القصر الرئاسى، صحيح أن حزب النور عارض الاحتجاجات الأوّلية باسم الحفاظ على «الاستقرار والنظام»، إلا أنه طَفَقَ هو أيضًا فى إطلاق انتقاداته، أما السبب الثالث، ولربما الأهم، فهو أن التغييرات والتعيينات التى كان يجريها مرسى فى الوزارات، بدأت تثير قلق الدعوة السلفية التى كانت سيطرت على حزب النور آنذاك. وكما أوضح باتريك هينى، اعتمد الإخوان مواقف متباينة إزاء مؤسسات الدولة، انطلاقًا من كونها قوية أم ضعيفة. وهكذا لم يعيّن مرسى قط أعضاء من جماعة الإخوان أو شخصيات تناصرها جهارًا فى المؤسسات القوية، على غرار الجيش أو وزارة الداخلية، بل حاول فقط ترقية مسئولين من الصف الثانى، وهو أقدم على ذلك بعد عقدِ اتفاقٍ معهم يضمن فيه ولاءهم، علمًا بأن اللواء عبدالفتاح السيسى، وهنا المفارقة، اختير وزيرًا للدفاع استنادًا إلى هذا التوجه، أما فى المؤسسات الضعيفة، فقد انخرطت جماعة الإخوان المسلمين على نحو أوسع، إحدى تلك المؤسسات كانت وزارة الأوقاف، حيث استبدل مرسى معظم أفراد طاقم العمل بموالين لجماعة الإخوان، ولم يمضِ بعدها وقت طويل حتى اقترح مرسى إنشاء نقابة للدعاة، وهى خطوة رأت فيها الدعوة السلفية، التى تضمّ فى صفوفها العديد من الشيوخ الذين لا يحملون شهادات دينية، محاولة أخرى لتهميشها، واعتبرت هذه الإجراءات بمثابة تمهيد لاستيلاء جماعة الإخوان على المجال الدينى. وكان ذلك تهديدًا وجوديًا.
شرع حزب النور، من أوائل العام ٢٠١٣ وصاعدًا، فى التحوّل إلى حزب مُعارِض، فانضمّ إلى مجموعات سياسية أخرى فى شجبها «أخونة الدولة»، كان هذا المصطلح قد أضحى شعارًا تبنّاه الناشطون المناهضون لجماعة الإخوان، لكنه فى الواقع برز للمرة الأولى فى خطاب حزب النور فى بيان ألقاه المتحدثّ باسم الحزب نادر بكار، فى أواخر يناير ٢٠١٣. وبعدها بفترة وجيزة، زعم حزب النور أن بحوزته سجلًا يوثّق حالات الأخونة كلها، مهدّدًا بنشره، يُشار إلى أن شخصيات من حزب النور انتقدت جهارًا، فى أوائل فبراير ٢٠١٣، الزيارة الرسمية التى قام بها الرئيس الإيرانى آنذاك محمود أحمدى نجاد إلى مصر - تلبيةً لدعوة مرسى - واتّهمته بنشر التشيّع، وبهذه الخطوة أصاب حزب النور عصفورين بحجر واحد، إذ أعاد التأكيد على تشدّده إزاء الشيعة، وحَمَلَ فى الوقت نفسه على جماعة الإخوان.
ردّت هذه الأخيرة باتّهام خالد علم الدين، أحد العضوَين السلفيَّين فى الفريق الاستشارى الرئاسى بالفساد، وعمدت إلى فصله، أنكر علم الدين الاتهامات فى مؤتمر صحفى، فيما قدّم باسم الزرقا استقالته مؤازرةً لزميله، وبذلك أضحى فريق مرسى الرئاسى من دون ممثّل عن حزب النور (بقى عبدالغفور فى موقعه، ولكن بصفته رئيس حزب الوطن)، لم تؤدِ هذه التطورات سوى إلى تعزيز عزم حزب النور على الانضمام إلى صفوف المعارضة، على الرغم من أن جماعة الإخوان لم تقف عند هذا الحدّ، بل واصلت استراتيجيتها العقابية، واحتجزت برهامى لساعات فى مطار الإسكندرية إبّان عودته من المملكة العربية السعودية، حيث أدّى مناسك العمرة، ومع أن السلطات أطلقت سراح برهامى سريعًا، اعتبر السلفيون هذا الإجراء بمثابة إعلان حرب، والواقع أنه لا يزال من غير الواضح مدى اتصالات حزب النور مع لاعبين آخرين كان لهم يد فى سقوط مرسى، ولاسيما الجيش، مع أن الصحف تحدّثت عن لقاءات جمعت أعضاء من حزب النور بليبراليين، ورَمَت إلى تشكيل جبهة مشتركة باسم «الوحدة الوطنية»، لكن هذه الخطوة لم تُبصر النور، لكن من الواضح أن برهامى، ومع اكتساب حملة التمرّد زخمًا، واقتراب موجة احتجاجات ٣٠ يونيو ٢٠١٣، أدرك أن ميزان القوى لم يعد يميل لصالح الإخوان المسلمين، وكان هو سعيدًا بهذه الحصيلة.
صحيح أن برهامى لم يدعُ أعضاء حزب النور إلى المشاركة فى الاحتجاجات المناهضة لمرسى، إلا أنه قال «إذا خرج الملايين فى ٣٠ يونيو، فسأطالب مرسى بالاستقالة»، وفى ٣ يوليو ٢٠١٣، حين أعلن السيسى، الذى كان وزيرًا للدفاع وقتها، أن مرسى لم يعُد رئيسًا لمصر وأن الجيش سيشرف على تطبيق خريطة طريق جديدة، كان جلال مرة، أحد كبار الممثّلين عن حزب النور، من بين القادة القلائل الجالسين وراء السيسي: الشخصية الليبرالية محمد البرادعى، ومؤسّس حملة تمرّد محمود بدر، وشيخ الأزهر أحمد الطيب، وبابا الإسكندرية تواضروس الثانى. وبرّر برهامى موقف حزب النور بأنه كان السبيل الوحيد «لحماية الهوية الإسلامية فى الدستور، وضمان وجود حزب إسلامى قادر على صون مكاسب التيار الإسلامى ككلّ».
السلفيون في عهد السيسي
عديدةٌ هى الأسباب التى تدفع حزب النور إلى الشعور بعدم الرضى، بعد مضيّ أكثر من ثلاثة أعوام على الثلاثين من يونيو. فسرعان ما بدا جليًا أن النظام الجديد لم يكن ينوى إعطاء السلفيين الأهمية التى كانوا يأملون، فهُم حُرِموا من أى تمثيل فى الحكومة الانتقالية، ولم يُمنَحوا إلا مقعدًا واحدًا من أصل خمسين فى الجمعية الدستورية التى عُيّنَت فى صيف العام ٢٠١٣. وهكذا لم يكن فى مقدورهم التأثير فى مضمون الدستور الجديد. توقف بسام الزرقا عن حضور اجتماعات الجمعية، واستُبدِل بعضو آخر فى حزب النور هو محمد منصور، لكن السلفيين ألقوا آنذاك بلائمة تهميشهم على الليبراليين الذين احتفظوا بنفوذ كبير فى الشأن العام، صحيح أن بعض العلمانيين الأكثر راديكالية طالبوا علنًا بحلّ حزب النور، على أساس أنه «حزب دينى» والدستور الجديد يحظّر الأحزاب الدينية، غير أن السلطة القائمة لم تحبذ مع أنهم سمحوا للدعوة السلفية بالاحتفاظ بمعظم تواجدها الاجتماعى، إلا أنهم حرصوا على أن تشعر الحركة بالضغط الشديد للدولة.
يبدو أن حزب النور لم يضع فى الحسبان أن غياب جماعة الإخوان بصفتها منافسًا له، أتاح بروز طرف فاعل آخر قد يطالب بالإشراف على المساجد، هو الأزهر، فقيادة الأزهر لطالما عارضت السلفيين بشدة، وهى تتبنى عمومًا شكلًا تقليديًا من الإسلام مع ميول صوفية. صحيح أن موقف الأزهر المؤيّد لمبارك، أدّى إلى انحسار نفوذه الاجتماعى كثيرًا فى العقود الفائتة، ثمّ إلى تراجعه بشكل أكبر غداة الثورة، إلا أنه ظلّ يتمتّع بثقل رمزى ومؤسسى هائل. ثمّ أن شيخ الأزهر نفسه أحمد الطيب، وهو ذو تأهيل صوفى، رأى فى ٣٠ يونيو (الذى كان دعمه بدايةً) فرصة لاستعادة سلطته، وفى المقابل، أطلّ النظام الجديد على الأزهر، وهو مؤسسة حكومية، بوصفه شريكًا يعتدّ به أكثر من السلفيين.
وهكذا وقع خيار النظام الجديد على الأزهر لمحاولة استعادة النفوذ الاجتماعى والدينى الذى خسره لصالح الإسلاميين، عبر استخدام ذراعه الدينية، أى وزارة الأوقاف التى يرأسها أزهرى سبق أن عمل مع الطيب، وهو محمد مختار جمعة. اعتمدت الوزارة، بدءًا من مارس ٢٠١٤، عددًا من القوانين والمراسيم التى تقضى بوضع مساجد مصر كافة تحت سيطرة الدولة، وأصبح شرطًا لازمًا أن يكون الأئمة من خرّيجى الأزهر، فى حين ينبغى أن يستحصل مَن لم يكن من هؤلاء الخريجين، كما هو حال العديد من أئمة الدعوة السلفية، على ترخيص يجيز له إلقاء الخطب بعد اجتياز امتحان. كما أُعلِن أنّ على خطباء الجمعة كافة فى مصر أن يلقوا الخطبة نفسها التى ترسلها إليهم الوزارة.
حملت هذه الإجراءات فى طيّاتها تهديدًا نظريًا كبيرًا للسلفيين، لكن بما أن النظام كان يفتقر إلى الموارد البشرية للسيطرة على المجال الدينى، ولم يُرِد إعلان حرب شاملة على السلفيين، تمّ استثناء معظم أئمة الدعوة السلفية، ومع ذلك، كانت هذه الخطوات كافية للحؤول دون توسّع الدعوة أكثر، وإبقاء السلفيين قيد المراقبة عن كثب.
تلقّى حزب النور الضربة القاضية فى انتخابات عام ٢٠١٥، حين كان الحزب الدينى الوحيد فى المنافسة. توقع بعض أعضائه أن يُبلى الحزب بلاءً حسنًا، بما أنه الخيار الانتخابى الوحيد للمتديّنين المحافظين. إلا أن النتائج جاءت على عكس ذلك تمامًا، فقد فاز الحزب باثنى عشر مقعدًا فقط من أصل ٥٩٦، أى ٢ ٪ تقريبًا من إجمالى المقاعد، وأقل من النتيجة التى كسبها فى عام ٢٠١١ بأكثر من عشر مرات. 
كان أداء حزب النور سيئًا فى الأماكن التى كان فيها حضور الدعوة السلفية محدودًا تاريخيًا. لكن فى معاقل الدعوة السلفية، حققت قوائم حزب النور نتائج أفضل بكثير، إذ حصدت ما يصل إلى ٣٠ فى المئة من الأصوات فى منطقة غرب الدلتا. بيد أن ذلك لم يكن كافيًا للحصول حتى على مقعد واحد. أما العدد القليل من أعضاء حزب النور الذين دخلوا البرلمان فقد تمّ انتخابهم عن المقاعد الفردية بعد الجولة الثانية فى أماكن مثل الإسكندرية أو كفر الشيخ. وعلى الرغم من أن حزب النور حاول تسليط الضوء على تلك النجاحات القليلة فإن ذلك لم يكن كافيًا للتصدى للانطباع بأنه مُنى بخسارة مجلجلة.
خلال السجال الذى أطلقته هذه النتائج، طفت مجدّدًا على السطح مطالب من داخل الدعوة السلفية تنادى باعتزال السياسة نهائيًا والعودة إلى العمل الدعوى. كما انشقّت فروع عن حزب النور بهدف العودة إلى النشاط الدعوى البحت.
بدا فى تلك المرحلة أن الهزائم التى تنهار على رأس الدعوة السلفية من جرّاء انخراطها السياسى، تفوق بأشواط المكاسب التى تحصد. إذن، لماذا رفض برهامى وحلفاؤه الانسحاب من العمل السياسى؟ ثمة تفسير مُحتمل هو أن برهامى كان يعتقد بأن استراتيجية حزب النور ستأتى أُكلها فى نهاية المطاف.
وقد رأت شخصيات عدّة فى حزب النور بأن انتخابات عام ٢٠١٥ برهنت على قدرة الحزب على البقاء والاستمرار، وتجلّى ذلك على الأخص فى معاقله، كما اعتبروا أن الحزب سيُحرز نتائج أفضل فى الانتخابات المحلية العتيدة. لكن التفسير الأكثر ترجيحًا هو أن الدعوة السلفية لا يمكنها ببساطة أن تعود القهقرى إلى الوضع الذى كانت عليه فى مرحلة ما قبل عام ٢٠١١. ذلك أن النظام والرأى العام قد يعتبران قرار حزب النور اعتزال السياسة رفضًا للنظام السياسى الراهن. ولذا، أراد حزب النور البقاء فى اللعبة حرصًا على ديمومة المنظومة الدينية التى تقف وراءه. فسياسات حزب النور لا تزال خاضعة إلى الإملاءات التى تفرضها مصالح الدعوة السلفية.