الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

اقتصاد السوق وسيناريو صندوق النقد الدولي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا كانت اقتصاديات السوق أو الرأسمالية الغربية قد قامت على المشروع المملوك ملكية خاصة، فإن هذا المشروع الخاص قد قام بدوره على أساس سلسلة من الظروف التى لا يمكن استعادتها اليوم، وفى مقدمة تلك الظروف، ذلك التفوق التكنولوجى الذى لم يسبق له مثيل، والسيطرة على مصادر المواد الخام والطاقة فى جميع قارات العالم، والسيطرة على أسواق السلع والمال والتكنولوجيا فى العالم كله، واستغلال العمل الرخيص فى البلدان المتخلفة، ولقد صاحب ذلك تبذير فى الموارد وتدمير للبيئة، وانتشار للفقر، وتدهور فى القيم، وتزايد للبطالة، وزيادة فى الشعور بالقطيعة والغربة.
فإذا دعونا الدولة للتدخل لإعادة بناء المجتمع الذى دمرته السياسات الاقتصادية العفوية، ونظم التخلف والتبعية، وأن تركز على الاستثمارات المحلية وعينها على الاستثمارات الأجنبية، فإن الدولة عليها أن توفر البيئة الاقتصادية المشجعة على جذب الاستثمارات، وإلا فمن هو الرأسمالى الذى يمكن أن يقدم على إنشاء الصناعات الحديثة؟ 
لقد ثبت عمليًا أن اقتصاد السوق يعتريه كثير من العيوب، مما دفع بعض الدول الرأسمالية، مثل ألمانيا وبريطانيا، أن تكسرا بعض قواعده وتتدخل لحماية اقتصادياتهما. وفى هذا الإطار سارعت ألمانيا إبان كارثة الأزمة الاقتصادية عام ٢٠٠٨ التى كانت الولايات المتحدة السبب الرئيسى فيها بتقديم مشروع قانون يسمح للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بتأميم البنوك، وتبنى سياسة اقتصادية جديدة هى اقتصاد السوق الاجتماعية لحماية مواطنيها من غلاء الأسعار وجشع التجار والاحتكارات والفساد، وكلها سمات لاقتصاد السوق. 
وكانت التهمة التى واجهاتها الإدارة الأمريكية وقت الأزمة فى عهد بارك أوباما المرشح الديمقراطى آنذاك أنه يسعى إلى استيراد النمط الأوروبى الاشتراكى إلى أمريكا، من خلال منح الدولة الدور القائد والمسيطر على الحياة الاقتصادية، ويؤكدون ضرورة إعلان الحرب حتى تبقى أمريكا أمريكية وفوق الجميع، وحتى لا يتم تلويث نظامها السياسى والاقتصادى بالفيروسات والميكروبات الأوروبية التى تتيح للحكومات التدخل النشط والفعال فى الحياة الاقتصادية، بل تسمح لها بتوجيهها وقيادتها.
وفى هذا الإطار فإن الأزمة الاقتصادية ٢٠٠٨ التى سببتها الولايات المتحدة وامتد تأثيرها المدمر، وما زال إلى العالم سواء وصفها الأمريكيون بأنها أزمة مالية انفجرت من داخل الولايات المتحدة أو وصفها المفكرون الاقتصاديون بأنها أزمة اقتصادية، فهى بكل المقاييس أزمة عالمية.
إن نموذج الرأسمالية الأمريكية الذى روجت له الولايات المتحدة، وحاولت فرضه على مختلف البلاد النامية دون مراعاة للظروف الخاصة، وبغض النظر عن آثاره السلبية على التوازن والسلم الاجتماعى، وأيضا الاستقرار السياسى لهذه الدول يساعدها فى ذلك صندوق النقد الدولى والبنك الدولى اللذان يتبعان فى الحقيقة البيت الأبيض فى واشنطن، الأمر الذى أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية فى هذه الدول وزيادة معاناة مواطنيها وغضبهم وارتفاع معدل الفقر والبطالة والفوضى والجريمة والإرهاب. 
ويبدو أن هناك تحالفا ضمنيا غير مكتوب بين الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولى فى واشنطن وبين الجماعات الإرهابية بجميع ألوانها وأشكالها فى المنطقة العربية لتقويض دعائم استقرار العديد من الأقطار العربية وبالتحديد مصر. 
والسيناريو الذى تكرر ويتكرر، يتلخص فى الآتى: حكومات تستدين من المؤسسات المالية الدولية، أخص هنا صندوق النقد الدولى التابع فى الحقيقة للبيت الأبيض، بحجة أنها ستسخدم القروض فى مشاريع تنموية على أن تنجح هذه المشاريع ويتحقق عائد مجز يكفى لسداد فوائد هذه القروض للدائنين، وتحقق الإصلاح الاقتصادى الذى تنشده الدولة، وعند هذه النقطة يفرض صندوق النقد الدولى شروطه المجحفة والصعبة على الدولة الراغبة فى القرض. وأهم هذه الشروط أن تخفض الدولة المعنية من إنفاقها العام، وينطوى ذلك فى الغالب الأعم على إلغاء الدعم الذى تقدمه الدول للعديد من السلع والخدمات الأساسية، فإذا امتثلت الدولة لهذه الشروط لتحصل على القرض وتحصل فى نفس الوقت على شهادة حسن السير والسلوك، فإنها تثير سخط وغضب محدودى الدخل والفقراء من أبناء شعبها. ويأخذ الغضب والسخط شكل اضطرابات أو انتفاضات تستهدف الحكومة والمرافق العامة، وتضطر الحكومة إلى استخدام القوة للمحافظة على الأمن وحماية المرافق العامة والممتلكات الخاصة، وهنا يقع الصدام بين قوات الأمن والجيش وبين الفئات الغاضبة، وإذا لم تمتثل الحكومة لشروط صندوق النقد الدولى، فإنها قد ترضى الشرائح المتوسطة والفقيرة من أبناء شعبها ولكنها لن تحصل على القرض الذى تكون الحكومة فى مسيس الحاجة إليه لعلاج العجز فى الموازنة العامة للدولة ورفع الاحتياطى الاستراتيجى من العملة الأجنبية، ويترتب على هذا الوضع الاقتصادى الصعب اضطراب السوق، حيث تشح السلع وإن ظلت مدعومة، مما يعطى الفرصة لازدهار السوق السوداء التى يحصل منها الأغنياء والفاسدون والطابور الخامس على احتياجاتهم بأسعار عالية، أما الفقراء فعليهم الانتظار فى طوابير طويلة للحصول على احتياجاتهم بالأسعار المدعومة من المحلات والجمعيات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين أو قوافل القوات المسلحة التى تحاول أن تصل إلى المناطق الأكثر احتياجًا، هذا إذا وجدت هذه السلع، الأمر الذى يثير بدوره السخط والغضب، وإن كان بجرعات تدريجية يومية، إلى أن يتراكم السخط والغضب ويصلان إلى نقطة الانفجار عند أول حادث مستفز.
وخلاصة القول إن الدول النامية ومنها مصر تجد نفسها بين مطرقة صندوق النقد الدولى من ناحية، وسندان الغضب الشعبى من ناحية أخرى. وبذلك تكون الولايات المتحدة قد حققت مخططها فى إسقاط مصر، وبالتالى المنطقة العربية وإعادة تقسيمها من خلال سيناريو صندوق النقد الدولى التابع لها الذى يتكرر مرارًا وتكرارًا بشروطه المجحفة. 
وإذا اتجهنا إلى الداخل، فإن رأس المال الخاص يعجز عن اقتحام المواقع الكفيلة بإطلاق التنمية، نتيجة لاضطراب السوق المحلية، وعدم قدرة الدولة على ضبط وتنظيم وإدارة هذه السوق، بحجة أننا مرتبطون بسياسات اقتصاد السوق، وهذا كلام فارغ خصوصًا فى أوقات الأزمات الاقتصادية التى سببتها الولايات المتحدة والغرب، وقد فعلت ذلك ألمانيا وبريطانيا إبان الأزمة الاقتصادية ٢٠٠٨ كما سبق الإشارة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك أخطاء ترتكبها الدولة نتيجة التخلف فى نظامها الضريبى، حيث تعجز الدولة عن استخدام الضريبة كأداء فعال لتعبئة ما يتحقق من فائض لدى الطبقات المالكة، ومن جانب آخر يعجز رأس المال الأجنبى عن إجراء التنمية، وبخاصة التصنيع، فهو لا يستثمر إلا بوصفه رأسمالا احتكاريا يحقق أرباحا مرتفعة وسريعة تصدر إلى الخارج بدلا من إعادة استثمارها محليًا، وهو لا يستثمر إلا فى صناعات لا تنافس إنتاجات موطنه الأصلى، وعندئذ فهو يفضل مجالات من التصنيع تضمن تبعية الاقتصاد المتخلف، وتكرس التخلف فيه.
هنا يأتى دور الدولة فى وضع السياسات والقوانين التى تمنع مثل هذه الأمور، وتوجه الاستثمارات إلى الطريق الصحيح الواضح الذى يحقق المنفعة المتبادلة بين الدولة والمستثمر الأجنبى والمحلى، خصوصًا إذا وجد المستثمر فرص استثمار جاذبة ومجزية ومربحة له كما هى متوفرة الآن فى مصر، وتأسيسًا على ذلك فإننى أود أن أشير إلى نتائج إحدى الدراسات الاقتصادية الهامة عن الاستثمارات: أن تحقيق معدل نمو يتراوح بين ٤ و٦٪ يتطلب معدلا متوسطا للاستثمار يبلغ ٢٠٪ من الدخل القومى، أما معدل النمو من ٧ إلى ٨٪ فيحتاج إلى معدل استثمار يبلغ ٣٠٪، وأما إذا كان المطلوب هو تحقيق معدل للنمو ١٠٪، فإن معدل الاستثمار سوف يتراوح بين ٣٥ و٤٠٪ من الدخل القومى، فأين هى القوة الاجتماعية القادرة على تحقيق المعدلات المتوسطة؟ وهل إمكانيات الحكومة الحالية قادرة؟ الإجابة لا. إلا إذا تدخلت باعتبارها السلطة المسئولة عن المجتمع بأسره ليصبح التراكم العام هو القاعدة الاستراتيجية الواقعية لتحقيق التنمية. 
وتأسيسًا على ذلك، يأتى تحرك الدولة السريع الواعى وغير التقليدى، ودورها الضرورى الحاسم فى وضع السياسات والقوانين التى تواجه الكارثة الاقتصادية التى تمر بالمجتمع المصرى، وتكسر الحصار الأمريكى الغربى الخانق على مصر، كما أن هناك بعض القرارات والإجراءات الإدارية التى يمكن أن تكون أشد فعالية وفائدة من القوانين ستنعش خزينة الدولة وتعطى دفعة قوية للاقتصاد القومى، وتقوى موقف مصر التفاوضى مع صندوق النقد الدولى، وفى نفس الوقت ستجد الترحيب والرضى من معظم فئات المجتمع، فما هذه القرارات؟ هذا هو موضوع المقال المقبل إن شاء الرحمن الرحيم.