رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

انظر خلفك

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«الدنيا مش سودة»، بمعنى آخر يجب ألا تكون سودة، فمن غير المنطقى أن يبدو هذا البلد صاحب التجارب الكبيرة «أبيض يا ورد»، «لايص ومتخبط وغرقان في الوحل» بدون رؤية واضحة لحل المشكلات التي تحفه من كل جانب، وما من شك أن بمصر عقولا تفكر وتخطط، وناس تعمل بإخلاص وتنتج بقدر الإمكانيات المتاحة، لكن غياب التنسيق يضرب كل ذلك في مقتل، و«كأنك يا أبوزيد لا رحت ولا جيت».
وعندما نبحث عن السبب الرئيسى سوف نجد أن غياب التنسيق هو «أُس الفساد» لأنه ببساطة هو المفتاح السحرى لاختراق «حصانة الضمير الجمعي»، إذ يكفى أن يشعر كل ذى ضمير بتخبط النظام فيجمد كل نشاطاته وتفتر همته تماما، وفى ظل ما يسمح به النظام من تحايل على القانون، كل قانون، يتنامى الفساد ويتفشى، وبناء عليه ينصرف كل جاد عن جديته، ويدخل في حالة إحباط ممتدة ويرى «الدنيا سودة».
والحقيقة أن «الدنيا مش سودة»، ولكن كثيرًا من العقول التي تدير لا تقرأ ولا تنظر إلى التجارب السابقة.. فقط «تركب الحنطور وتتحنطر»، مع أن هناك قاعدة بسيطة في الإدارة تقول «انظر إلى الخلف قبل أن تنطلق للأمام»، و«إصلاح الداخل كفيل بإصلاح كل شيء»، وفى إدارة أي بلد هناك أولويات معتمدة، وحقوق أساسية للإنسان (الصحة والتعليم والمأوى والغذاء والأمن).
وفى ملف الصحة مثلا لو نظرت الحكومة إلى الخلف، وعملت على استكمال ما بدأ في العهود السابقة، لكفتنا شر المرض والغرق والذي منه، فمنذ أكثر من ٧٠ عامًا أنشأت مصلحة الصحة العمومية أول قانون يهتم بتكامل العملية الصحية في الريف المصري، قانون «تحسين الصحة القروية»، ويشمل برنامجًا صحيا متكاملا قائما على أسس علمية تتمثل في التوعية الصحية والفحص البيئى لجميع قرى مصر، مع إقرار تكامل البرامج الصحية التي يتم تنفيذها بالريف بتوفير قروض ميسرة للفلاحين لتحسين مساكنهم من الناحية الصحية، وقد تبنت منظمة الصحة العالمية هذا المبدأ في مؤتمر كبير- آنذاك- حدد محتوى الرعاية الصحية الأولىة في برنامج متكامل، يشمل الوقاية من الأمراض المعدية وتحسين البيئة والعلاج على مستوى الممارس العام والتثقيف الصحي، ثم أضيفت بعد ذلك برامج تنظيم الأسرة.
كان القانون الذي أنشئ في عام ١٩٤٢م وتم تعديله سنة ١٩٤٦، يستهدف إنشاء ٧٥٠ مجموعة صحية، تم تنفيذ ٢٢٢ مجموعة منها حتى عام ١٩٥٢م، مما أسهم في الحد من انتشار الأمراض المعوية والوبائية بمساعدة منظمة الصحة العالمية، ثم شهد عقد الستينيات تطورًا ملحوظا في ظل التوجه الاجتماعى آنذاك وما قرره الدستور من حق كل مواطن في الرعاية الصحية، إذ اعتمد آليات جديدة منها «التوسع في البنية التحتية الأساسية للخدمات الصحية، وما استتبعها من تنمية القوى البشرية لتخريج الأعداد اللازمة من فئات العمل الصحي، ومجانية الخدمة، وتحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتى من الدواء، ومن ثم التوسع في صناعة الدواء».
وشهد النصف الأخير من القرن الماضى تطورات في مجال الإنشاءات، لكن كان هناك قصور بارز يتمثل في عدم وجود خطة قومية تربط الجهات المنتجة للقوى البشرية العاملة في القطاع الصحى ومؤسسات الخدمة الصحية، فالتنمية الصحية ليست مسئولية القطاع الصحى بمفرده، بصفته مسئولا عن العلاج والوقاية، إنما يشاركه فيها قطاعات مثل التعليم والإعلام والزراعة والرى والبيئة والصناعة والمرافق (المياه والصرف الصحي).
وفى عام ١٩٩٩م أنجزت «المجالس القومية المتخصصة»، رؤية متكاملة لملف الصحة بعنوان «إستراتيجية التنمية الصحية في الريف»، رصدت فيه كل ما تم وما يمكن عمله في ٤٤٤٠ قرية و١٢ ألف عزبة، هي عدد قرى وعزب مصر بحسب إحصائية ١٩٩٦م، ووضعت ذلك على مكتب الرئيس حسنى مبارك آنذاك، لكن الرجل كما يعرف عنه لا يقرأ، «ثقافته سماعي»، ولأن «السمع بعافية حبتين» ضاع كل هذا الجهد الذي بذل فيه علماء مصر جل وقتهم، وكانت من أبرز جوانب القصور التي رصدتها «المجالس» هو أن وزارة الصحة في الأعوام الأخيرة (العقدين الأخيرين من حكم مبارك)، تبنت مفهوما تتبناه الجهات المانحة للمعونات، وتركت المبدأ الذي تتبناه منظمة الصحة العالمية في تكامل البرامج والرعاية الصحية الأولىة، مما أوجد تشتتا له تأثير سلبى على الخدمات والوحدات الصحية المقدمة وبالتالى على صحة المجتمع والمواطنين. ورغم إنجازات وزارة الصحة خلال هذه الفترة من إنشاءات وخلافه، إلا أنها لم تستطع وضع إستراتيجيات أو مداخل لتحسين المستوى الصحى للمجتمع ككل.
وبنظرة لما يحدث في إدارة الملفات الأساسية حاليا، وعلى رأسها ملف الصحة الآن نجد أن كثيرًا من مسئولينا ليست لديهم القدرة والوعى على استيعاب الماضي، لذا يكررون أخطاءه بحذافيرها، والمضحك أنهم لا يستفيدون من محاسنه، وكأنهم يدفعون الجميع إلى تقديسه.
* اعتمدت في هذا المقال على بحث (إستراتيجية التنمية الصحية في الريف - المجالس القومية المتخصصة ١٩٩٩م)، ودراسة (آفاق سياسة التنمية الصحية في مصر - د. أحمد نجاتى محمد - الأهرام ٢٦ فبراير ٢٠٠١).