الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة "12"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في كثير من جوانبه، لا يُعد الإرهاب ملمحًا فارقًا بين المجتمعات التي نجحت في إقامة «الدولة المدنية الحديثة»، وغيرها التي ما زالت تحيا داخل صيغ دينية أو بوليسية أو عسكرية. ذلك أن الإرهاب بات بالفعل قضية المجتمع الدولى بأسره، وأصبح له دوره الفاعل في منظومة العلاقات الدولية المعاصرة، ومن هنا احتل موقعه داخل الأجندة الأممية الجديدة التي سيطرت على أداء منظمة الأمم المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، وانفراد الولايات المتحدة بزعامة النظام الدولى، شأنه في ذلك شأن قضايا الهجرة غير الشرعية، والإتجار في البشر، وتجارة السلاح والمخدرات، فضلًا عن القضايا الناشئة عن حركة رءوس الأموال والسلع والخدمات والبشر حول العالم.
فليس من شك أننا نعيش عصر انتشار الإرهاب، وتعدد منطلقاته الفكرية، واتساع دوائر نشاطه، وشيوع تبعاته السلبية، ما يعنى أن هناك تحديًا بات يواجه «الدولة المدنية الحديثة»، بما تمتلكه من قيم ومبادئ سياسية واقتصادية واجتماعية كلها لا تسمح بتوفير أرض خصبة لنمو الإرهاب كظاهرة، ومن ثم يتبين أن الإرهاب، كظاهرة عالمية، في صدام واضح مع «الدولة المدنية الحديثة»، وإن غزت بالفعل بعض الدول التي لم تصل بعد إلى بناء حقيقى يعبر عن وجود حقيقى «للدولة المدنية الحديثة».
وفى هذا الشأن نؤكد على مجموعة من الملاحظات الموجزة، عسى أن نفرد لها مساحة أكبر، وتفصيلًا دقيقًا، في مقالات لاحقة، فأقول:
أبرز الدول الدينية في العالم، إسرائيل وإيران، تربطهما عداوات واضحة، وتكاد تخلو كل منهما من الداخل من هجمات إرهابية، وإن بقى الإرهاب لصيقًا بهما، فإسرائيل تمارس كل أشكال «إرهاب الدولة» في مواجهة الفلسطينيين الساعين إلى نيل حقهم المشروع في إقامة دولتهم المستقلة، بينما قادة إسرائيل يصورون الكفاح الفلسطينى باعتباره إرهابًا وليس نضالًا وطنيًا مرت به كثير من المجتمعات، يساندهم في ذلك مجموعة معتبرة من قادة «الدول المدنية الحديثة»!، على رأسها بالقطع الولايات المتحدة الأمريكية. والمدهش أن إسرائيل تعتمد على توثيق صلاتها بكثير من الدول، خاصة في أفريقيا، باعتبارها صاحبة خبرات أمنية مميزة في مكافحة الإرهاب، ومن هنا نجد أن شركاتها الأمنية تعد مفتاح دخولها إلى القارة السمراء، بما توفره من كوادر أمنية تدريبية، وتكنولوجيا أمنية وعسكرية. 
بينما الاتهامات الدولية لإيران بدعمها الإرهاب قديمة، إذ تبدأ منذ إعلانها نفسها جمهورية إسلامية عام ١٩٧٩، حيث تعتبرها الولايات المتحدة دولة نشيطة في مجال رعاية الإرهاب، بل وتوفر الأسلحة والتدريب للإرهابيين، وتقدم لهم ملاذًا آمنًا، وعلاقاتها الحميمة بحزب الله اللبنانى خير دليل يؤخذ عليها على المستوى الدولى. لاحظ أن ذلك لم يمنع الغرب من تمرير الاتفاق النووى الإيرانى، ورفع العقوبات عن «الدولة الإيرانية الداعمة للإرهاب»!.
وبالنظر إلى أن العلاقات ممتدة، في العلن والسر، ما بين كل من إيران وإسرائيل من جانب، ووفرة من «الدول المدنية الحديثة»، التي يمثلها الغرب، فإن الإرهاب بالفعل يُعد لاعبًا أساسيًا في العلاقات الدولية المعاصرة، وارتباطه وثيق بتجارة السلاح والمخدرات، بل وأخيرًا بات يرتبط بتجارة النفط أيضًا، لاحظ أن «دولًا مدنية حديثة» تورد السلاح لداعش، وتشترى منها النفط المنهوب من آبار الدول التي تحتل مواقع فيها. تركيا، تزعم أنها النموذج الحديث للدولة المسلمة، التي نجحت في التوفيق بين كونها مجتمعًا إسلاميًا، وامتلاكها قيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة»، ومن هنا كان سعيها الحثيث والمتواصل لنيل عضوية الاتحاد الأوروبى، والأخير تراه أدبيات سياسية معتبرة أنه النادي المسيحى الذي لا يمكن أن يقبل عضوية دولة إسلامية، بينما المُعلن في الخطاب السياسي الأوروبى الرافض لعضوية تركيا أن الأخيرة تعانى بشدة من مشكلات تعرقل خطواتها نحو بناء «دولة مدنية حديثة» بالفعل، فهى في سجل حقوق الإنسان عليها ملاحظات قوية، ارتفعت بالتأكيد جراء الأسلوب الذي واجه به أردوغان المحاولة الانقلابية الأخيرة التي برهنت على بقاء المجتمع التركى أسيرًا لممارسات لم تعد موجودة في «الدولة المدنية الحديثة»، التي لا تعرف بالطبع الانقلابات العسكرية سبيلًا إلى تداول السلطة. ومع ذلك يبدو الوفاق كبيرًا بين تركيا و«الدول المدنية الحديثة»، الغرب إجمالًا بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يتعلق بدعم مجموعات إرهابية تعمل على الأرض السورية، ومن ثم نقول بوضوح إن الإرهاب أداة سياسية فاعلة في النظام العالمى المعاصر، رغم وجوده في صدر أولويات المنظمة الأم باعتباره تحديًا إنسانيًا. في معالجة ومجابهة الإرهاب على أراضيها، تختلف «الدولة المدنية الحديثة» مع غيرها من الدول التي ما زالت تجتهد إلى ذلك سبيلًا، فبينما تتوحد خطوات مجتمعات «الدولة المدنية الحديثة» صوب ترسيخ قيمها ومبادئها، نجد أن الخطى تتعثر والسياسات تتشابك وتتعارض في المجتمعات الثانية. وفى ذلك تفسير لبطء الحركة، وتردد التوجهات، وزيادة حالة اللا يقين التي تعترى البعض في المجتمعات التي لم تنجح بعد في تثبيت أقدامها على الطريق الصحيح نحو بناء «دولة مدنية حديثة». فليس من شك أن ظاهرة الإرهاب تطال كل أرجاء المعمورة، لكنها تتغلغل وتستوطن في المجتمعات نتيجة عدم تماسك الخطاب المجتمعى، وتضارب المنطلقات الفكرية للنخبة، الأمر الذي يطرح تفاوتات كبيرة بين الرؤى والمواقف تجاه كل القضايا الأساسية التي تواجه المجتمع، وليس الإرهاب فحسب. ومصر الآن في تلك المنطقة المتوترة من الطريق إلى «الدولة المدنية الحديثة»، فما زالت نظرتنا إلى الإرهاب، وسُبل مجابهته، تعانى من التباين الواضح الحادث في قناعاتنا بقيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة»، ومن ثم يتوجه المجتمع إلى ساحات النزال مع الإرهاب، وهو منقسم على المستوى الفكرى. يشير إلى ذلك بجلاء شيوع مفهوم «الدولة المدنية الحديثة» في أدبياتنا السياسية، بينما الفكر الحزبى الدينى متوفر بيننا!، على عكس دستورنا الذي أعلى كثيرًا من شأن «الدولة المدنية الحديثة». ومن ثم لا عجب أن تعلو الحناجر من كل صوب، حتى من بين بعض المسئولين في الدولة، إزاء محاولة رئيس جامعة إلغاء خانة الديانة من مستندات وشهادات جامعته!، حتى يصل الأمر إلى حد التكفير من جانب أصحاب الفكر الحزبى الإسلامي!.
الإرهاب إذن، ظاهرة عالمية، ولاعب أساسى في العلاقات الدولية المعاصرة، ومن ثم الموقف منه لا يُعد من السمات الرئيسية بين المجتمعات التي نجحت بالفعل في بناء «دولة مدنية حديثة»، أو تلك التي تعلن نفسها صراحة دولة دينية، أو تلك التي ما زالت تزعم أنها على طريق بناء «الدولة المدنية الحديثة» تسير بجد واهتمام. فعلاقات تعاون وثيقة مع الإرهاب ومنظماته تربط بين أنظمة تمثل بالقطع «دولة مدنية حديثة»، ذلك أن العلاقات الدولية إنما ترتكز على المصالح المشتركة. لكن فيما يتعلق بالداخل، وكيفية حركة المجتمع صوب أهدافه المشروعة في حياة كريمة حرة، لا يجوز مطلقًا أن تتردد الخطى، ويتلعثم الخطاب المجتمعى في مواجهة المنطلقات الفكرية للإرهاب. وعليه فوحدة المواقف تجاه الإرهاب على المستوى الدولى غير مؤكدة، بينما وحدة المجتمع في مجابهة الإرهاب داخله، كمفهوم فكرى، شأن بالقطع لا يقبل إلا تماسكًا حقيقيًا، لا تردد فيه، ولا مهادنة، ولا وسطية فيه أيضًا. وإذا كانت قيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة» لم تمنع بعض «الدول المدنية الحديثة» من «ركوب» ظاهرة الإرهاب وصولًا إلى مصالحها، فإن جهودًا وطنية تستهدف بناء «الدولة المدنية الحديثة» لا يمكن أن تستقيم وتنتج أثرًا حقيقيًا ما لم تتوحد حول حتمية قيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة»، سواء ما تعلق منها بسيادة القانون، أو حقوق المواطنة، والحكم الرشيد. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.