الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الانقلاب في فكر فتح الله كولن

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الداعية الإسلامي محمد فتح الله كولن، من أهم الدعاة المعاصرين في تركيا، اهتم في حركته التي سماها "الخدمة" إيمانًا بأهمية الخدمة كقيمة، ومنها كانت خدمة الوطن والجيران والأصدقاء وخدمة الذات في سياق الارتقاء بها عن الحياة المادية، وهو ما انعكس على المجتمع التركي الذي نجح في بناء حضارة بسواعد مفكريه قبل ساسته.
عبّر "كولن" عن الخدمة بقوله: إنها الفهم الصحيح للإسلام، فلن يحدث التقدم إلا من خلال خدمة أبناء الوطن، فالخدمة صورة رفيعة من صور التمدن، وهي أم القيم التي حث الإسلام عليها وغابت عن المسلمين في ذات الوقت.
نجح فتح الله كولن في إحداث نقلة روحية ومادية في تركيا، فلم ينشغل مثل كل الساسة عن هدفه، ولم يتورط بإخفاء وجهه الحقيقي وإنما سعى حثيثًا بإظهار ما خفي على النّاس من العلوم الإسلامية من خلال قراءات متجددة، فقدم خطابًا إسلاميًا يحث على العمل ويمقت الكراهية والبغض ويُحرض على حب الوطن، فتواصل مع كل الحضارات القديمة والحديثة سعيًا وراء امتلاك الصفات المثلى للإنسان في إطاره القيمي.
من أفكار "كولن" التي انقلب فيها على المجتمع وأغلب ما صدّره علماء الدين، أن الجهاد هو بذل الجهد من أجل الوصول للذات والله، طالما نجح الإنسان في الوصول إليها فقد جاهد نفسه وبلغ الجهاد الحقيقي الأكبر، فما بقى إلا الجهاد الأصغر، فعرّفه بحمل الناس على الارتقاء بذواتهم للوصول إلى ربهم دون إجبار، فقدم مفهومًا طالما بحث عنه المسلمون لمفاهيم الإسلام العامة والخاصة وخاصة الجهاد.
يرى "كولن" أن البطولة الحقيقية ليست في الموت وإنما في بذل الجهد من أجل خدمة الآخرين لتحقيق الحياة لا غيرها، ويرى أن خدمة الوطن من أهم ما يمكن أن يقدمه الإنسان، وخدمة الإنسانية تكون من خلال العلوم والمعارف أكثر أهمية، فمعيار إسلامك يتحدد بمدى استفادة الناس منك، وبالتالي يكون المجاهد هو ما يبذل نفسه للحياة وليس للموت، يخدم البشرية ويساعدهم على الحياة لا أن يكون سببًا في إنهاء حياتهم التي وهبها الله لهم.
أحدث العالم الصوفي نقلة حقيقية في الفكر الإسلامي والإنساني معًا، فهو أحد أهم العلماء المسلمين الذين استفادوا من فلسفات الغرب القديم والحديث، معتبرًا أن الحضارة واحدة وبناء الإنسان يستلزم الاستفادة من كل سياقات العلم، أمرًا وتكليفًا، فنجح في طرح ما عجز غيره عن فهمه وإدراكه معبرًا عن حقيقة الإسلام التي غابت عن أفهام المسلمين قرابة ثمانية عشر قرنًا من الزمان.
فكتابات الرجل كلها تصب في محاربة الكراهية التي زرعها غيره من علماء المسلمين تجاه الديانات والفلسفات الأخرى، معتبرًا إياها مفيدة ومكملة لحقيقة الإنسان، فنجح في تحقيق فهم عميق لحقيقة الدين، فيرى أن الخدمة وخدمة الوطن على وجه التحديد صورة رفيعة من صور التمدن الحضاري، ويرى أن خدمة الآخرين بالمفهوم الواسع للمعنى الدلالي هي أم القيم التي حث الإسلام عليها.
يسعى "كولن" باختصار لهندسة حياة الإنسان بلا تطرف، فهو يرى أن التطرف هو أزمته سواء في فهم النصوص الدينية أو في إعلاء القيم المادية على القيم الروحية، فالتمدن الحقيقي والحضاري يكون من خلال إعلاء قيم الروح التي لا تنفصل عن المادة.
من الطبيعي أن يكون لـ"كولن" أعداء، كما أن المجتمع مليء بأعداء الحياة، يُحاربون كل جميل ويُجملون كل قبيح، تُحركهم أهداف سياسية تارة ومادية تارة أخرى، وقد يكون هواهم السياسي ركيزة أساسية للعداوة، اليوم يصادق مبادئ الرجل وغدًا عداوة وخصام وفجور، وحقيقة هذه النوعية أن مشكلتها قيمية في المقام الأول وترتبط بمدى إيمانها بالأفكار والغايات واستغلالها لهذه القيم من أجل تحقيق مآرب شخصية وفق رؤى محدودة.
الانقلاب الحقيقي الذي حققه "كولن" ليس على مستوى الفكر فقط وإنما على مستوى الممارسة، فقد نجح في تكريس الإرساء المعرفي وتوعية ثقافة النقد، وهو ما غاب عن دعاة العصر، فقدم ثقافة وحضارة مختلفة عما كانت تعيش بداخل الناس، فأحدث نهضة حقيقية على مستوى الفكر ومارسها حواريوه في كافة أنحاء العالم.
أدرك "كولن" أن الحضارة الإنسانية ليست واحدة وأنها متغيرة، فقدم مثالًا حقيقيًا على التجديد، ومن قبل ذلك الانفتاح على هذه الثقافات، مستسلمًا لفرضية النقد الذاتي حتى انطلق لتعريف جديد غاب عن السلفيين ومَن صدّروا أنفسهم أنهم مجددون للدين والعصر، وهنا كانت الخصومة والانقلاب في ذات الوقت.
خاصمه السياسيون عندما وجدوا فيه كاريزما الأفكار التي حركت مئات الآلاف نحو العمل، فبات بوصلة الفكر والعمل، فأطلقوا عليه الكيان الموازي، وناصبه العاملون في الحقل الإسلامي العداء، تارة يتهمونه بأنه صوفي يهتم بالأخلاق والقيم الروحية، وتارة يتهمونه بأنه غير مدرك لحقيقة الإسلام، ولكنه حقيقة نجح في أن يكسب الإنسان بعيدًا عن دينه وثقافته وحضارته، فنجح فيما سعى إليه من إحداث انقلاب فكرى بُغية تحقيق الرقي الإنساني المنشود.