الإثنين 17 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الشعب المجني عليه

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الناس هم السبب.. كنت أظن أن البعض فقط يرى ذلك، ولكن للأسف اكتشفت أن غالبية المثقفين والمسئولين وأصحاب المال فى مصر ينسبون كل الأخطاء والخطايا فى البلد للشعب.. من الفوضى والعشوائية والإهمال والفساد والكسل وعدم النظافة إلى اختيار أعضاء البرلمان.. الشعب هو السبب والناس لا يريدون الأفضل.. فى الحقيقة أن هذه الآراء تستفزنى بشدة وتثير غضبى بل واشمئزازى.. صحيح أن كل فرد حر فى رأيه، ولكنها عندما تتكرر كثيرًا يشعرنى ذلك بالخطر، وخصوصًا إذا تصورت للحظة أن هذا هو رأى الحاكم.. فكيف يحكم شعبًا يرى أنه هو سبب ما آل إليه الوطن من بلاء.. وأنه شعب كسول ويفضل القبح ومن أسو شعوب الأرض..؟ 
كيف يفكر هؤلاء؟! الشعب ليس له أى دخل بما وصل إليه حال مصر من سواد فى كل شيء، لأن الشعوب دائمًا مفعول بها وليست الفاعل.. مجرد رد فعل لما يفعله الحكام والأنظمة، ومصر أكبر مثال على ذلك.. عندما كان الحكام يهتمون بالثقافة، والنظام، والفن، ويشعرون بالفقير، ويخلصون للوطن، كان الشعب راقيًا متحضرًا ومتعاونًا..
وعندما أصبح الحكام فاسدين وظالمين ومستبدين.. لا يعنيهم الشعب ولا الوطن بقدر ما تعنيهم مصالحهم الخاصة، والحفاظ على كرسى الحكم أطول فترة ممكنة، أصبح الشعب بالتدرج على ما هو عليه الآن، انحدر ذوقه، وساءت أخلاقه، وأصبح جاهلًا، وفقيرًا، ومريضًا، بفعل فاعل، مع سبق الإصرار والترصد.. فقد ارتكبت جريمة فى حق الشعب المصرى، فهو مجنى عليه إذن وليس جانيًا..
مصر فى عهد «الملك فاروق» والزعيم الراحل «جمال عبد الناصر» كانت تسبق الدول الكبرى فى التحضر، والرقى، والتعليم، والشوارع النظيفة.. لأنهما كانا حاكمين يهتمان بالبلد، وناسها فى المقام الأول، وكانت الجامعات والمدارس تقدم تعليمًا حقيقيًا يُعلى من شأن الفرد.. كان الناس يشعرون بأن البلد بلدهم وليست بلد الحاكم وحاشيته، كان المجتمع راقيًا يحافظ على عادات وتقاليد المجتمع، وكان الفن والثقافة من أولويات حياتهم.. يحترمون المرأة، فقد أنجب المجتمع حين ذاك نساء مفكرات وأديبات وعلماء، وفنانات نفتخر بهن جميعًا حتى الآن.. حتى اللغة العامية المصرية كانت مختلفة عما نسمعه حاليًا، وذوق المصريين كان من الصعب أن يرضيه أحد.. ولذلك فإننا الآن ننظر إلى فترة الخمسينيات والستينيات بحسرة شديدة.. ويكفى أن نقرأ رواية مثل «النظارة السوداء» للأديب إحسان عبدالقدوس أو نشاهد الفيلم الذى يحمل نفس الاسم وقام ببطولته عمالقة هذا الزمان «أحمد مظهر ونادية لطفي» حتى نشعر بالفرق، ونعرف ماذا كنا؟ وكيف أصبحنا؟
وفى هذه الرواية نرى البطل وهو مثال لرجل جاد وناجح ومتحفظ.. عندما قابل فتاة رأى أنها منحلّة ومبتذلة ولم تعجبه أخلاقها، عالج ذلك عن طريق الذهاب بها إلى زيارة عامل فقير ضعيف مصابا بعاهة مستديمة، وجعلها تعيش داخل هذه الحالة حتى تشعر بالمسئولية، وأن الحياة بها ما هو أهم وأغلى مما تفعله فى حياتها اليومية، وما تعرفه من نماذج بشرية فى مجتمعها.. كما ذهب بها إلى المتاحف، والمعارض الفنية والتشكيلية، وندوات الشعر.. جعلها تقرأ وتهتم بالكتب، وقد أصبحت المعرفة همها الأول.. وكانت النتيجة أن الفتاة تغيرت تمامًا للأفضل، وأصبحت إنسانة لديها قيم ومبادئ وتشعر بالمسئولية تجاه من حولها..
أصبحت تقوم بهذه الأشياء من دونه برغبة ودافع من داخلها، عرف النور طريقه إلى قلبها وعقلها، وابتعدت عن اللهو والعبث، وكل ما كان يرفضه فى حياتها السابقة، أصبحت هى أيضا ترفضه.. تمردت وقامت بثورة على نفسها، وأصبحت إنسانة أخرى صالحة.. قرأتُ هذه الرواية وأنا فى الجامعة، وأثرت فى نفسي كثيرًا.. وتذكرتها هذه الأيام وأنا أرى «داعش» و«الإخوان» وغيرهما، فلم يصلح حالها بإجبارها علي ارتداء الحجاب وبالذهاب إلى الجوامع والمساجد والجلوس فى حلقات الدروس الدينية، وجعلها تصلى بالإكراه.. هى من نفسها قد تصلى وتلتزم دينيًا، ولكن لن تصبح متطرفة أو متعصبة.. فقد نجح الرجل فى جعلها شخصية سوية أولا تفكر وتتأمل.. ترفض وتقبل.. تشعر بالمسئولية وتساعد الآخرين دون النظر إلى ديانتهم أو صلاتهم أو إلى أى شيء.. ووضعها على الطريق الصحيح عن طريق القراءة والفكر والثقافة والتأمل.. 
وكان هذا هو حال المجتمع المصرى فى الخمسينيات والستينيات وما قبلهما من سنوات وأزمنة.. ولذلك كان المجتمع متحضرًا وراقيًا لا يفرق بين أبنائه يعيش فيه الجميع على اختلافاتهم.. 
وعندما جاء الرئيس الراحل «السادات»، ومن بعده المخلوع «حسنى مبارك» انحدر الذوق المصرى، ومعه أخلاق المصريين وقيمهم، ومبادئهم وحتى العادات والتقاليد أصبحت بالية، وعرفت الفوضى والعشوائية طريقهما إلى أرض الوطن.. خرجت جماعات ضالة ومضللة تدعو الناس إلى الحجاب واللحية والجلباب، والصلاة بالإكراه.. جعلوا مصر إسلامية بموجب المادة الثانية من الدستور، وبالتالى لا يحق لغير المسلمين العيش فيها، عرفت الفتنة طريقها إلى الوطن الذى كان متماسكًا وأصبح تدينه ظاهريًا شكليًا لا مكان له فى القلب.. وكل ذلك على مسمع ومرأى من حكام رأوا أن مصلحتهم فى خروج طيور الظلام التى تشهر السيف والنيران فى وجه كل ما يخالفهم الرأى.. عقدوا معهم الصفقات حتى يستتب لهم أمر الحكم، ويستقر لهم الكرسى سنوات وسنوات.. وما أعقب ذلك من سرقة وفساد ورشوة وتزوير وتشويه لكل القيم والمبادئ والأخلاق، وما لحق من تشويه لكل من تمسك بهم.. انحدر التعليم، وضاعت الصحة، وأصبح كل ما يرتبط بالحكومة من مدارس، ومصانع، ومستشفيات، ومحال تجارية، وشخصيات سيئا ومشوها بل إنه من السيئ إلى الأسوء دائمًا.. وفى النهاية يقولون الشعب هو السبب..
لا أعرف عن أى شعب يتحدثون.. الشعب المقهور.. المسروق.. المغلوب على أمره.. الشعب الذى قاطع الانتخابات الأخيرة للبرلمان على مرأى ومسمع من العالم كله، يحمله البعض مسئولية اختيار الأعضاء الذين يشعرون بالحرج من وجودهم بالبرلمان.. الشعب الذى يشاهد ويستمع إلى إعلاميين سفهاء سطحيين يواصلون الردح يوميًا على الشاشات..
يحملون الشعب مسئولية القمامة التى توجد فى الشوارع.. لو أن الشعب وجد الجمال، والأخلاق، والفضل والمثل العليا لسلك هذا الطريق لكن القبح والتدنى فرضا عليه ولم يختارهما.. لو وجد الشعب النظام يطبق على الجميع والقانون يفرض على الكبير قبل الصغير لأصبح منظمًا.. ملتزمًا.. لو وجد الحق لتمسك به، ولكن الباطل هو الكلمة العليا على مر الأعوام.